"سيدات غير محجبات ينتزعن حجاب امرأة تركية محجبة وهن يهاجمن أردوغان"، كان هذا المشهد بمثابة خرق سافر لسردية المعارضة التركية بأنها قد ندمت على سياساتها القديمة باضطهاد المحجبات ومجمل المحافظين، فهل هذا مجرد مشهد استثنائي أم أن المعارضة التركية لو فازت ستعيد السياسات التمييزية بحق المحافظين وتعيد محنة الحجاب في تركيا؟
والسؤال الأخطر هل تطيح المعارضة بالنموذج التعددي التركي الحالي عبر شن حملة إقصائية سياسية ضد المحافظين أم تقيم نظاماً سياسياً ليبرالياً؟ كما يقول الإعلام الغربي.
كليجدار يعتذر عما لحق بـ"المحجبات في تركيا" من اضطهاد وخاصة غرف التعذيب
كان المحور اللافت في حملة المعارضة التركية الحالية، والذي قاده مرشحها كمال كليجدار أوغلو هو الاعتذار عن ممارسات الاضطهاد السابقة بحق المحافظين، ولاسيما أخواتنا المحجبات، حسب تعبير أوغلو.
وعززت المعارضة ذلك بضم عدد من الأحزاب التي أسسها منشقون عن حزب العدالة والرفاه الإسلاميي الجذور، وكان واضحاً أن الهدف الأساسي من ذلك، توجيه رسالة للجمهور المحافظ العريض في تركيا والجمهور العلماني أو الليبرالي المتعاطف معه بأن فوز المعارضة لن يعني عودة عصر اضطهاد الحجاب.
بل طرح كليجدار اقتراحاً بسن قانون لحماية الحجاب في تركيا.
وشكلت أزمة الحجاب في تركيا واحداً من أسوأ الانتهاكات الحقوقية في تركيا على مدار العقود الماضية، حتى إن ابنة أردوغان، وهو رئيس للوزراء، تعلمت في جامعة أمريكية؛ لأنها لم تتمكن من الالتحاق بجامعة تركيا؛ بسبب حظر الحجاب، كما أن الرئيس العلماني السابق أحمد نجدت سيزار لم يكن يدعو قرينة أردوغان للقصر الرئاسي؛ بسبب حجابها، في وقت كان فيه أردوغان صاحب أعلى سلطة تنفيذية في البلاد، بحكم رئاسته للوزراء في ذلك الوقت.
وصلت محنة الحجاب في تركيا يوماً إلى طرد الجنود الذين لديهم أخوات أو أمهات محجبات من الجيش التركي، وإلى إنشاء ما عُرف باسم "غرف الإقناع"، وهي غرف كانت المحجبات يدخلن إليها ويتعرضن لأبشع أنواع التعذيب النفسي والعصبي ليتم إقناعهن بنزع الحجاب مقابل السماح لهن بدخول الجامعات، وتم تبرير هذا التعذيب بأنه محاولة لمنح الحرية الحقيقية للفتيات اللواتي يرتدين الحجاب تحت ضغط الأهل والمجتمع.
وكانت البروفيسور نور سيرتر، الأكاديمية المقربة من حزب الشعب الجمهوري والنائبة بالبرلمان عن الحزب بعد ذلك، هي مهندسة غرف الإقناع.
وفي الفترة التي أعقبت انقلاب 28 فبراير/شباط 1997 ضد رئيس الوزراء المحافظ نجم الدين أربكان، تعرضت نحو 30 ألف طالبة محجبة للإيذاء والطرد من مدارسهن. وبناء على أوامر من كمال كليجدار أوغلو، الذي كان مديراً عاماً لمؤسسة الضمان الاجتماعي التركية، فُتحت تحقيقات مع النساء اللاتي ذهبن إلى العمل بالحجاب.
