كان قادة واشنطن يصفون القرن الحادي والعشرين بأنه "القرن الأمريكي الجديد"، فلماذا أصبح هذا الأمر من الماضي؟ وهل تقبل الولايات المتحدة بتقاسم قيادة النظام العالمي مع الصين؟
ففي مطلع القرن الحالي كانت أمريكا تهيمن على النظام العالمي بلا منازع، وغزت أفغانستان والعراق دون اكتراث بالرفض العالمي، ولعبت دور "شرطي العالم" لنحو عقدين من الزمان، لكن السنوات القليلة الماضية شهدت انقلاباً في موازين القوى بشكل واضح.
موقع Responsible Statecraft الأمريكي تناول هذا الانقلاب واحتمالاته في تحليل عنوانه "وداعاً القرن الأمريكي ومرحباً بالثلاث العظام"، رصد كيف أنه منذ وقت ليس ببعيد كان المحللون السياسيون يتحدثون عن القوتين العظميين، أي عن ذلك التحالف العملي المحتمل بين الولايات المتحدة والصين، الذي يهدف إلى إدارة المشاكل العالمية من أجل المنفعة المتبادلة، إذ كان يُنظر إلى مثل هذا الثنائي التعاوني على أنه يحتمل أن يكون أقوى من مجموعة الدول السبع الكبرى للاقتصادات الغربية الرائدة.
تأثير الحرب في أوكرانيا
كانت هذه الفكرة هي أساس التواصل الأوَّلي لإدارة أوباما مع الصين، رغم أن الفكرة فقدت جاذبيتها في واشنطن مع استمرار التوترات مع بكين في التصاعد بشأن تايوان وقضايا أخرى. ومع ذلك فإن أهم دروس الحرب في أوكرانيا هي حتمية الانفتاح الأمريكي على تشارك قيادة النظام العالمي مع الصين، بغض النظر عن رغبات قادة واشنطن، وإلا فالبديل هو الحرب.
كما يجب أن يكون هناك تطور جديد في الجغرافيا السياسية، مع الهند أيضاً، ففي المقام الأول هذه الدولة الناشئة المسلحة نووياً هي الآن الأكثر اكتظاظاً بالسكان على هذا الكوكب وستمتلك قريباً ثالث أكبر اقتصاد أيضاً.
يتبادر إلى الذهن سؤالان على الفور: لماذا هذه المجموعة الثلاثية من الدول، ولماذا من المحتمل أن يكون ظهورها نتيجة حتمية للحرب في أوكرانيا؟
بدءاً من السؤال الثاني تكمنت مجموعة الدول الثلاث، في القلب، من مستقبل الولايات المتحدة، لأنه لا الولايات المتحدة ولا روسيا أثبتتا القدرة على تحقيق ما قد يعتبره قادتها نتيجة مرضية لتلك الحرب. من جانب موسكو فشلت عملية تحييد أوكرانيا ومنعها من الارتماء في أحضان الغرب بالقوة، وبالنسبة لواشنطن فإن الهزيمة المطلقة لروسيا وزوال فلاديمير بوتين تبدو سيناريو بعيد الاحتمال.
وفي ظل كارثة الحرب التي تبدو بلا نهاية في أوكرانيا، بات من الواضح بشكل متزايد أن الصين والهند من المرجح أن تلعبا دور البطولة في النتيجة النهائية لتلك الحرب، إذ لا يمكن لروسيا أن تستمر في القتال بدون دعم هذين البلدين، وذلك بفضل رفضهما الالتزام بالعقوبات الغربية القاسية، واستمرار تجارتها مع موسكو، ومشترياتهما الضخمة من احتياطيات الوقود الأحفوري الروسي. بالإضافة إلى ذلك، لا يريد أي من هذين البلدين تصعيد الحرب أو إطالة أمدها، نظراً للضرر الذي تلحقه بآفاق النمو العالمي.
في الوقت نفسه، ربما تكون الحرب في أوكرانيا قد كشفت نقاط ضعف في الجيش الروسي الذي كان يُتباهَى به سابقاً، إلا أنها كشفت أيضاً عن حدود القوة الأمريكية. ففي المقام الأول، عندما بدأت الحرب في فبراير/شباط 2022، كان الرئيس جو بايدن واثقاً من أن معظم العالم سينضم إلى الولايات المتحدة وأوروبا في عزل موسكو، عن طريق وقف مشتريات إمدادات الطاقة الروسية وفرض عقوبات صارمة على هذا البلد، من بين طرقٍ أخرى. فبالنسبة لبايدن كان القرن الحادي والعشرون لا يزال القرن الأمريكي.
تحطم "أمنيات" بايدن التي تعود لزمن ولّى
فبايدن، وقبل حتى أن يدخل البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2021، كان يرفع شعار "أمريكا عادت لقيادة العالم"، وظل يردد هذا الشعار الذي قال منتقدوه إنه عودة إلى أجواء الحرب الباردة الماضية بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، لكن الواضح الآن أن محاولات بايدن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء قد فشلت.
