لعبت أمريكا دوراً كبيراً في انفجار الموقف في السودان وتحوله إلى حرب أهلية، فكيف تحول الصراع إلى مأزق استراتيجي لواشنطن؟
كان السودان، يوم 15 أبريل/نيسان، قد شهد انفجار الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد وقائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، الذي يقود "قوات الدعم السريع"، حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
وسارعت الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية والعربية والدولية إلى إجلاء رعاياها من السودان، بعد فشل جهود وقف إطلاق النار أكثر من مرة، وبدا أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تمتلك أي أوراق ضغط في تلك الأزمة، باستثناء ورقة العقوبات، فما تفاصيل هذا المأزق الأمريكي؟
هدنة بوساطة سعودية-أمريكية
تناول تحليل لمجلة Foreign Policy الأمريكية تفاصيل وكواليس هذا المأزق الأمريكي بعنوان "الجغرافيا السياسية لانخراط الولايات المتحدة في السودان"، انطلق من تغريدة وزير الخارجية أنتوني بلينكن، في 5 مايو/أيار قائلاً: "الولايات المتحدة والسعودية ترحبان ببدء محادثات ما قبل التفاوض بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في جدة".
والسبت 20 مايو/أيار، قالت الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية في بيان مشترك إن طرفي الصراع في السودان وقّعا على اتفاق لوقف إطلاق النار لمدة سبعة أيام.
وجاء في البيان المشترك أن وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ بعد 48 ساعة من التوقيع، ويمكن تمديده بموافقة الطرفين.
وأضاف البيان أن الجانبين اتفقا على إيصال وتوزيع المساعدات الإنسانية واستعادة الخدمات الأساسية وسحب القوات من المستشفيات والمرافق العامة الأساسية. كما اتفق الطرفان على تسهيل المرور الآمن لمقدمي المساعدات الإنسانية، ما يسمح بتدفق المساعدات دون عوائق من موانئ الدخول إلى السكان المحتاجين، بحسب رويترز.
وكانت رويترز قد ذكرت في وقت سابق، نقلاً عن مصدرين، أن الجانبين توصّلا إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وذلك مع دخول القتال أسبوعه السادس. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية إن وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ اعتباراً من يوم الإثنين الساعة 9:45 مساء. وقال البيان المشترك "من المعروف أن الطرفين قد سبق لهما الإعلان عن وقف إطلاق النار الذي لم يتم العمل به".
هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها الإعلان عن هدنة في الصراع السوداني، لكن لم يتم الالتزام بأي من تلك الاتفاقيات، لذلك أضاف البيان أنه خلافاً للاتفاقات السابقة فإن الاتفاق الجديد الذي تم التوصل إليه في مدينة جدة السعودية ستدعمه آليه مراقبة وقف إطلاق النار، المدعومة دولياً من قبل المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
على أية حال، رصد تحليل فورين بوليسي أولويات واشنطن المعلنة منذ الأيام الأولى لاندلاع الصراع على السلطة في السودان، حين أعرب بلينكن عن قلقه من أن الصراع على السلطة سيقوض "الجهود المبذولة لاستعادة الانتقال الديمقراطي في السودان".
لكن الوساطة السعودية تركز على أهداف الرياض وليس على أهداف واشنطن بطبيعة الحال، بافتراض أن مخاوف بلينكن بشأن "الديمقراطية" هي الدافع الوحيد للولايات المتحدة، وهذا أمر مفهوم: حتى لو كانت ديمقراطية نموذجية، سيكون للمملكة العربية السعودية أولويات أكثر إلحاحاً، بما في ذلك منع الحرب الأهلية السودانية، وبشكل أعم، تحقيق الاستقرار في منطقة البحر الأحمر. ومن جانب فريق بايدن، فإن من الحكمة أن يتحقَّق من اندفاعه لتعزيز الديمقراطية في الوقت الحالي، ودعم جهود الرياض لمنع جارتها البحرية من الانزلاق إلى الفوضى.
لكن الحقيقة المؤسفة هي أنه لا توجد أطراف فاعلة مؤمنة بالديمقراطية في السودان منذ الاستقلال في عام 1956، حيث عانى السودان من الحكم المطلق والحروب الأهلية، ولا يزال يتعافى من ديكتاتورية وحشية. والآن ينقسم البلد بين قائدين متنافسين هما عبد الفتاح البرهان وحميدتي، كلا الرجلين، مثل معظم السودانيين، من المتحدثين باللغة العربية، تماماً كما أن الجهات الخارجية الرئيسية- مصر والسعودية والإمارات- هي دول عربية. من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن السياق السياسي الإقليمي- والتداعيات الناجمة عن المزيد من عدم الاستقرار- تمتد إلى الشرق الأوسط برمته.