ورفعت تركيا الحظر المفروض على ارتداء طالبات الجامعات الحجاب في عام 2010، كما سمحت بارتدائه في المؤسسات الحكومية في عام 2013 والمدارس المتوسطة في عام 2014، ثم تم كسر الحظر عنه في مؤسسات الشرطة والجيش.
لماذا قضية الحجاب في تركيا جوهرية بالانتخابات؟ فتِّش عن الليبراليين والخارجين من الفقر القديم
هذه مسالة جوهرية في الانتخابات التركية، لأنه بينما لكل من الحزب الحاكم وحلفائه والمعارضة كتلتان صلبتان داعمتان بقوة لكل طرف ويصعب تغيير موقفهما، فهناك كتلة لم تحسم قرارها.
وفي الأغلب الكتلة الكاسحة من المحجبات وأسرهن في تركيا سوف يصوّتن لأردوغان، بما يجعل كليجدار في غنى عن مخاطبة هذه الأصوات بما يعنيه ذلك من احتمال إغضاب الأصوات المغالية في عدائها للحجاب.
ولكن هناك كتلة حائرة في المنتصف تدور الحملات الانتخابية بالأساس على جذبها.
كتلة المعارضة الصلبة هي العلمانيون الأقحاح أو الراديكاليون الذين ما زالوا معارضين للحجاب، ولا يعجبهم مغازلته، بينما كتلة حزب العدالة تتركز في المحافظين والإسلاميين، أما القوميون والأكراد فهم منقسمون، ويتنافس عليهم الطرفان.
ولكن في المنتصف، هناك كتلة حائرة أخرى بزغت بشكل واضح خلال هذه الانتخابات، يمكن وصفها بالليبرالية أو العلمانية المتصالحة مع الدِّين.
هذه الكتلة يمكن تقسيمها لقسمين؛ كتلة علمانية ليبرالية، وهي ضئيلة، وغير متدينة على الإطلاق، ولكن لا يعجبها من منطلق حقوقي وإنساني التمييز ضد الحجاب في تركيا.
وهناك كتلة أكبر عدداً من الجيل الجديد المنحدر من أصول محافظة أو من أصول اجتماعية قريبة من المحافظين، هذا الجيل تلقى تعليمه في ظل برامج حزب العدالة لتوسيع التعليم ومختلف الفرص لأبناء الطبقات والمناطق المهمشة.
وهذا الجيل انتقل اجتماعياً، بفضل هذه الفرص، من الانتماء للطبقات الفقيرة والمهمشة المحافظة غالباً إلى الطبقة الوسطى وحتى العليا.
وبعضهم يحاول أن يؤكد انتماءه لهذه الطبقات، ويتبنى نمط حياة خليطاً من العلماني والمحافظ، مع تأثر متزايد بالقيم الليبرالية الغربية، هذا الجيل (كثير من نسائه غير محجبات)، جزء منه بدأ يبتعد عن حزب العدالة، جزء من ذلك مرده تمرد جزئي على الآباء الفقراء والأمهات المحجبات الذين كانوا يصوّتون للعدالة الذي انتشلهم من الفقر والتمييز.
كما أن بُعد الزمن عن أوقات الاضطهاد والتمييز والمعاناة الاقتصادية يجعلهم يشعرون أن المميزات والحريات الحالية أمر بديهي وليست إنجازاً، وهذه طبيعة بشرية أن يفقد الإنسان تقدير المميزات التي فيه يداه مع طول أمدها.
كما أن هذا الجيل من الشباب والشباب عادة يميل للتمرد على السلطة القائمة، سواء سلطة الأسرة أو الرئيس أو الحزب الحاكم، كما أن الحالة النضالية المزعومة التي تحاول المعارضة تصوير نفسها بها يمكن أن تؤثر فيه، متجاهلين أن أحزاب المعارضة الحالية كانت أحزاباً حاكمة تضطهد المحافظين والأكراد، وتسببت في انهيار البلاد الاقتصادي والسياسي في نهاية القرن العشرين، كما أن مرشح المعارضة رجل كهل لا يمثل على الإطلاق الجيل الجديد، ولا تركيا المستقبل؛ بل ماضيها القريب الإشكالي.