إذ يبدو أن العالم قد دخل حقبةً جديدة لم تُحدَّد ملامحها النهائية بعد، لكن أبرز ما يميز هذه الحقبة هو تضاؤل النفوذ العالمي للولايات المتحدة. ورغم الجهود الحثيثة التي تبذلها واشنطن وحلفاؤها في الناتو للحد من المنافذ التي تصل بها روسيا إلى الاقتصاد العالمي، نجحت موسكو إلى حد كبير في الحفاظ على نفسها واقفة على قدميها، حتى أثناء تمويل "العملية العسكرية" الأكثر تكلفة في أوكرانيا. والفضل في ذلك يرجع بشكل كبير للصين والهند، اللتين واصلتا شراء كميات هائلة من النفط والغاز الطبيعي الروسي (حتى لو بأسعار مخفضة للغاية).
كما فشلت واشنطن إلى حد كبير في إقناع معظم دول الجنوب، بما في ذلك القوى الصاعدة الرئيسية مثل البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، بتبني وجهة نظر الرئيس بايدن في حرب أوكرانيا على أنها صراع "وجودي" بين الدول الديمقراطية الليبرالية والدول الأوتوقراطية غير الليبرالية.
لكن خارج أوروبا، لم تلقَ مثل هذه التصريحات الرنانة آذاناً مصغية إلى حد كبير، حيث أكد القادة غير الغربيين على احتياجاتهم الوطنية، وشجبوا نفاق الغرب عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن "القواعد" العالمية التي يدعي احترامها. وقد اشتكوا على وجه الخصوص من الطريقة التي أدت بها مثل هذه العقوبات المفروضة على روسيا إلى رفع أسعار المواد الغذائية والأسمدة في بلدانهم، ما أضر بالملايين من مواطنيهم.
تعتمد الولايات المتحدة على أمرٍ واحد، أننا سنجد أنفسنا في نظام عالمي جديد فيما بعد حرب أوكرانيا. بعد هجوم الربيع/الصيف الأوكراني المتوقع، والذي من غير المرجح أن يطرد جميع القوات الروسية من الأراضي التي استولوا عليها منذ فبراير/شباط الماضي، من شبه المؤكد أن الهند والصين ستدفعان كلا البلدين نحو تسوية سلمية تهدف أكثر إلى استعادة التدفق للتجارة العالمية من التمسك بالمبادئ الأساسية من أي نوع.
لماذا هذه المجموعة الثلاثية من القوى الكبرى؟
في حين أن نتيجة حرب أوكرانيا لا تزال موضع شك، الشيء الوحيد الذي يبدو مؤكداً هو ظهور الصين والهند كلاعبين رئيسيين فيما يتعلق بقرار تلك الحرب النهائي، وهذا القرار سيساعد في تحديد النظام العالمي المستقبلي، نظام يتعين على الولايات المتحدة فيه تقاسم مسؤوليات الحكم العالمي مع الصين والهند، القوتين الكبريين في العالم بخلاف الولايات المتحدة، بحسب تحليل الموقع الأمريكي.
فأوروبا غير مؤهلة للعب مثل هذا الدور بسبب انقساماتها الداخلية واعتمادها على القوة العسكرية الأمريكية، كما أن روسيا غير مؤهلة لذلك أيضاً، وذلك بسبب تراجع قوتها العسكرية والاقتصادية. ومع ذلك لدى دول مجموعة الثلاث بعض الخصائص الأساسية التي تميزها عن جميع القوى الأخرى، ومن المرجح أن تصبح أكثر وضوحاً في المستقبل.
لنبدأ بالسكان، في عام 2022 كان لدى الصين والهند والولايات المتحدة أكبر وثاني وثالث أكبر عدد سكاني في العالم، حيث بلغ عدد سكان الدول الثلاث مجتمعة ما يقدر بنحو 3.2 مليار شخص، أو ما يقرب من 40% من جميع سكان هذا الكوكب. بينما من المتوقع أن تتفوق الهند على الصين كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان هذا العام، لا يزال من المرجح أن تظل تلك البلدان الثلاثة على رأس التعداد السكاني في عام 2050، حيث سيبلغ سكانها ما يُقدَّر بنحو 3.4 مليار شخص بحلول ذلك الوقت. بالطبع لا أحد يعرف كيف يمكن للمجاعات الكبرى أو الأوبئة أو الكوارث المناخية أن تؤثر على هذه الأرقام، لكن هؤلاء السكان يمنحون مزايا هائلة عندما يتعلق الأمر بالإنتاج والاستهلاك وحتى إذا لزم الأمر القتال في الحروب.
