مع انطلاق المبادرة السعودية بشأن السودان، يظهر سؤال ملح، هل يمكن أن يؤدي التدخل الخارجي في أزمة السودان إلى إبرام هدنة تفتح الباب لحل سياسي أم أن هذا التدخل سيؤدي إلى تأجيج الصراع، وتحويل البلاد لمناطق نفوذ، وإلى أي مدى تستطيع دول مثل السعودية والإمارات ومصر الضغط على الجيش والدعم لتثبيت وقف إطلاق النار.
وتمثل التحالفات الخارجية للجيش السوداني والدعم السريع واحداً من أكثر جوانب الأزمة تعقيداً وتحديداً علاقة الطرفين بمصر والسعودية والإمارات، كما أن هناك غموضاً حول مدى قدرة الدول الثلاث ومعها الولايات المتحدة على التأثير في مواقف الجيش والدعم، وهل يمكن أن تتفق الترويكا العربية المعنية بالسودان هذه مع واشنطن على حل منطقي وقابل للاستدامة للأزمة أم يؤدي التدخل الخارجي في السودان لتفاقم الأوضاع؟
المبادرة السعودية بشأن السودان تتصدر المشهد ومقترح لإستبعاد البرهان وحميدتي
وبينما يبدو أن الصراع يدخل في مرحلة ثبات وجمود ميداني نسبي، حيث تحصن كل طرف فيما يسيطر عليه، فإن الأطراف الخارجية تكثف الضغط على الطرفين لعقد مفاوضات لوقف إطلاق النار، وقد صرح المتحدث باسم الجيش السوداني العميد نبيل عبد الله، بأن الوسطاء الأمريكيين والسعوديين اقترحوا مدينة جدة لإجراء المفاوضات التي أكد أنها "غير سياسية".
وعقدت الجامعة العربية، يوم الأحد 7 مايو/أيار، دورة غير عادية لوزراء الخارجية العرب لبحث الأزمة في السـودان، بناء على طلب مصر وبالتنسيق مع السعودية، في حين تناقش الإمارات والسعودية مع أطراف غربية تسوية تقترح استبعاد قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) واستبدالهما بشخصيات أخرى من الطرفين، حسبما ورد في تقرير لمركز "أسباب" للدراسات السياسية والاستراتيجية.
ولكن تجدر الإشارة إلى صعوبة تصور تنفيذ هذا المقترح، لأن أياً من الرجلين لن يقبل به على الأرجح، كما أن قوات الدعم السريع وجودها مرتبط بشخص حميدتي وأسرته.
لماذا تتباين مصالح السعودية والإمارات ومصر بالسودان عكس ما حدث بمعظم أزمات المنطقة؟
في معظم صراعات المنطقة منذ بداية هزيمة الربيع العربي في عام 2013، كان هناك محوران أساسيان في المنطقة.. المحور التركي القطري المؤيد، للديمقراطية والإسلاميين المعتدلين، ومحور الدول العربية الثلاث المحافظة مصر والسعودية والإمارات التي كانت تناهض الديمقراطية والإسلام السياسي المعتدل، وفي الدول التي يوجد بها شيعة كان المحور الإيراني يظهر كطرف مستغلاً خلافات الطرفين السابقين (السنيين) لتحقيق المكاسب.
ولكن في السودان، بعد سقوط حكم البشير الذي كان يدعي أنه إسلامي، بدا أن محور الدول العربية الثلاث المحافظة مصر والسعودية والإمارات منتصر، ومؤيد بالكامل للعسكريين الذين أزاحوا البشير ويحاولون التملص من اتفاقات تسليم السلطة للقوى المدنية.
ولكن جاء اندلاع الصراع بين الجيش والدعم السريع ليعيد صياغة المحاور، حيث تبدو مصر أقرب للجيش والإمارات أقرب للدعم، بينما السعودية موقفها أكثر غموضاً، وإن كان يبدو أقرب للحياد.
الإمارات ترى في حميدتي حليفاً ثميناً لأن دوره يمتد لدول الجوار حيث يحتاج الجميع لمرتزقته
يحتل السودان مكانة حيوية في حسابات الإمارات الإقليمية، لأسباب اقتصادية وعسكرية.
ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقعت شركة إماراتية صفقة بقيمة 6 مليارات دولار لتطوير ميناء ومنطقة اقتصادية على ساحل البحر الأحمر في السودان، وهي خطوة لا تنفصل عن رؤية الإمارات الواسعة لخلق تواجد استراتيجي، اقتصادي و/أو عسكري، ممتد من الخليج العربي مروراً بجزر اليمن الاستراتيجية والقرن الإفريقي وحتى السودان وموانئ مصرية على البحر الأحمر.