بل ما زالت تتبنى ممارسات سلطوية إن سنحت لها الفرصة ضد المحجبات.
هذا الجيل وهذه الفئة التي صعدت اجتماعياً في تركيا تتعرض لدعاية مفادها هو أنه لا خوف من العودة للماضي في تركيا، وأن المعارضة تغيرت، ولم تعد تتبنى سياسات عنصرية تجاه المحافظين ومجمل الطبقات الأفقر وسكان مناطق الأناضول التي ينحدرون منها غالباً، وأن جدل الحجاب في تركيا انتهى.
كما أن الأكراد كانوا من أكثر المستفيدين من إصلاحات حزب العدالة، والتي لم تؤدِّ فقط للاعتراف بالهوية الثقافية الكردية وتحسين مناطقهم، ولكن أنهت التمييز الاجتماعي الذي يتعرضون له من نخب أنقرة إسطنبول وأزمير ذات التوجه العلماني القومي الرديكالي باعتبارهم أكراداً ومحافظين وأبناء المناطق الشرقية الفقيرة المهمشة في ذات الوقت.
وبعد عقود من المعاناة من الخطاب العلماني القومي الراديكالي، يحاول حزب الشعوب الديمقراطي إقناع ناخبيه بأن المعارضة ستمنح الأكراد حقوقاً إضافية، رغم أن قيادات المعارضة خليط من العلمانيين الراديكاليين، مثل حزب الشعب الجمهوري الذي ينفر بطبيعته من المحافظين الذين يمثلون الشطر الأكبر من الأكراد، بجانب خطابه القومي الحاد، إضافة لحزب الجيد الذي يمكن وصفه بالقومي شبه المتطرف.
ابتعاد هذا الجيل وهذه الفئات المحتمل عن حزب العدالة أو عدم قلقهم من نكسة في الحريات الدينية، هو مفارقة كبرى؛ لأن هذه الخسارة المحتملة لهذه الفئة لحزب العدالة سببها نجاحاته وطول فترة حكمه، فقد صعد هذا الجيل اجتماعياً وتحرر من مخاوف الماضي وأصبح يعتبر الحريات الاجتماعية والمزايا الاقتصادية بديهية بفضل سياسات العدالة.
إليك الحزب الوحيد الليبرالي بتركيا والمؤمن بالحريات الاجتماعية للجميع
ولكن هل فعلاً المعارضة صادقة في موقفها من الحجاب ومجمل المحافظين أم أنها مجرد مناورة انتخابية؟
وهل يمكن وصف المعارضة التركية بأنها ذات توجهات ليبرالية وأنها ستعلي من شأن الحريات في مواجهة استبداد أردوغان، المزعوم غربياً؟
بعيداً عن المسميات الأيديولوجية الرسمية التي تصف حزب الشعب باليساري، فإن الحزب الوحيد ذا النزعة الليبرالية واليسارية في تركيا هو حزب العدالة (يمكن اعتبار حزب الديمقراطية والتقدم الذي يترأسه القيادي المنشق عن حزب العدالة والوزير السابق علي بابا جان كذلك، ولكنه ضعيف للغاية).
أما أحزاب المعارضة الثلاثة الرئيسية فهي كالتالي: حزب الشعب الجمهوري فهو علماني راديكالي مع نزعة قومية حادة ضد المختلف خاصة الأجانب، وتركز شعبيته في أوساط الأثرياء والطبقات الحاكمة القديمة، بشكل يجعله بعيداً تماماً عن وصف اليساري بأي معيار، وهو أمر سبق أن قاله مساعد الرئيس التركي فؤاد ياسين أقطاي، عندما علق على ممارسات المعارضة العنصرية ضد اللاجئين السوريين بالقول إنه في كل العالم المعارضة اليسارية داعمة للاجئين إلا تركيا الحزب الحاكم هو من يدعمهم، والمعارضة تضطهدهم.
