ارتفعت الآمال في أن يؤدي اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت في السودان إلى بداية النهاية للحرب المدمرة، التي تثير تساؤلات بشأن مصير الاستثمارات الخارجية التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
كان السودان قد شهد، منذ يوم 15 أبريل/نيسان، انفجاراً عنيفاً في الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود قوات الدعم السريع، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ومع دخول الهدنة المؤقتة، التي نتجت عن الوساطة السعودية-الأمريكية، حيز التنفيذ مساء الإثنين 22 مايو/أيار، تراجعت حدة القتال في الخرطوم بشكل لافت رغم الخروقات المتقطعة، في بارقة أمل أن يتم احتواء الصراع ومنعه من التحول إلى حرب أهلية ممتدة.
ماذا عن الاستثمارات الخارجية في السودان؟
على الرغم من تعرض السودان إلى عقوبات أمريكية وأممية على مدى العقود الثلاثة التي حكم فيها عمر حسن البشير البلاد، قبل عزله خلال ثورة شعبية قبل أكثر من 3 أعوام، إلا أن البلاد كانت هدفاً للاستثمارات الخارجية في مجالي الزراعة والإنتاج الحيواني بشكل خاص.
فعلى سبيل المثال، كان حجم الاستثمارات الأجنبية في السودان قد بلغ 42 مليار دولار عام 2017، بحسب وزير الاستثمار السوداني وقتها، مدثر عبد الغني عبد الرحمن، تركزت في الصناعات الغذائية والتحويلية، حيث سمح السودان للمستثمرين بإدخال معداتهم وموادهم الخام والتقنيات عوضاً عن تحويل الأموال لتفادي العقوبات الدولية.
وبلغ حجم الاستثمار الصناعي عام 2015 نحو 1130 مشروعاً، 65% منها كانت تتركز في العاصمة الخرطوم، وشملت العديد من مشاريع النفط والغاز والكهرباء والمياه، وكان يمكن للمستثمرين بيع جزء من منتجاتهم وخدماتهم مباشرة للسودانيين أو بيعها للحكومة، في مؤشر على أن جزءاً من تلك المنتجات كان يتم تصديره للخارج، وبصفة خاصة المنتجات الزراعية.
وبحسب تقرير لوكالة الأناضول، تستثمر دول الخليج العربي أكثر من 50 مليار دولار في السودان، خاصة في القطاع الزراعي، بسبب ما يتوفر عليه من أراض خصبة ومياه وفيرة ومناخ متنوع، في الوقت الذي تعاني تلك الدول من شح الموارد المائية ومناخها الصحراوي الجاف ومحدودية المساحات الصالحة للزراعة وقلة المراعي.
وتستورد دول الخليج الجزء الأكبر من غذائها من الخارج بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج المحلي الذي يستنزف كميات كبيرة من مياهها الشحيحة، خاصة محاصيل الأرز، الذي يعتبر الوجبة الرئيسية في المنطقة.
وإذا طالت حرب السودان التي اندلعت منتصف أبريل/نيسان الماضي، فمن شأن ذلك أن يرفع فاتورة الغذاء في دول مجلس التعاون الخليجي التي قفزت من 25.8 مليار دولار في عام 2010 إلى 53.1 مليار دولار عام 2020، وفق تقرير مركز "تريندز للبحوث والاستشارات".
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تضاعفت أسعار الغذاء، خاصة أن البلدين من كبار مصدري الحبوب في العالم، وبالتالي إذا توقفت صادرات الغذاء السودانية من التدفق إلى السوق الخليجية، بسبب الصراع بين الجيش والدعم السريع، فإن الأزمة ستصبح مضاعفة.
50 مليار دولار من الاستثمارات الخليجية
لجأت الدول الخليجية للاستثمار الزراعي في السودان، لأن الاستثمار في السودان هو الخيار الأكثر نجاعة من الناحية الاقتصادية، نظراً لانخفاض تكلفته، بسبب وفرة المياه والأراضي الشاسعة الصالحة للزراعة.
إذ تبلغ مساحة الأراضي الزراعية بالسودان أكثر من 175 مليون فدان (الفدان يساوي 4200 متر مربع)، أي أكثر من 18 ضعف مثيلتها في مصر، والتي لا تزيد عن 9.4 مليون فدان.
أما بالنسبة للموارد المائية، فحصة السودان من مياه نهر النيل وإن كانت لا تزيد عن 18 مليار متر مكعب سنوياً (حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب)، إلا أن استهلاكها من مياه النيل لا يتجاوز 14 مليار متر مكعب سنوياً، بينما لا يستغل 4 مليارات متر مكعب المتبقية، وفق مسؤولين سودانيين.
ناهيك عن كميات ضخمة من مياه الأمطار، التي تبلغ نحو 400 مليار متر مكعبٍ سنوياً في المتوسط، ومياه جوفية، وعدد من السدود، وعلى رأسها سد مروي في الولاية الشمالية، أحد أكبر السدود في إفريقيا.