بعد ذلك يأتي عامل النفوذ الاقتصادي؛ إذ لطالما احتلت الولايات المتحدة والصين المركزين الأول والثاني في اقتصادات العالم، في حين صعدت الهند إلى المركز السادس، وإن كانت لا تزال وراء اليابان وألمانيا والمملكة المتحدة. ومع ذلك من المتوقع أن تتفوق على المملكة المتحدة هذا العام، وفي بعض التوقعات ستصل إلى المرتبة الثالثة بحلول عام 2030. ستشكل مجموعة الدول الثلاث معاً حصة أكبر من النشاط الاقتصادي العالمي مقارنة بالدول العشرين التالية مجتمعة، بما في ذلك كل الاقتصادات الأوروبية واليابان.
يُفترض على نطاق واسع أن الولايات المتحدة والصين تمتلكان أكبر وأقوى جيشين في العالم، ولا تزال روسيا تحتل المركز الثالث، رغم تقلُّص جيشها بشدة بسبب الحرب في أوكرانيا، ومن غير المرجح أن تستعيد قوتها لسنوات، هذا إن تمكَّنت من ذلك من الأصل.
جيش الهند كبير بالفعل، حيث يقدر عدد الرجال والنساء بالزي العسكري بنحو 1.4 مليون رجل (مقارنة بـ2 مليون في الصين، وأقل من مليون في روسيا، و1.4 مليون في أمريكا)، لكنه ليس مجهزاً جيداً بأسلحة متطورة مثل الثلاثة الأخرى. ومع ذلك ينفق الهنود مليارات الدولارات على شراء أنظمة قتالية متقدمة من أوروبا وروسيا والولايات المتحدة. ومع زيادة حصتها من الثروة العالمية، اعتُمد على نيودلهي لاستثمار المزيد من الأموال في "تحديث" قواتها المسلحة، إذ قفز الإنفاق العسكري لنيودلهي بأكثر من 50% خلال السنوات العشر الأخيرة، بحسب تقرير لمجلة الإيكونوميست البريطانية.
ما فرص التعاون بين أمريكا والصين والهند؟
من الواضح أن الصين والهند والولايات المتحدة ستهيمن على الأرجح على أي نظام عالمي في المستقبل، لكن هذا لا يعني أنها مُقدَّر لها التعاون، فالعكس تماماً هو الأقرب للواقع، ستظل المنافسة والصراع بلا شك سمة دائمة لعلاقاتها، حيث تتضاءل الروابط بينها باستمرار، لكن الشيء الأكيد الوحيد هو أن أي مشكلة عالمية كبرى، سواء تعلق الأمر بتغير المناخ، أو كارثة اقتصادية، أو جائحة مميتة أخرى، أو حرب على غرار أوكرانيا، لن تُحَل إذا لم تستطع تلك القوى الثلاث اكتشاف شكل من أشكال التعاون، حتى وإن كان بشكل غير رسمي.
اليوم، بالكاد يتحدث قادة أكبر اقتصادين في العالم إلى بعضهما، ويبدو أن قواتهما المسلحة مستعدة لصدام عنيف في أي لحظة تقريباً. ولا يزالان على خلافٍ بشأن أوكرانيا، حيث تطالب واشنطن بكين بقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، وإنهاء إصرار الصين على شرعية تحالفها "الصارم" مع موسكو.
مرة أخرى، من المرجح أن تثبت مثل هذه العداوات القاعدة في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين أكثر، على خلاف فترة التعاون القصير بينهما في 2014-2015. وبينما أصبحت الهند أقرب إلى الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة- إلى حد كبير لتحقيق التوازن بين القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين- فإن قادتها يكرهون أن يصبحوا معتمدين بشكل مفرط على أي قوة أجنبية، بغض النظر عن قربهم من الناحية السياسية. وبالتالي فإن التكهن الأساسي يتمثل في استمرار العلاقات الهشة والمتوترة في كثير من الأحيان بين دول مجموعة الثلاثة.
ومع ذلك، لن يكون أمام هذه الدول الثلاث خيار سوى التعامل مع بعضها البعض بطريقة ما، عندما يتعلق الأمر بالمشكلات العالمية الكبرى التي تواجهها جميعاً. من المؤكد أن تغير المناخ هو من بين أكثر العوامل إلحاحاً، لا يمكن لأي منهم تجنب مثل هذه النتيجة بمفرده، فقط من خلال العمل بشكل متضافر للحد من الانبعاثات العالمية يمكنهم تجنّب ما من المحتمل أن يكون كارثة مناخية على أنفسهم وعلى كوكب الأرض.
وينطبق الشيء نفسه على أي تحدٍّ عالمي رئيسي آخر، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية الحادة في المستقبل، وتفشي الأوبئة، والصراعات الإقليمية الكبرى، وزيادة انتشار الأسلحة النووية. ورغم عدم ارتياح قادة الصين والهند والولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بالتعاون مع نظرائهم، فلن يكون لديهم خيار سوى الهروب من مستقبل كارثي على نحو متزايد.