أما الحزب الجيد، فهو حزب قومي شبه متطرف، ورغم أنه منشق عن الحركة القومية، ولكن الفرق الجوهري بينهما بالإضافة للموقف من شخص أردوغان هو أن الحركة القومية لديها توجه إيجابي نحو الدين باعتباره من مكونات الهوية التركية، (ولكنه غير إسلامي) ويعتبر الحجاب من عادات الشعب التركي في الأناضول، بينما "الجيد" زعيمته مشهورة بمعاداتها للحجاب.
وهناك حزب الشعوب الديمقراطي الكردي رغم أنه يحاول أن يقدم في الغرب كحزب يساري يناضل من أجل حقوق الأكراد مع طابع ليبرالي متزايد، إلا أنه حقيقة يمثل الوجه الكردي لحزب الشعب، فهو حزب معاد للمحافظين والمتدينين الأكراد، ولديه موقف سلبي لا يمكن تجاهله من التدين الكردي، ورغم تسمية نفسه بحزب الشعوب، إلا يبدو واضحاً أنه حزب متطرف من حيث النزعة القومية الكردية، وخاصة عبر علاقته بحزب العمال الكردستاني، وخاصة أن فروع الأخير في سوريا أقامت دولة عنصرية في شمال البلاد تحكم فيها أقلية كردية أغلبية عربية.
تاريخ المعارضة ونهايات الدولة العثمانية يخبرك بإجابة السؤال عن موقفها من الحجاب
لفهم إشكالية خطاب المعارضة وتهافت منطق ليبراليته المحتملة يجب العودة للخطاب السياسي التركي الحاكم قبل ظهور أردوغان؛ بل العودة لنهاية عهد الدولة العثمانية.
جذور السياسة التركية بشكلها الحديث، عسكرية، فهي تعود للضباط الأتراك الذين تلقوا التعليم على النمط الغربي في نهاية عهد الدولة العثمانية التي لم تكن تعرف نفسها كدولة تركية بل دولة إسلامية متعددة الأعراق، كان نخبتها التقليدية هي النخب المسلمة ذات الأصول المسيحية (الانكشارية خرج منها أغلب من تولى منصب الصدر الأعظم والوزراء وقادة الجيش الرئيسي)، يليهم المسيحيون اليونانيون والأرمن الذين سيطروا على الاقتصاد، بينما المتحدثون بالتركية في الأناضول يمثلون الطبقة الثالثة، كان منهم رجال الدين وزعامات المدن والقبائل وأرستقراطية الأرياف، ولكن دورهم في الاقتصاد كان أقل كثيراً من الأقليات المسيحية، ودورهم بالسلطة كان أقل من الانكشارية والمسلمين الأوروبيين الأصل؛ لأن تمثيلهم في الجيش كان يقتصر على قوات السباهية المنتشرة في الأقاليم، والتي باتت أقل أهمية منذ عهد محمد الفاتح بعد صعود دور الانكشارية (تعني بالتركية الجند الجديد).
في مواجهة هيمنة الأجانب والأقليات على الاقتصاد، وضعف الجيش العثماني، وتمردات الأقليات المسيحية في البلقان المدعومة من الغرب وروسيا، ظهرت القومية التركية بين الطلاب وبالأخص الضباط الأتراك أو الضباط المنتمين لأقليات مسلمة قريبة من الأتراك في البلقان والأناضول.
وكانت هناك سمات مميزة للقومية التركية الحديثة سوف تظل عالقة بها منها أن مفهوم التركي لديها لم يقتصر على المتحدثين بالتركية، بل شمل الأقليات الأوروبية المسلمة المتأثرة بالثقافة التركية في البلقان أو تلك الهاربة من روسيا مثل الشركس (تستبعد العرب بينما الأكراد وضعهم مرتبك).