ما موقف الأطراف من الصراع في السودان؟
المصريون أقرب إلى البرهان، الذي تقع قاعدة قوته في الشمال، يساعد البرهان القاهرة في إدارة نزاع النيل مع إثيوبيا ويسيطر على بورتسودان، وهي نقطة استراتيجية في الصراع. على النقيض من ذلك يميل الإماراتيون نحو حميدتي، الذي ينحدر من دارفور في الغرب ويسيطر على مناجم الذهب في البلاد، التي تكمن أرباحها، بشكل شبه حصري، في البنوك الإماراتية، بحسب تحليل المجلة الأمريكية.
أما هناك، في أروقة الكونغرس الأمريكي، فيؤيد الرأي السائد معاقبة السودان، على أمل فرض انتقال ديمقراطي. على سبيل المثال دعا السناتور الأمريكي جيم ريش الإدارة مؤخراً إلى "معاقبة الجنرالين برهان وحميدتي"، و"الحد من تأثير الجهات الخارجية التي تقدم المساعدة للمجلس العسكري".
لكن علاقات واشنطن مع مصر والسعودية والإمارات متوترة بالفعل. إن تهديدهم بالعقوبات، كما يلمح بيان ريش، سيزيد من نفور الحلفاء أنفسهم، في حين أنهم ضروريون للتعامل مع الأزمة وتقليل التوترات.
وبشكل عام تبدو المخاطر مرتفعة، ويجازف السودان بأن يصبح ليبيا أخرى، أي حرب أهلية لا نهاية لها على ما يبدو بين الفصائل المدعومة من الخارج. وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة تضاعف عدد النازحين بسبب القتال أكثر من الضعف في أسبوع واحد إلى حوالي 700 ألف، اعتباراً من 9 مايو/أيار. بورتسودان هي مركز 90% من تجارة السودان مع العالم، وهي وجهة للعديد من الطرق البرية الإقليمية، ونقطة هبوط أحد أنظمة الكابلات البحرية الرئيسية في إفريقيا. ترك الحصار المفروض على الميناء في عام 2021 نحو 950 حاوية شحن عالقة وخلق عوائق كبيرة. ومنذ اندلاع القتال بين الفصائل، في 15 أبريل/نيسان، قُتِلَ أكثر من 600 شخص وجرح 5 آلاف، وهي أرقام من المتوقع أن تكون أعلى كثيراً مما تم رصده.
الحرب الأهلية في السودان لا تهدد فقط بتعطيل الاقتصاد الإقليمي، بل تهدد أيضاً بتحويل البلاد للإرهابيين، ومن هناك يمكن للإرهابيين تقويض الجهود الجارية حالياً لتحقيق الاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي. ويمكن أن يهددوا مناطق أبعد أيضاً.
وكما هو الحال في ليبيا، يقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضاً على استعداد لاستغلال الصراع. من المؤكد أن حرب أوكرانيا كشفت نقاط ضعف مروعة في الجيش الروسي، لكن تدخلات بوتين في ليبيا وسوريا وأماكن أخرى علَّمته أنه عندما يتعلق الأمر بالدول الضعيفة والفاشلة، يمكن حتى لعمليات الانتشار العسكرية الصغيرة أن تسفر عن مكافآت جيوسياسية ضخمة- خاصةً عندما تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها من أجل أغراض متعارضة. يتمتع بوتين أيضاً بميزة الشعبية الكبيرة حالياً في الدول الإفريقية بسبب أنشطة مجموعة فاغنر، وهي شركة مقاولات عسكرية روسية ملأت الكثير من الفراغ الذي تركه الفرنسيون المنسحبون في جميع أنحاء القارة.
الموقف الروسي والقلق الأمريكي
ويرى تحليل فورين بوليسي أن بوتين يعمل بالتوازي مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في إفريقيا لتقويض نفوذ الغرب والنظام الذي تقوده الولايات المتحدة. إنهما يسعيان معاً، من بين أهداف أخرى، إلى تشويه مكانة الولايات المتحدة باعتبارها الفاعل الاستراتيجي الرئيسي في المنطقة، والسيطرة على التجارة العالمية في السلع الثمينة والموارد الأخرى.
في فبراير/شباط الماضي، قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجولة في إفريقيا، شجب فيها الإمبريالية الأوروبية، وذكَّر مضيفه بأن الاتحاد السوفييتي كان نصيراً لاستقلال الشعوب المستعمرة. تضمنت رحلة لافروف توقفاً في الخرطوم، حيث شدد على الحاجة إلى التعددية القطبية في الشؤون الدولية، مع وضع روسيا أيضاً كبديل للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة.