الدعم الإماراتي لحميدتي قبل الحرب معروف ومثبت، حيث تقوم العلاقة بشكل أساسي على استيراد الإمارات للذهب السوداني الذي يسيطر عليه حميدتي بنسبة كبيرة، وهناك تقارير عن أن السودان يصدر ذهباً للإمارات بقيمة 16 مليار دولار سنوياً، كما أن دور حميدتي لتوريد الجنود السودانيين للإمارات في اليمن وليبيا معروف، ويقر به هو شخصياً.
يمثل حميدتي جزءاً من شبكة غير رسمية إماراتية، فبينما السعودية كان تقليدياً حلفاؤها في المنطقة من الإسلاميين السلفيين (لا سيما المدخلية حالياً) وقطر وتركيا حلفاؤهما، من الإسلاميين المعتدلين والحركيين، ومصر ينظر لها كداعم دائم للمؤسسات العسكرية في المنطقة، فإن الإمارات التي لا تمتلك أبعاداً أيديولوجية ومؤسساتية مماثلة، لجأت للتحالف مع أطراف محلية بأفكار أيديولوجية أقل شيوعاً وأحياناً ينظر لها بريبة في الثقافة العربية، مثل الانفصاليين في اليمن وحفتر (الذي يتحالف مع دعاة الانفصال والفيدرالية ببرقة بشرق ليبيا) وأحياناً الأكراد بنزعتهم الانفصالية في شمال سوريا والعراق.
ولكن حميدتي يمثل نقطة مهمة في تحالفات الإمارات، لأنه لا يوفر لها نفوذاً عسكرياً وسياسياً فقط بل أيضاً مكاسب مالية عبر تجارة الذهب، كما أن تأثير حميدتي يتعدى السودان بمسافة كبيرة واصلاً عبر دوره في توريد المرتزقة وشركات الأمن وتجارة الذهب لدائرة تشمل تشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وليبيا واليمن في بعض الأوقات.
ولكنه لهذه الأسباب يستطيع الاستغناء عن دعم أبوظبي
غير أن المفارقة أن هذا يعطي حميدتي ميزة نسبية؛ لأن معظم الميليشيات نقطة ضعفها الرئيسية هي التمويل الذي يمثل أداة ضغط الداعمين الرئيسية عليها، ولكن حميدتي لديه تمويل ذاتي عبر تجارة الذهب والتهريب في السودان، ورغم أن الإمارات بواب مهمة لذهب حميدتي ولكنه يستطيع إيجاد بديل لها مثل شركة فاغنر الروسية أو غيرها من السبل، فالذهب سلعة لا تبور.
وتعددت التقارير عن دعم الإمارات لحميدتي بعد اندلاع الصراع، حيث قال موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، إن "الإماراتيين يمولون حميدتي، ويزودونه بالأسلحة الثقيلة"، حسبما نقل الكاتب عن مصادر في الجيش السوداني.
وسبق أن قالت مصادر لـ"عربي بوست": الإمارات ساندت الدعم السريع بطائرة إمدادات أرسلتها للحدود بين تشاد والسودان.
لكن يظل الحماس والعلنية التي تدعم الإمارات بها حميدتي أقل وضوحاً حتى الآن، من التدخل الإماراتي في أزمات مثل ليبيا واليمن، وحتى أقل وضوحاً من دعمها المثير للاستغراب لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في حربه ضد متمردي التيغراي عبر قصفهم بالطائرات المسيرة.
ففي أزمة السودان الحالية لا يوجد المحفز التقليدي الأقوى للتدخل الإماراتي القوي وهو وجود الإسلاميين، فدورهم الحالي في الأزمة محدود، رغم ادعاءات حميدتي بأن البرهان متطرف ومتحالف مع الإسلاميين التي لا تؤخذ إقليمياً ولا دولياً ولا داخلياً باستثناء اليسار السوداني.
ولكن هناك دافع أساسي للإمارات للتدخل هو الحفاظ على نفوذها في المنطقة والسودان، والإبقاء على استثمارها الثمين في العلاقة مع حميدتي، الذي يظل كما سبق الإشارة قادراً على الاعتماد على الذات نسبياً وإيجاد بديل لأبوظبي إذا هجرته.
الدور الإماراتي قد يغضب القاهرة ولكنها لا تمتلك رداً عليه
في المقابل، فإن الدعم الإماراتي لحميدتي يغضب بالتأكيد حليفة أبوظبي الكبرى القاهرة الداعمة للجيش السوداني، حيث سبق أن نقل عن مسؤولين مصريين، ما معناه أن دول الخليج تتعامل مع السودان كأنه لعبة سياسية، بينما هو أمن قومي مصيري لمصر.