وبالتالي فأنْ تكون مسلمَ الأصلِ مسألة جوهرية في هذا المفهوم؛ لأن معيار الأنتماء الأساسي في الأقاليم الأناضولية والأوروبية للدولة العثمانية كان دينياً، فعند تأسيس الجمهورية التركية الحديثة اعتبر المسلمين اليونانيين المهجرين من كريت أتراكاً، بينما اعتبر المسيحيين المتحدثين بالتركية المهجرين من الأناضول يونانيين، وهو معيار مشابه للمعيار اليوناني المضاد.
المفارقة أن السمة الرئيسية لهذه القومية التي نشأت في أوساط المسلمين في الأناضول والبلقان الأقرب للنمط الأوروبي للحياة، والذين تلقوا تعليماً غربياً هو قلة أو عدم التدين أحياناً وصولاً للنظر للدين أحياناً لأنه سبب تخلف تركيا.
وكان الهدف بناء دولة تركية متجانسة أغلب سكانها مسلمون علمانيون تماماً يعيشون مثل الأوروبيين، ولكن يتحدثون جميعاً اللغة التركية فقط، حتى لو كانوا من أصول بوسنية أو شركسية أو كردية في نقيض تام للتنوع الإثني والديني الذي اتسمت به الدولة العثمانية، والذي سمح للمجموعات السكانية المختلفة بدرجة عالية من الاحتفاظ بالهوية والحكم الذاتي بمن فيهم المسيحيون، وكان هدف المؤسسين للقومية التركية منع التشرذم الذي حدث في نهاية العهد العثماني.
ومع الوقت توالى الصعود المتوازي للمسارين؛ العلمانية الراديكالية والقومية الحادة، وتداخل مع ذلك الفجوة الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة بين النخب العلمانية الصاعدة على مدار عقود ذات نمط الحياة الغربي والطبقة الأفقر المحافظة ذات نمط الحياة التركي التقليدي ذي البعد الإسلامي القوي، خلق هذا جدلاً حول من يمثل تركيا الحقيقية؛ العلمانيون بنمط حياتهم الغربي مع نزعة قومية حادة، أم المحافظون المتدينون الذين يحافظون على العادات التركية الأصيلة بما فيها الدين.
كما خلق هذا النموذج خلافاته الذاتية من اليمين القومي المتطرف وشبه المتطرف وبين اليسار العلماني الراديكالي أو اليسار الثوري الاجتماعي، إضافة لخلافاته مع التيارات الإسلامية.
إضافة لذلك فشل هذا النموذج اقتصادياً واجتماعياً في استيعاب الأعداد المتزايدة من المهاجرين القادمين من الأناضول للمدن الكبرى إسطنبول وأنقرة وأزمير الذين أغرقوا هذه المدن بفيض هجرة يطيح بموجات العلمنة والتغريب السابقة.
ولكن ساعد نجم الدين أربكان، الأب الروحي للأحزاب المحافظة التركية، في إدخال أبناء الطبقة الفقيرة وأبناء المحافظين في الحداثة مع الاحتفاظ بهويتهم، وساعدته في ذلك إصلاحات الرئيس الراحل تورغوت أوزال الاقتصادية والليبرالية.
ولكن النخب العلمانية القديمة لم تتقبل صعود الطبقات المحافظة بقيادتها الحديثة، ولم تعترف بأنه يمكن أن تكون محافظاً أو متديناً وحداثياً، وحاربت وجودهم في المجتمع والمؤسسات، وتركز ذلك على محاربة رمز التدين الأوضح وهو الحجاب.
جاء حزب العدالة ليكسر هذه المعادلة، ويطرح مقاربة جديدة، وهي نموذج تركي ذو بعد إسلامي وآخر حداثي يعيد قراءة الإسلام بشكل حديث لا يتصادم مع الحداثة (ساعده على ذلك أن تركيا على المذهب الحنفي أكثر مذاهب السنة أخذاً بالاجتهاد).