يدرك الكرملين أن الوجود الروسي القوي في السودان من شأنه أن يمنحه مزيداً من النفوذ على مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات، تلك الدول التي أصبحت بالفعل تتحوَّط تجاه واشنطن وتقترب أكثر من موسكو وبكين. في الواقع، كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتفاوض بشأن خطة لإنتاج 40 ألف صاروخ سراً للجيش الروسي، بحسب التسريبات الأمريكية الأخيرة، رغم نفي القاهرة، والدرس هنا يبدو واضحاً: موسكو تغازل مصر، والقاهرة مستعدة للتودد.
في الواقع كان إحياء العلاقات المتلاشية بين الاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط وإفريقيا دائماً جزءاً من خطة بوتين الاستراتيجية، ويوفر السودان بوابة لكلا المنطقتين. أظهر بوتين اهتماماً مباشراً بالسودان عندما أُعلن، في ديسمبر/كانون الأول 2020، أن روسيا ستبني، بموجب عقد إيجار مدته 25 عاماً، منشأة بحرية قادرة على إرساء السفن السطحية التي تعمل بالطاقة النووية في بورتسودان، مباشرة عبر البحر الأحمر من المملكة السعودية، أحد أكبر الشركاء التجاريين للسودان. وفي الوقت نفسه، فإن النفوذ المتنامي لمجموعة فاغنر في دارفور يساعد موسكو على إنشاء ممر عبر السودان إلى المواقع الروسية الراسخة في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى.
في الحرب الأهلية الأولية الجارية في السودان، أخذت روسيا تدعم كلا الجانبين بذكاء. يتعامل الجيش الروسي مع البرهان، بينما يساعد رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوزين حميدتي. ينحدر البرهان وحميدتي من مناطق متميزة جغرافياً وثقافياً في بلد ضخم. يمثل البرهان الشمال، وهو قريب تاريخياً من المصريين، ويحظى باحترام النخبة في الخرطوم. حميدتي من دارفور، وهي إقليم منفصل عالق داخل حدود السودان الحديث، بفضل تاريخ الإمبراطورية البريطانية.
كلا الجانبين أسرى لما يبدو في الوقت الحالي أنه انقسام عرقي لا يمكن جسره. إن احتمالية ظهور أحدهم كفائز حاسم في السيطرة الحازمة على البلد بأكمله تقترب من الصفر. بغض النظر عن الطريقة التي سينتهي بها الصراع، من المرجح أن تحتفظ روسيا بموطئ قدم.
يتمثل الهدف الاستراتيجي الأساسي للولايات المتحدة في تقليص حجم موطئ القدم هذا والقضاء عليه، إن أمكن. لن تكون هذه مهمة بسيطة، لكن فريق بايدن لديه شركاء يمكنهم المساعدة. مثل الروس، يتعامل الإسرائيليون أيضاً مع كل من البرهان وحميدتي، يسعى الإسرائيليون للاحتفاظ بالسودان كطرفٍ مُوقِّع على اتفاقيات أبراهام التاريخية. في قضية السودان، كما هو الحال مع العديد من القضايا الأخرى هذه الأيام، تتوافق المصالح السعودية والإسرائيلية. ومثل الإسرائيليين، تجنَّب السعوديون أيضاً إغراء اختيار فائز.
في حين أن خطاب بلينكن يتشدق بالكلام تجاه التحول الديمقراطي في السودان، فإن تصرفات الإدارة تشير إلى أنها تدرك أن الاستراتيجية التي تركز على تعزيز الديمقراطية محكوم عليها بالفشل.
تسعى الصين وروسيا وإيران إلى تقويض النظام الذي تقوده الولايات المتحدة على مستوى العالم. الطريقة الوحيدة لرفع مكانة واشنطن في البحر الأحمر هي العمل مباشرة مع الحلفاء الذين يمكنهم، في هذه الحالة، التفاوض على وقف إطلاق النار بين حميدتي والبرهان. وهنا تكمن الفرصة الحقيقية لواشنطن: إعادة العلاقات مع الحلفاء العرب وتطوير اتفاقات أبراهام إلى أداة استراتيجية في التنافس ضد موسكو وبكين.
الخلاصة هنا هي أن واشنطن فوتت الفرصة على السودانيين الطامحين إلى التخلص من الحكم العسكري، من خلال التركيز على المصالح الغربية الضيقة في اللحظات الحاسمة، بحسب تحليل سابق لمجلة Foreign Policy، والآن بعد انفجار الموقف وتحول الصراع إلى حرب أهلية، وجدت أمريكا نفسها تواجه مأزقاً استراتيجياً متشابكاً.