من بلاك ووتر الأمريكية في العراق إلى فاغنر الروسية في أوكرانيا، تراجع دور الجيوش وتقدمت الشركات الأمنية الخاصة الصفوف، فما تداعيات "خصخصة الحروب" لصالح المرتزقة؟
وعلى الرغم من أن فكرة المرتزقة وتوظيفهم لأغراض عسكرية ترجع إلى عصور غابرة وليست اختراعاً حديثاً، إلا أن الانتصارات التي تحققها مجموعات فاغنر في أوكرانيا، وآخرها باخموت، تكشف عن مدى تطور مهام وأعداد الشركات الأمنية، التي تحول بعضها إلى جيوش صغيرة تقاتل في أكثر من بلد.
كانت معركة باخموت هي الأطول والأكثر دموية منذ بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، وهو الهجوم الذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية خاصة"، بينما يصفه الغرب بأنه "غزو عدواني غير مبرر"، وتحقق الانتصار الروسي في تلك المعركة بأيدي مجموعة فاغنر على حساب الجيش الأوكراني المدعوم من الغرب.
متى بدأت مجموعات المرتزقة وكيف تطورت؟
كانت الشركات الأمنية قد قفزت مجدداً إلى واجهة الأحداث العالمية بعد سيطرة شركة فاغنر الروسية على مدينة باخموت الأوكرانية، في مواجهة جيش نظامي، ما يدعو إلى التساؤل حول الدور الذي تلعبه هذه الشركات، وما إذا كان العالم يتجه نحو خصخصة الحروب، وتراجع مهام الجيوش في النزاعات الدولية، وانعكاسات ذلك على حقوق الإنسان والمساءلة القانونية، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
الشركات الأمنية والعسكرية، وإن ظهرت لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن جذورها قديمة ومرتبطة بعصابات المرتزقة، التي يدفع لها المال مقابل القيام بعمليات عسكرية مثل الاغتيالات وقطع الطرق وحماية القوافل والشخصيات المهمة، والمشاركة في الحروب.
فعدة دول وإمبراطوريات عبر التاريخ جندت مرتزقة، بل كانت لها فرق عسكرية من المرتزقة على غرار الإمبراطورية الرومانية، التي كان أحد أسباب سقوطها اعتمادها بشكل أكبر على فرق المرتزقة وتقاعس شبابها عن الانخراط في الجيش والمشاركة في القتال.
ولا تزال فرنسا تحتفظ حتى اليوم بالفيلق الأجنبي (اللفيف الأجنبي)، الذي تأسس في عام 1831، من عناصر في غالبيتها أجنبية بهدف التوسع في استعمار الجزائر ومنها إلى مختلف أرجاء القارة الإفريقية، نتيجة لمنع الأجانب من الخدمة في الجيش الفرنسي بعد ثورة يوليو/تموز 1830.
لكن صفة "الارتزاق"، ذات المدلول الشنيع، يتم إعادة تجميلها تحت مسميات جديدة ذات طبيعة تجارية مقابل خدمات أمنية أو عسكرية، مازال الجدل قائماً بشأن مدى شرعيتها ومشروعيتها.
ورغم أن "الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم"، الموقعة في 1990، تجرم ظاهرة المرتزقة، إلا أن عدة دول قننت إنشاء شركات أمنية وعسكرية على غرار الولايات المتحدة، بينما سمحت أخرى بنشاطها رغم أن القانون يجرمها، مثل وضعية شركة فاغنر في روسيا.
وكانت شركة بلاك ووتر الأمنية واحدة من أكثر تلك الشركات شهرة خلال الغزو الأمريكي للعراق، بعد أن ارتبط وجودها ببعض أبشع المجازر التي راح ضحيتها عشرات المدنيين العراقيين، وأثارت جدلاً ممتداً، عاد مرة أخرى إلى الواجهة في أواخر أيام رئاسة دونالد ترامب بعد أن أصدر عفواً رئاسياً عن 4 أفراد من بلاك ووتر أدينوا بارتكاب مذبحة في بغداد عام 2007، خلفت أكثر من 10 قتلى من المدنيين العراقيين، وأثارت ضجة دولية إزاء الاستعانة بحراس أمن يعملون في شركات خاصة في منطقة حرب.