هذا النموذج يقوم على الرأسمالية من جهة ومراعاة جماهيره الفقيرة من جهة أخرى عبر سياسات قوية للضمان الاجتماعي والخدمات الجيدة.
والأكثر لفتاً للانتباه أنه نموذج يتعايش فيه التدين المحافظ مع العلمانية المتحررة، حيث تتصدر مذيعات غير محجبات شاشات القنوات المحسوبة على حزب العدالة الذي رشح بدوره في الانتخابات الأخيرة سيدات غير محجبات؛ بل أحياناً متحررات (رشح الحزب ملكة جمال تركيا السابقة سيدا ساريباش).
كما أن هذا النموذج يعتز بالقومية التركية دون عداء للآخر المختلف إثنياً، سواء كان هذا الآخر علوياً أو كردياً أو عربياً أو أرمينياً أو يونانياً (حاول حزب العدالة في بداية حكمه خلق مصالحة تاريخية مع البلدين دون أن يلقى تجاوباً منهما).
جعل هذا حزب العدالة رغم أنه يفترض أنه محافظ، بمثابة الحزب الليبرالي الوحيد في تركيا إن لم يكن في مجمل تاريخها.
جاءت ليبرالية هذا الحزب من رافدين؛ الأول فكري، يؤمن بالليبرالية الاقتصادية ويريد إحياء إرث التنوع العثماني بشكل حديث، ويرى تركيا نقطة لالتقاء الحضارات وامتزاجها، وأن الحضارة التركية بطبيعتها متنوعة الجذور، كما أن هذا التنوع والانفتاح الليبرالي مفيد للاقتصاد والعلم، ويتفق مع روح الإسلام المبني على الشورى والعدالة.
الرافد الثاني هو أن الحزب في حاجة لهذه الليبرالية، لأنها مفيدة لمؤيديه المحافظين المهمشين سابقاً، كما أنها ساعدته في إنهاء وصاية العسكريين على السلطة (ولهذا تبنّى الحزب أجندة الاتحاد الأوروبي في الإصلاح، ونجح في ذلك باعتراف الأخير).
فالحزب ليس هدفه القضاء على نمط الحياة العلماني المتحرر في تركيا، على ما فيه من مخالفة لما يراه المتدينون صحيح الدين، بل يريد أن يتعايش النمطان المتدين والعلماني جنباً إلى جنب حتى داخل الحزب.
وفي الوقت الذي شهدت فيه تركيا إنهاء التمييز ضد المحجبات ومجمل المحافظين، لم تشهد تراجعاً يذكر في الحريات الاجتماعية، التي تصدم العرب غالباً، وتثير انتقادات من قِبل الإسلاميين العرب المحافظين، (يتهمون أردوغان بالعلمانية)، حتى بعض دعوات أردوغان، مثل دعوته لفرض قيود على بيع الخمور قُرب المدارس، تبدو عاديةً ومقبولة من العلمانيين الأتراك، وحتى مقبولة بالمعايير الغربية.
بل إن تركيا في الأغلب شهدت تزايداً في الحريات الليبرالية الاجتماعية خلال حكم العدالة.
وحتى موقف حزب العدالة وأردوغان من السماح بالمثلية، مشكلته لا تتعلق بالأخير، بل تتعلق بالتطرف الغربي في سياسة التسامح مع المثليين، التي تحولت للترويج لهم، ومواقف أردوغان والعدالة لا تختلف كثيراً عن مواقف اليمين المحافظ في الغرب، ودعنا نتذكر أن المستشارة أنجيلا ميركل في ذروة قوتها رفضت التصويت لصالح تشريع يعترف بزواج المثليين.
كما أن الثقافة التركية بما فيها الثقافة العلمانية ذات الجذور العسكرية متناقضة بطبيعتها مع مثل هذه السلوكيات، ولذا كان لافتاً أنه رغم أن الخطاب الداعم للمثليين أحد دوافع الغرب لمناهضة أردوغان، فإن المعارضة التركية يبدو أنها تفضل عدم التطرق إليه.