ولكن القاهرة هي التي تحتاج إلى أبوظبي، خاصة في ظل أزمتها الاقتصادية، وبالتالي فإن مصر لا تمتلك أدوات ضغط تذكر على الإمارات لتغيير سياستها في السودان، ولا تمتلك ترف معارضتها علناً على الأقل، وهي تعتمد على حسن نوايا أبوظبي في هذا الملف، وهو ما ظهر في الوساطة الإماراتية لإطلاق الجنود المصريين الذين أسرتهم قوات حميدتي في بداية الصراع.
ومع تفاقم حدة الأزمة بين حميدتي وبين البرهان في فبراير/شباط الماضي زار قائد الدعم السريع الإمارات لمدة أسبوع لبحث تطورات الوضع ومآلاته، وقبل بدء الاقتتال بيومين زار رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد القاهرة للقاء نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، وهو ما قد يشير إلى محاولة الإمارات الضغط على الجيش السوداني عبر حليفه المصري للتفاهم مع حميدتي والتخلي عن إجراءات تهميشه.
كما عمل الإعلام المحسوب على الإمارات خلال الأيام الماضية على إعادة تأهيل صورة حميدتي باعتباره الداعم لعملية التحول للحكم المدني في مواجهة تمسك البرهان ببقاء نفوذ الجيش وتحالفه مع فلول نظام البشير من الإسلاميين.
وعلى الرغم من هذه الروابط بين الإمارات وحميدتي، يقول خبير في الشأن الخليجي فضل التحفظ على هويته، إن أفضل وصف لموقف أبو ظبي في النزاع هو "البراغماتية التي تصل إلى مستوى اللامبالاة". ويضيف لوكالة الأنباء الفرنسية: "إذا استمرت الحرب، فهذا ليس بالضرورة أمراً سيئاً من وجهة نظر روسية أو إماراتية". ويشير إلى أن الوضع الحالي "يتيح لدولة الإمارات الاحتفاظ بنفوذها، وهو ما قد لا يكون متاحاً في ظل وجود سلطة ذات هيكلية واضحة وجيش لا منازع له".
السعودية: الأخ الأكبر الذي يسعى للوساطة بين الطرفين
يمثل السودان تقليدياً في الاستراتيجية السعودية موقعاً مهماً على البحر الأحمر، لذا تفرض ضرورات المملكة الجيوسياسية عدم وجود سلطة معادية فيه. لذلك؛ كانت السعودية من أبرز الداعمين الاقتصاديين للسودان منذ سبعينيات القرن الماضي.
وبينما يكاد يكون موقف مصر والإمارات معروفاً تماماً، فهما متهمتان بالانحياز لطرف بعينه تبدو السعودية أقرب للحياد، وهي من ناحية أخرى لها تأثير كبير في الشأن السوداني عبر المساعدات الاقتصادية والتجارة الواسعة مع الخرطوم والجالية السودانية في المملكة، وروابط محتملة مع بعض القوى السلفية والدينية التقليدية بالبلاد وروابط عشائرية (جذور كثير من عشائر السودان تعود لهجرات ليست بعيدة من الحجاز).
والرياض لها صلة وثيقة برئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان الذي كان مسؤولاً عن القوات السودانية باليمن التي حاربت لصالح الرياض، وكذلك لديها علاقة بحميدتي الذي قام بتوريد جنود من قوات الدعم السريع، والمقاتلين غير النظاميين لليمن، وقيل إن المملكة قدمت أسلحة للدعم السريع مشتراة من صربيا لتحارب في اليمن، رغم أنه على الأرجح علاقتها مع حميدتي ليست وثيقة مثل علاقة الإمارات به.
ولذا لم يكن غريباً أن تتحول الرياض إلى قائدة المبادرة الوحيدة للوساطة في أزمة السودان، مدعومة أمريكياً، حيث كانت توصف أحياناً بالمبادرة السعودية الأمريكية، علماً بأن الحديث جرى في البداية عن مبادرة مصرية ثم مصرية سعودية ثم سعودية أو سعودية أمريكية.
ويبدو هذا طبيعياً بالنظر إلى أن مصر ينظر لها بريبة من قبل القوى المدنية ومتهمة من الدعم السريع بأنها تدعم الجيش، والإمارات متهمة في المقابل، بدعم الدعم رغم أن الجيش السوداني يقول ذلك تلميحاً لا تصريحاً.
مأزق مصر في السودان.. دعم سري محتمل للجيش وحياد علني لايصدقه أحد
من الناحية الرسمية الشكلية تتبنى مصر خطاباً حذراً أقرب للحياد في السودان، عكس مواقفها الدائمة من دعم المؤسسات العسكرية ومؤسسة الرئاسة في أي أزمات إقليمية.