لماذا توظف الدول شركات خاصة في المجال العسكري؟
يرجع ظهور أول شركة أمنية في العالم إلى عام 1946 في الولايات المتحدة الأمريكية، وفق دراسة للدكتور بجامعة الجزائر ياسين طالب، أسسها محاربون قدامى، وأطلقوا عليها اسم داين كورب "DynCorp".
وفي الستينيات، أسس العقيد البريطاني ديفيد ستيرلينغ، شركة أمنية تحت اسم "ووتش غارد إنترناشيونال"، والتي قدّمت خدماتها لبعض دول الخليج، وفق الأكاديمي الجزائري.
ولعل أشهر مثال على دور المرتزقة في النصف الثاني من القرن العشرين، ما قام به المرتزق الفرنسي بوب دينار (واسمه الحقيقي جيلبير بورجيو)، الذي عمل لحساب عدة دول سواء لفرنسا وبلجيكا خلال فترة الاستعمار لدول إفريقية، وللاستخبارات الأمريكية والبريطانية خلال الحرب الباردة، وخدم في إيران زمن الشاه، وفي اليمن في عهد الإمامية.
وفي الثمانينيات والتسعينيات قاد بوب دينار (2007-1929)، مجموعة من المرتزقة للإطاحة بالحكم في بنين وجزر القمر، ونجح في إحدى المحاولات في إيصال أحمد عبد الله عبد الرحمن، إلى رئاسة جزر القمر في انقلاب عسكري، وبفضل هذا النجاح عين قائداً للحرس الوطني.
لكن المجموعة التي كان يقودها بوب دينار من المرتزقة، والتي كانت تعرض خدماتها الأمنية والعسكرية على من يطلبها، لم يكن لها هيكل قانوني، ولم تعترف بها أي حكومة بشكل رسمي.
غير أن شهرة الشركات الأمنية برزت بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، ودورها في حماية شخصيات ومنشآت مدنية وعسكرية مقابل عقود بمليارات الدولارات دفعتها الإدارة الأمريكية لهذه الشركات على غرار "بلاك ووتر".
إلا أن سمعة بلاك ووتر، تشوهت بعد ارتكابها لمجازر وتجاوزات في حق مدنيين عزل، على غرار مجزرة النسور في بغداد عام 2007، التي وصفت بأنها "حفلة قتل"، سقط خلالها 17 مدنياً.
وعادت المذبحة إلى تصدر المشهد مرة أخرى بعد أكثر من 13 عاماً، في أعقاب قرارات العفو الرئاسي التي أصدرها ترامب في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، والتي أثارت انتقادات عنيفة لتصرفات الرئيس السابق، وصفت بأنها استغلال صارخ للسلطات التي يمنحها له الدستور، ونشرت شبكة CNN تحليلاً وصفت فيه قرارات العفو بأنها رشاوى سياسية "تدهس مبدأ العدالة" استفاد منها "مجرمو حرب" تابعون لشركة بلاك ووتر التي أسسها إيريك برينس أحد داعمي الرئيس السابق.
إحدى الأسباب الرئيسية التي تلجأ فيها بعض الدول والجيوش إلى الشركات الأمنية والعسكرية أنها لا تحتكم لضوابط القانون الدولي، ويمكن التبرؤ منها في حال تورطت في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية دون أن يلقى اللوم على الجيوش النظامية.
كما أن الشركات الأمنية والعسكرية يقودها عادة ضباط محترفون خارج الخدمة، ويتميزون بكفاءة عالية في أداء المهام الموكلة لهم، ومتحررون من القيود البيروقراطية التي تميز الجيوش النظامية، ويمكنهم العمل خارج بلدانهم.
ويعتمدون نسقاً عسكرياً مرناً ومتحركاً يشبه حرب العصابات، على عكس الجيوش النظامية التي تميل إلى السيطرة على الأرض والتمترس حولها والدفاع عنها خلف قواعد ونقاط تمركز ثابتة، يسهل تحديدها واستهدافها.
غير أن ما يميز عمل الشركات الأمنية عن المرتزقة بالمفهوم التقليدي، أنهم يعملون بالتنسيق مع حكومات وجيوش نظامية أو مع مجموعات مسلحة وميليشيات تتوافق مع مصالح بلدانهم.