يعني كل ما سبق أنه بعيداً عن الادعاءات الغربية غير المستندة لأي أدلة عن استبداد أردوغان، إلا أن الواقع أن حزب العدالة هو الضامن لليبرالية تركية اجتماعية، يتعايش فيها التدين المحافظ مع العلمانية المتحررة، مع قومية معتزة بالذات، ولكن ليست عنصرية ضد الأكراد والأجانب، ولاسيما العرب.
ولكن هل يمكن أن توفر المعارضة مثل هذه الضمانات؟
هل المعارضة ليبرالية، وهل تعهداتها للمحجبات حقيقية أم مناورة انتخابية؟ الإجابة في خطابها السياسي
رغم محاولات المعارضة إظهار خطاب إيجابي إزاء الحجاب في تركيا، فإن الممارسات التي تظهر من منتسبيها ضد اللاجئين العرب، وحتى المحجبات التركيات، تظهر رسالة معاكسة تماماً.
فخطاب المعارضة الذي يشيطن أردوغان وحزبه هو خطاب ممهد للإقصاء بطبيعته، ونواة كتلة المعارضة الصلبة هي كتلة علمانية راديكالية، لديها في الأغلب عداء مزمن مع الحجاب.
وهذه الكتلة الراديكالية علمانياً لا تمثل الأغلبية، إلا أنه ليست هناك ضمانة في حال فوزها، أنه جراء عملية الشيطنة لأردوغان، والتي لا تخفي فيها عزمها الإطاحة بإرثه، حتى المتفق أنه مفيد لتركيا (مثل الهجوم على طائرات بيرقدار التي يتحدث العالم كله عن نجاحاتها، وألّف لها الأوكرانيون أغنية)، فإنها قد تستغل هذه الحالة لشن حملة على الحجاب والمحافظين تعيد تركيا للوراء.
وكذلك ستجدها لدى اللاجئين السوريين
ما يعزز هذا الاحتمال أننا أمام معارضة تحافظ على نهجها القديم في استهداف الضعفاء.
لعقود فاتت كان الضعفاء في تركيا الأكراد والمحافظين، ولكن اليوم بفضل إصلاحات حزب العدالة باتت هاتان الفئتان قوى اجتماعية مهمة، لهما تأثير سياسي كبير، فقررت المعارضة مغازلتهما بشدة.
ولكن الكتلة المستضعفة بالفعل في تركيا، التي ليس لها صوت، هي اللاجئون العرب، لاسيما السوريين، والتي تختبر ليبرالية المعارضة المزعومة.
فلو كانت المعارضة حقاً قد تغيرت وأصبحت ليبرالية تدعم المستضعفين في الأرض، لدعت إلى خيارات عقلانية للتعامل مع ملف اللاجئين، بما في ذلك الضغط على الأسد وأوروبا لحل الأزمة، ولكنها تتبنى خطاباً غوغائياً خطيراً يطالب بطرد اللاجئين فوراً، رغم أنها تعلم أن الأسد لن يقبلهم، وهذا يعني أنها إما ستتسبب في كارثة إنسانية خطيرة لتركيا وأوروبا، أو أنها لن تنفذ تعهداتها.
نحن أمام معارضة رئيسية يقوم خطابها على عنصرية فجة ضد العرب، تخجل أمامها عنصرية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والسياسية الفرنسية اليمينية الموصوفة بالتطرف ماريان لوبان (تتعهد بتقييد وتنظيم الهجرة وليس طرد اللاجئين).
ورغم ذلك فإن هذه المعارضة بخطابها العنصري الفج، تلقى تأييداً وإشادة من صحف ليبرالية ويسارية غربية، قررت أن تكون عمياء اختيارياً.
