هل حان الوقت لأن يرفع جنرالات باكستان أيديهم عن السلطة في البلاد؟ وإلى أين تتجه المواجهة المحتدمة مع أنصار رئيس الوزراء السابق عمران خان؟
إذ تشهد شوارع باكستان مواجهة خطيرة، يخوض فيها أكثر السياسيين شعبية في البلاد معركة مع أقوى مؤسساتها، ويأتي ذلك بعد أن قام عشرات من المسلحين التابعين لقوات شبه نظامية باختطاف رئيس الوزراء السابق عمران خان من أمام إحدى المحاكم في إسلام آباد الأسبوع الماضي.
وكانت النتيجة خروج أنصار عمران خان عن بكرة أبيهم للاحتجاج في شوارع باكستان، وأضرموا النيران في المباني، ونهبوا المقر الرسمي لقائد عسكري كبير، حتى إنهم اقتحموا مقراً للجيش. فاضطرت السلطات إلى الإفراج عن خان بكفالة بعد ثلاثة أيام، غير أن المواجهة تصاعدت بعد أن اتهم خان قائدَ الجيش، الجنرال عاصم منير، باستهدافه.
وتناول تقرير لمجلة The Foreign Policy الأمريكية عنوانه "حان الوقت لكي يرفع الجنرالات قبضتهم عن الحكم"، يرصد مدى خطورة المواجهة الحالية، في ظل إصرار قيادات الجيش على حرمان السياسي ذي الشعبية الجارفة من العودة إلى المشهد السياسي، وإصراره في المقابل على عدم الاستسلام.
مواجهة مفتوحة بين أنصار خان والجيش
كان خان، الذي يواجه تهماً بالفساد، قد أصر على عدم الامثال لاستدعاء من ديوان المحاسبة الوطني من أجل استجوابه، الخميس 18 مايو/أيار، في التهم التي كان قد تم اعتقاله بسببها، قبل الإفراج عنه بكفالة بأمر من المحكمة تم تمديدها إلى 31 مايو/أيار.
وقال متحدث باسم ديوان المحاسبة إن خان استُدعى للتحقيق في المكتب الإقليمي الواقع في روالبندي، القريبة من العاصمة إسلام آباد. وأجرى الديوان، الذي يتمتع بسلطة قوية، تحقيقات مع كل الذين تعاقبوا على منصب رئيس الوزراء منذ عام 2008، بحسب تقرير لرويترز.
وفي بيان موجه إلى نائب مدير ديوان المحاسبة، وأطلع أحد محامي خان رويترز عليه، وصف رئيس الوزراء السابق الاتهامات الموجهة إليه بأنها "باطلة تماماً وغير مقنعة وملفقة". وقال إنه يعكف على تقديم طلب للحصول على كفالة في عدد من القضايا القانونية الأخرى، ولن يكون قادراً على المثول أمام الديوان قبل انتهاء الكفالة الوقائية، في 22 مايو/أيار.
كان اعتقال خان قد تسبب في موجة عنف زادت من حالة عدم الاستقرار السياسي في الدولة الواقعة في جنوب آسيا، ويبلغ عدد سكانها 220 مليون نسمة، كما تواجه باكستان أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها على الإطلاق، مع الحاجة إلى تمويل مهم من صندوق النقد الدولي تأخر لشهور، من أجل تجنب أزمة في ميزان المدفوعات.
وتم الإفراج عن زوجته بشرى خان، المعروفة باسم بشرى بيبي، بكفالة حتى 23 مايو/أيار. وقال خان الأربعاء إن الشرطة طوقت منزله في لاهور بإقليم البنجاب، وإنه يتوقع اعتقاله مجدداً قريباً، بعد أن طالبته الحكومة بتسليم أنصاره الذين تتهمهم بشن هجمات على الجيش.
وقال وزير الإعلام في حكومة إقليم البنجاب، أمير مير، إن الحكومة لا تعتزم القبض على خان بعد الإفراج عنه بكفالة بأمر المحكمة. وقال "كل ما نريده أن يسلِّم الإرهابيين المختبئين في منزله". وذكر خان أن السلطات لا يمكنها أن تفتش منزله إلا بموجب أوامر قضائية، ونفى إيواء أي شخص متورط في أعمال العنف.