لكن من الانتقادات التي توجه إلى الشركات الأمنية أن ولاء عناصرها يكون لصاحب الشركة، وليس إلى الدولة، ولا يحكمهم قانون عسكري، ولا تدرج في الرتب، ما يجعل السيطرة عليهم أمراً ليس سهلاً، ويبدون أكثر شراسة وعنفا من أجل تحقيق أهدافهم، في غياب قانون صريح يردعهم.
هل نتجه نحو "خصخصة الحروب"؟
أحياناً تكون لعناصر هذه الشركات حصانة في البلدان التي تستعين بخدماتهم، ما يجعلهم أكثر جرأة في انتهاك حقوق الإنسان، واستخدام العنف حتى ضد المدنيين وبشكل عشوائي، مثلما حدث في بلدة مورا بمالي، عندما قتل مرتزقة فاغنر ما بين 200 إلى 600 رجل وصبي، وفق إعلام غربي نقلاً عن شهود عيان. ومثل هذه الجرائم يمكن متابعة مرتكبيها دون أن يتحمل الجيش الروسي مسؤوليتها.
وحتى عندما قصف الجيش الأمريكي عناصر فاغنر في سوريا بعد استهداف أحد مواقعه في البلاد، وقتل العشرات منهم، تبرأت روسيا منهم، وإلا كانت ستجبر على الرد، وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة قد تتطور إلى حرب نووية.
ناهيك عن أن الخسائر البشرية في صفوف الجيش من شأنها إحباط معنويات الشعب، وقد يدفع عائلات الجنود القتلى أو في ساحات المعارك للمطالبة بإنهاء الحرب بأي ثمن، مثلما حدث مع الأمريكيين في حرب فيتنام.
لكن اللجوء إلى الشركات الأمنية والمرتزقة الأجانب والمساجين يخفف من الآثار النفسية للحرب على الرأي العام، ويقلّص من الخسائر الرسمية للجنود، حتى وإن كانت كبيرة في صفوف عناصر الشركات الأمنية، والتي لا يتم الإعلان عنها، على غرار ما حدث في سنوات الغزو الأمريكي للعراق.
بالإضافة إلى ذلك، هناك تصاعد لافت في الأدوار التي تؤديها الشركات الأمنية والعسكرية خاصة في فترات النزاعات والحروب، وهو ما يجعلها جهة منافسة بل موازية للجيوش النظامية، إن لم تكن الجهة الفاعلة والحيوية في الحروب.
هذا الوضع من شأنه أن يحوّل الجيوش النظامية إلى هيئات بيروقراطية يقتصر دورها على توفير الدعم اللوجيستي للشركات الخاصة مثل المؤن والأسلحة والذخائر وتوفير الأموال والرواتب.
ولم تصل بعد الشركات الخاصة لمرحلة امتلاك سلاح جوي وبحري متكامل، لكن هذه المسائل في تطور، فشركة فاغنر في ليبيا تمتلك طائرات مسيرة، ومنظومات للدفاع الجوي من نوع بانتسير، بل تم إسقاط مروحية حربية وعلى متنها عناصر من فاغنر وسط الصحراء الليبية عام 2020.
ويشير كل ذلك إلى أن الشركات الأمنية توشك أن تتحول إلى جيوش صغيرة مرنة وسريعة وأكثر فاعلية في تحقيق النصر من الجيوش التقليدية، باستعانتها بضباط وخبراء عسكريين وفنيين سابقين، لكن ذلك من شأنه أن يجعلها تتغول على الدولة، لحساب فرد أو لوبيات معينة، إذا تعارضت مصالحها مع سياسة الدولة.
وخير مثال على ذلك مجموعة مرتزقة بوب دينار، ساعدت أحمد عبد الرحمن، للعودة إلى السلطة في انقلاب عسكري بجزر القمر عام 1978، ثم قتلته عندما حل الحرس الرئاسي في 1989، الذي كان يقوده المرتزق الفرنسي.
وتاريخياً كان أحد أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية اعتمادها على جيوش المرتزقة، بعدما تكاسل شبابها عن الانخراط في الجيش والمشاركة في الحروب.
لذلك ما زال ينظر إلى الشركات الأمنية بالكثير من الارتياب، رغم أنها توسعت في الأعوام الأخيرة ليفوق عددها 300 ألف شركة حول العالم، مع اختلاف حجمها ومهامها، ولكن ما يجمعها أنها تقدم خدمات أمنية وعسكرية مقابل عقود (أموال) كأي شركة تجارية.