يضاف إلى كل ذلك، 52 مليون فدان من الغابات والمراعي، التي تسمح بتربية المواشي، والتي يفوق عددها 110 ملايين رأس، ويعمل نحو % من السكان في القطاع الزراعي والرعي، لذلك يلقب السودان بسلة غذاء العالم.
ويضاف إلى ما سبق، قرب المسافة مقارنة بالأسواق الآسيوية أو أسواق أمريكا اللاتينية، ما يقلل تكلفة النقل وبالتالي تراجع السعر النهائي للمنتج المستورد.
أموال الخليج مع وفرة المياه والأراضي الزراعية في السودان، تكملان بعضهما بعضاً من أجل تحقيق الأمن الغذائي العربي، وهذا ما يفسر عشرات مليارات الدولارات من الاستثمارات الخليجية، وبالأخص في القطاع الزراعي.
وخلال الأعوام العشرة الأخيرة، استثمرت دول مجلس التعاون الخليجي ما لا يقل عن 53 مليار دولار، الجزء الأكبر منها في القطاع الزراعي.
جاءت السعودية في المرتبة الأولى باستثمارات بلغت نحو35.7 مليار دولار، تركز معظمها بقطاع الزراعة، حيث دعمت الاستثمارات السعودية 250 مشروعاً في السودان.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وعد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بضخ 3 مليارات لمشروعات صندوق الاستثمار في السودان تليها دفعات أخرى.
كما تستورد السعودية كميات كبيرة من المنتجات الزراعية ورؤوس الماشية من السودان، خاصة في عيد الأضحى، وهذا ما يفسّر وصول المبادلات التجارية بين البلدين إلى 8 مليارات دولار، وهو رقم يندر أن يسجل بين بلدين عربيين.
من جهتها، تستثمر الإمارات 7 مليارات دولار بالسودان، منها 6 مليارات دولار في القطاع الزراعي، بحسب وسائل إعلام عربية بينها قناة CNBC عربية.
الكويت هي الأخرى استثمرت بالسودان 7 مليارات دولار، لكن أشهر استثماراتها تعود لشركة زين للاتصالات؛ فيما استثمرت قطر 4 مليارات دولار في الزراعة وتربية المواشي والتعدين والعقارات.
ولا توجد أرقام توضح حجم استثمارات سلطنة عمان ومملكة البحرين في السودان، لكن سبق للبحرين أن حصلت على رخصة لاستثمار قطعة أرض زراعية مساحتها 100 ألف فدان منذ يونيو/حزيران 2013. إلا أن المشروع تأخر تنفيذه رغم إقراره مجدداً في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وفق وسائل إعلام سودانية وبحرينية.
أما سلطنة عمان، فأعلنت في 2017 حصولها على أرض زراعية من السودان لاستثمارها في إنتاج الأعلاف الخشنة (حبوب الذرة الصفراء، والشعير، وفول الصويا) بالنظر للعجز الذي تعاني منه في إنتاج الأعلاف الحيوانية، والذي يقدر بنحو 47% في 2016، والحد من استهلاك المياه الجوفية.
غير أن إعلام سوداني تحدث عن مساحات واسعة ممنوحة لشركات ودول عربية، لكنها لم تجد طريقها للاستثمار أو لم يستثمر سوى جزء منها.
هل تصمد الهدنة بين الجيش والدعم السريع؟
توضح هذه المعطيات مدى أهمية احتواء الصراع الحالي ومنع تحوله إلى حرب أهلية ممتدة، تهدد بشكل غير مباشر الأمن الغذائي الخليجي، وتعطل نشاط الاستثمارات في مناطق الاشتباكات.
وكان تحليل لموقع Middle East Eye البريطاني، عنوانه "صراع السودان يختبر حدود الدبلوماسية الجديدة للقوى الخليجية"، قد رصد كيف أن دولاً خليجية كالسعودية والإمارات باتت تدرك تلك الحقيقة، وتسعى لأن ينتهي الصراع في السودان سريعاً قبل أن يتحول إلى كابوس.
فالأجواء السودانية مغلقة حتى نهاية مايو/أيار الجاري، والطريق المؤدية من الخرطوم إلى ميناء بورتسودان على سواحل البحر الأحمر خطرة ويصعب من خلالها شحن الصادرات الزراعية والحيوانية إلى دول الخليج، وبالأخص السعودية، مع اقتراب موسم الحج والأضاحي.
ويتزامن توقف الصادرات الزراعية والمواشي السودانية نحو دول الخليج، مع ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً، خاصة القمح والأرز، بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية.
ومن شأن هذه الأوضاع، وغيرها من الاعتبارات الأخرى، أن تدفع دول الخليج إلى استيراد الحبوب والأعلاف والمواشي من أسواق بعيدة وبأسعار أعلى من نظيرتها بالسودان، ما سيرفع من فاتورة الغذاء، بل من شأن ذلك أن يهدد الأمن الغذائي الخليجي.
لذلك من الطبيعي أن تلقي السعودية ودول الخليج ثقلها لتهدئة الأوضاع في السودان، وحماية استثماراتها واستئناف الصادرات الزراعية والمواشي، وأيضاً الذهب الخام، لحماية أمنها الغذائي.