باكستان تعيش توتراً سياسياً وأزمة اقتصادية
يأتي كل ذلك في وقت تشتد فيه حاجة باكستان إلى البعد عن الأزمات السياسية من هذا النوع، فاقتصاد البلاد آخذ في الانهيار، والبلاد على وشك التخلف عن سداد ديونها الدولية، فضلاً عن أنها لم تكد تتعافى بعد من الفيضانات العارمة التي اكتسحتها العام الماضي، والتي غمرت ثُلث مناطق البلاد وشردت ملايين السكان. وزاد على ذلك ارتفاع معدل التضخم إلى 35%، وانخفاض قيمة الروبية إلى مستويات غير مسبوقة، وعودة العمليات الإرهابية، التي خفت حدتها خلال السنوات الماضية، إلى الظهور مرة أخرى.
باكستان في حاجة ماسة إلى استعادة توازنها، لكن المواجهة العنيفة بين السلطات العسكرية وحزب خان تُنذر بتمزيق البلد وما قد يعقبه ذلك من عواقب وخيمة، نظراً إلى كونها ثاني أكبر دولة في العالم الإسلامي من حيث عدد السكان، والقوة النووية الوحيدة.
وثمة فرصة لذلك عندما يحين موعد الانتخابات بعد بضعة أشهر، فالسبيل الوحيد للمضي قدماً هو أن يتخلى جنرالات باكستان- بعد زمن طويل- عن سيطرتهم على البلاد، وأن يتركوا العملية الديمقراطية تأخذ مجراها، بحسب تحليل فورين بوليسي. وقد لا يحل إجراء انتخابات سلمية وحرة ونزيهة المشكلات العديدة لباكستان، لكنه يمكن أن يبلِّغها قدراً من الاستقرار الذي اشتدت حاجة البلاد إليه، ويُفضي بها إلى قطيعة حاسمة مع مساوئ الماضي.
اللافت هنا هو أن الأزمة الحالية مألوفة ومتكررة في كثير من ملامحها، فقد حكم الجيش الباكستاني الدولة البالغة من العمر 75 عاماً حكماً مباشراً طوال ثلاثة عقود، ثم تواصلت سيطرته غير المباشرة على الحكومات الديمقراطية اسمياً في بقية العقود.
ولم يتمكن أي رئيس وزراء مدني من إتمام ولاية كاملة لكي يحاسبه الناخبون بأصواتهم مرة أخرى، بل أُجبروا على ترك مناصبهم بوسائل مختلفة، واغتيل أحدهم. ومن المفارقات أن الجيش لطالما عاون زعماء المعارضة في الخفاء على أخذ مكانهم في الحكم، قبل أن يدفع بهم أيضاً إلى المصير نفسه، في حلقة مفرغة لا نهاية لها من احتكار الهيمنة المفضي إلى خلل في نظام الحكم.
في البداية، كان عمران خان- نجم الكريكيت السابق الذي صعد إلى السلطة بانتخابات شعبية- قريباً من الجيش، ولما مهَّد الجنرالات الطريق لوصول خان إلى المنصب عام 2018، كان يبدو أكثر قابلية للوقوع تحت نفوذهم من معظم السياسيين. وتقاسم الجانبان السلطة علانية، ليبدأ في البلاد نظام بات يُعرف باسم "النظام المختلط". فكانت القرارات تُتخذ في مقرات الجيش ويُصادق عليها بلا اعتراض في مكتب رئيس الوزراء.
وكانت أجهزة المخابرات القوة التنفيذية التي تتولى حبس المعارضين، وتكميم أفواه الصحفيين، وإخفاء النقاد، واستغلال القضاة، وقمع أصوات النواب البرلمانيين. واستفاد الجنرالات من وجاهة أسطورة الكريكيت السابقة، وسياساته القومية، وحملته المكثفة على الفساد، ومن ثم فقد بدا كل شيء يسير على ما يرام للعسكريين، حتى حاول عمران خان أن يتجاوزهم في قراراته.
يحرص الجيش الباكستاني على حراسة التسلسل القيادي، فالقائد الأعلى للجيش يتمسك بكونه مصدر السلطة، ولما حاول خان الاستئثار برأيه انقلب كبار الضباط عليه. وما لبثوا أن سحبوا دعمهم، وتركوا خان عرضة للتصويت بحجب الثقة عنه في أبريل/نيسان 2022.
وغالب الأمر أنه لو سُمح لخان بإكمال مدة ولايته كاملة، لشقَّ عليه إقناع الناخبين باختياره لدورة أخرى، فقد كانت سياساته مثيرة للانقسام، وإجراءاته التنفيذية غير فعالة، كما يقول منتقدوه. لكن ما تعرض له جعله قادراً على اجتذاب تعاطف الناس وتأييدهم، فقد أجاد تقديم نفسه في صورة البطل المحاصر الذي يقاتل من أجل "الاستقلال الحقيقي" لشعبه.