العنصرية أيديولوجيا واحدة ليست قابلة للقسمة
الخطاب العنصري في حقيقته أيديولوجيا واحدة، فالتيار الذي يحرض اليوم على اللاجئين السوريين سوف يحرض غداً إذا استفرد بالحكم ضد المحافظين، وبعد غد بالأكراد، الذين يحاول حزب الشعوب الديمقراطي اجتذابهم نكايةً في أردوغان، لدعم أحزاب كانت طوال تاريخها وبحكم أيديولوجيتها إقصائية.
وهي ستكون إقصائية ضد الأكراد لعوامل مضاعفة عن إقصائيتها ضد أنصار العدالة، لأن الأكراد بالنسبة لها ليسوا أتراكاً عرقياً، ولأن أغلبيتهم محافظون دينياً ومهمشون اجتماعياً.
سياسات مضرة اقتصادياً بخطة أردوغان لجعل تركيا وجهة الأثرياء العرب والروس
المعارضة التي يتعهد زعيمها كمال كليجدار بمنع بيع العقارات للأجانب فور توليه السلطة ليست عنصرية فقط، بل لا عقلانية، لأنها تتجاهل الفوائد الاقتصادية الجمة لسياسات الانفتاح لحزب العدالة، التي جعلت تركيا ليست فقط ملاذاً للاجئين السوريين المشردين، بما يحمله بعضهم من استثمارات، وبما يوفرونه من عمالة رخيصة، بل جعلتها مركزًا للسياحة والعقارات والتسوق في العالم.
والأهم أن هذه السياسات المعادية للأجانب تهدد وضع تركيا كوجهة مفضلة للأثرياء العرب والروس والأوكرانيين، الذين يُدخلون مليارات الدولارات في عقارات، وهي دولارات ستوضع في مبانٍ ثابتة، أي أنها جاءت لتبقى، عكس الأموال الغربية الساخنة، التي سبق أن أغرقت الاقتصاد التركي في مطلع القرن الحادي والعشرين.
وتهدد مصدر دخل أساسي لتركيا وهو السياحة، خاصة أن السياح العرب والروس والإيرانيين يأتون حتى في أوقات الأزمات، عكس الغربيين الذي ينقطع توافدهم فور حدوث أصغر عملية إرهابية.
إليك السيناريوهات المحتملة في مسألة تعامل المعارضة مع الحجاب والديمقراطية
في الحقيقة، فإن احتمال التزام المعارضة بوعودها بشأن الحجاب في ضوء ممارستها بحق اللاجئين أقل بكثير من الاحتمال المزعوم غربياً بتحول تركيا المفترض لنظام استبدادي إذا استمر حكم أردوغان.
بل الاحتمالان الأقوى في حال فوز كليجدار بالرئاسة، الأول بأن يلتزم بوعوده بإنشاء المجلس الرئاسي، عبر تعيين زعماء أحزاب الطاولة السداسية نواباً، وأن يصدر كل قرار بالإجماع، هو وصفة للشلل السياسي، وحتى الفوضى، كما أن الترتيب للنظام البرلماني سيطلق سلسلة من الخلافات حول شكل هذا النظام والانتخابات.
أما الخيار الثاني فهو أن حزب الشعب، والحزب الجيد سيستغلان حالة التعصب التي انتابت كتلتيهما الصلبة، والتي بدأت تظهر في ممارسات على الأرض قبل الانتخابات، للنكوص عن الوعود، وإقصاء المحافظين، بمن فيهم حلفاؤهما مثل أحمد داوود أغلو وبابا جان.
ومشاركة حزب الجيد اليميني مع حزب الشعب في هذا التحالف الإقصائي معناه أن الأكراد سيحلّ عليهم الدور بعد ذلك في عملية الإقصاء، فيما سيصبح عملية إعادة إنتاج للنظام السابق، الذي أودى بتركيا إلى أسوأ كارثة اقتصادية في تاريخها عام 2001، وهذا السنياريو الأرجح.