وكان سكان في الخرطوم قد قالوا لرويترز الثلاثاء 23 مايو/أيار إنه أمكن سماع دوي نيران مدفعية في مناطق بالعاصمة السودانية، كما حلقت طائرات حربية في سماء المدينة، لكن وقف إطلاق النار الخاضع لمراقبة دولية أحدث هدوءاً نسبياً على ما يبدو بعد معارك ضارية في الخرطوم.
وأشارت تقارير إلى شن ضربات جوية ليلية في منطقة واحدة على الأقل بعد بدء سريان وقف إطلاق النار مساء الإثنين، فيما أفاد بعض السكان بحدوث هدوء نسبي.
وجرى الاتفاق على الهدنة خلال محادثات استضافتها مدينة جدة السعودية السبت بعد معارك ضارية استمرت خمسة أسابيع بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية. وتتابع السعودية والولايات المتحدة هذه الهدنة التي تهدف إلى السماح بتوصيل المساعدات الإنسانية.
وكتب نشطاء إلى مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان يرحبون باتفاق وقف إطلاق النار لكنهم اشتكوا من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تُرتكب بحق المدنيين قالوا إنها وقعت مع احتدام القتال وطالبوا بفتح تحقيق فيها.
وقال نشطاء وعمال إغاثة إن لجان الأحياء التي كانت في طليعة جهود الإغاثة المحلية في العاصمة الخرطوم تستعد لتلقي المساعدات، مشيرين إلى أن كميات كبيرة من المساعدات التي وصلت إلى بورتسودان على ساحل البحر الأحمر لم تُوزع بعد في انتظار الحصول على التصاريح الأمنية.
وزاد اتفاق وقف إطلاق النار من الآمال في استراحة من الحرب التي تسببت في نزوح ما يقرب من 1.1 مليون شخص من ديارهم، من بينهم أكثر من 250 ألفاً فروا إلى دول مجاورة.
وقال عاطف صلاح الدين (42 عاماً)، وهو من سكان الخرطوم لرويترز: "أملنا الوحيد أن تنجح الهدنة حتى نتمكن من العودة إلى حياتنا الطبيعية والشعور بالأمان والعودة إلى العمل مرة أخرى".
وبالرغم من استمرار القتال خلال سريان فترات سابقة لوقف إطلاق النار، فإن هذا هو أول وقف لإطلاق النار يأتي بناء على اتفاق رسمي بين الجانبين بعد إجراء مفاوضات. ويشمل الاتفاق آلية مراقبة يشارك فيها الجيش وقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى ممثلين عن السعودية والولايات المتحدة، اللتين توسطتا في الاتفاق بعد محادثات في جدة. وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إن آلية المراقبة ستكون "عن بعد"، دون أن يقدم أي تفاصيل.
أضاف بلينكن في رسالة عبر مقطع فيديو: "إذا تم انتهاك وقف إطلاق النار، سنعرف، وسنحاسب المنتهكين من خلال عقوباتنا وأدوات أخرى تحت تصرفنا. محادثات جدة كانت تركز على نطاق محدد. إنهاء العنف وتقديم المساعدة للشعب السوداني. الحل الدائم لهذا الصراع سيتطلب ما هو أكثر بكثير".
وقبل قليل من سريان وقف إطلاق النار، بثت قوات الدعم السريع رسالة صوتية من قائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي شكر فيها السعودية والولايات المتحدة، لكنه حث رجاله على الصمود حتى النصر أو الشهادة، وقال: "لن نتراجع إلا بإنهاء هذا الانقلاب".
وتبادل الجانبان الاتهامات بمحاولة الاستيلاء على السلطة في بداية الصراع في 15 أبريل/نيسان. وحذر فولكر بيرتس مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان الإثنين، من تزايد "الطابع العرقي" للصراع العسكري، وقال في إفادة بمجلس الأمن الدولي: "الطابع العرقي المتزايد للصراع يهدد بإغراق البلاد في صراع طويل الأمد وبامتداد تداعياته إلى المنطقة".
وكتب نشطاء سودانيون رسالة إلى بيرتس يشكون فيها من القصف العشوائي والغارات الجوية على مناطق سكنية وكذلك أخذ المدنيين كدروع بشرية وعمليات القتل خارج نطاق القضاء والتعذيب والعنف الجنسي.
كما تضغط الأزمة على الدول المجاورة للسودان، وبخاصة مصر وتشاد، وقال مسؤول كبير بالصليب الأحمر الثلاثاء، إن اللاجئين السودانيين يتدفقون على تشاد بسرعة كبيرة؛ لدرجة يستحيل معها نقلهم جميعاً إلى أماكن أكثر أماناً قبل بدء موسم الأمطار في أواخر يونيو/حزيران، في إشارة إلى خطر وقوع كارثة. وقالت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين هذا الأسبوع إن ما بين 60 و90 ألفاً فروا إلى تشاد المجاورة منذ اندلاع العنف في السودان.