إلى أين تتجه الأمور بين خان والجيش؟
تزعم السلطات أنها قبضت على خان بتهم الفساد، ويقول هو إنه يواجه 148 اتهاماً، منها مزاعم بنشر "الإرهاب" و"بث الفتنة" و"الاستخفاف بالمقدسات". لكن الدافع وراء هذه القضايا ليس له علاقة بمعايير الشفافية والمساءلة، وإنما هي محاولة لإقصائه عن المنافسة في الانتخابات العامة لهذا العام.
وقد قُبض على كبار المسؤولين في حزب خان، ويُقال إن بعضهم تعرض للتعذيب في محبسه. واعتقل كثير من أنصاره في الرتب الدنيا للحزب، وحتى الاحتجاجات السلمية التي نظَّمها أنصار خان واجهتها الشرطة بالسحق والقمع. ويهدد الجيش الآن بمحاكمة المشتبه فيهم بالمشاركة في تلك الاحتجاجات في محاكم عسكرية، وهو إجراء ينطوي على انتهاك صارخ للقانون الدولي.
بهذا السعي المندفع للانتقام من خان يعرض الجيش مكانته للخطر. فأنصار خان ليسوا من الفلاحين المنتشرين في المناطق الريفية النائية، وإنما ينتشر معظمهم في كبرى البلدات والمدن الباكستانية، ومنهم أعضاء من النخبة والطبقات الوسطى ذات النفوذ والبراعة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن أن كثيرين من مؤيديه يخدم أقاربهم في الجيش أو خدموا من قبل. والواقع أن الخلافات قلَّما تسربت إلى صميم الجيش على هذا النحو، ويكفي القول إن بعضهم يتداول مزاعم بأن القيادة العليا للجيش منقسمة بشأن الموقف من عمران خان.
قد لا يكون الجنرالات مدركين لذلك الآن، لكن اتخاذهم قراراً بالانسحاب الدائم من الصراع السياسي سيكون في مصلحتهم، بحسب تحليل المجلة الأمريكية، فنظامهم المختلط القائم على الحكم من وراء ستار مدني لم يفشل فحسب، بل أفضى بالبلاد إلى نتائج كارثية تُعاكس مرادهم. والجيش الآن لا يملك فرض إرادته إلا من خلال القوة القسرية، وهو يخاطر خلال ذلك باستنزاف كل تأييد له بين عموم الناس. لكن إذا تنحى جانباً فسيتلاشى جزء كبير من تركيز الناس العدائي على تحركاته وشؤونه، وسيُتاح للجيش مساحة لرأب الصدع الداخلي، وإعادة بناء صورته العامة التي نالها الكثير من الضرر.
ولا يوجد سوى بديلين معقولين لإجراء انتخابات حرة ونزيهة في باكستان هذا العام: بديل ملطخ بافتقار الشرعية، أو انقلاب عسكري. فإذا لم يُسمح لخان بالمشاركة فإن الانتخابات ستكون بلا شرعية في رأي الكثير من الباكستانيين، ولن يقبلوا بالنتائج، ومن ثم ستستمر الأزمة. علاوة على ذلك فإن أي حكومة تنبثق من عملية كهذه ستكون ضعيفة ومعرضة باستمرار لتلاعب الجيش، وهو وضع يتشابه كثيراً مع ظروف الحكومة الحالية، التي يمكن إزاحتها في أي لحظة، ما سيؤدي إلى اندلاع أزمة جديدة، وهكذا.
أما الانقلاب العسكري فهو أمر غير متوقع، لكنه ليس مستحيلاً، فالجنرالات إن استولوا على السلطة وتولوا الحكم مباشرة فلن يحققوا الاستقرار، بل سيُغرقون باكستان في هاوية لا قرار لها، وسيؤول الحال بالبلاد إلى عزلة عالمية وخراب اقتصادي.
يرى بعض الخبراء أن الجيش وخان خياران أحلاهما مر، إذ هناك مخاوف من أنه إذا فاز خان في الانتخابات المقبلة فقد يستغل شعبيته لبناء سلطة مدنية تقوم على الاستبداد. ومع ذلك فإن القضاء عليه وعلى حزبه بالقوة القاهرة ليس بالحل الفعال، بل تحتاج البلاد إلى الاحتكام للانتخابات، التي قد يُنتخب فيها مرة، ويُزاح عن الحكم في أخرى، والمهم في ذلك كله أن يكون القرار في أيدي الباكستانيين أخيراً، وليس في أيدي العسكريين.