وقبل اندلاع الصراع، دعمت القاهرة العسكريين في السودان بشكل أثار انتقادات القوى المدنية، واستضافت المجموعة المدنية الرافضة للاتفاق الإطاري لعرقلة تنفيذه بالتوازي مع تعميق العلاقة المستمر مع قيادة الجيش.
وتزعم تقارير أن القاهرة قدمت دعماً عسكرياً جوياً للجيش السوداني في بداية المعركة الحالية، حيث سبق أن نقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية عن مصدر عسكري سوداني أن القاهرة نفذت غارة ضد قوات حميدتي، (ليس واضحاً بعد أم قبل اندلاع القتال مباشرة)، وأنها أرسلت طائرات حربية وطيارين لدعم الجيش السوداني.
كما أن حميدتي سبق أن قال في تصريح تليفزيوني إن قواته تعرضت لخسائر بشرية كبيرة بسبب غارة نفذتها مصر، ثم استدرك تصريحه وكأنه زلة لسان قائلاً: "نفذتها قوى أجنبية"، فيما لا تلجأ وسائل إعلامه وبعض مسؤوليه لهذه المواربة بل تتهم مصر علناً بالتدخل العسكري خاصة في بداية الأزمة.
وعندما اقتحمت قوات الدعم السريع مطار مروي بشمال السودان، حيث كان يوجد الجنود المصريون وطائرات ميغ 29 المصرية، قام أفراد الدعم بالتقاط صور وفيديوهات لها، معتبرين أنها دليل على الاحتلال المصري، حسب وصفهم.
ولكن الدور المصري وحده ليس حاسماً ولا وحيداً في التأثير على مواقف الجيش السوداني في ظل قدرة أطراف أخرى على الضغط على الجيش اقتصادياً مثل السعودية والإمارات، أو سياسياً مثل الولايات المتحدة، التي ربما لا تنوي ممارسة ضغوط فورية على البرهان؛ باعتبار أن إضعاف حميدتي المقرب من روسيا يمثل مصلحة أمريكية.
وليس من المستبعد أن تلجأ القاهرة إلى تقديم دعم أوضح للجيش السوداني إذا رأت أن السلطة المركزية في السودان ستتعرض للهزيمة والانهيار، بما يمثل تهديداً لمصالح مصر، حسب تقرير مركز أسباب.
فاستمرار القتال يضعف من موقف القاهرة – المتراجع أصلاً- في أزمة سد النهضة، وسيكون من المتعذر على مصر بناء توافق مع السودان في مواجهة إثيوبيا إذا تدهورت الأوضاع في السودان إلى فصائل متحاربة بدلاً من حكومة مركزية يسيطر على قرارها قادة الجيش.
كما أن هناك مؤشرات على أن إثيوبيا أقرب لحميدتي، خاصة في ظل موقف الجيش السوداني الصارم بشأن منطقة الفشقة السودانية التي انتزعها قبل فترة من الإثيوبيين، وهو الأمر الذي يجعل صعود حميدتي للسلطة معناه اقتراب الخرطوم من أديس أبابا، خاصة أن قائد قوات الدعم السريع يغازل القوى المدنية التي تنظر بشكل إيجابي لآبي أحمد وسلبي للنظام في مصر.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تدفق اللاجئين عبر الحدود المصرية السودانية ينذر بمزيد من التداعيات الاقتصادية في وقت تعاني فيه القاهرة بالفعل. كما من المرجح تنامي أنشطة التهريب عبر الحدود كلما تدهورت الأوضاع وطال أمد الأزمة في السودان؛ مما سيكون له انعكاسات أمنية سلبية على مصر.
الدور الخليجي يهمش القاهرة
سواء تم هذا بقصد أم لا؛ فإن الدور السعودي والإماراتي منذ سقوط نظام البشير همّش الدور المصري في السودان وقيّد فاعليته بصورة لافتة، حسب تقرير مركز أسباب.
فباتت الرياض وأبوظبي تتقاسمان النفوذ في السودان على حساب النفوذ المصري التاريخي. فبينما قامت المقاربة المصرية على الاستثمار في الجيش كمؤسسة مركزية تقليدية، راهنت السعودية والإمارات على إضعاف دور الجيش السياسي لإبعاد شبح الإسلاميين.
تجلى هذا في الاتفاق الإطاري الذي لم يكن محل ترحيب مصري، ثم بات أكثر وضوحاً في تحالف القوى السياسية الموالية للإمارات مع "حميدتي" تحت شعار مواجهة الإسلاميين في الجيش. عند بدء القتال؛ مثلت اتصالات وزير الخارجية الأمريكي مع وزيري خارجية السعودية والإمارات لبحث الأزمة، ثم مساعي عقد المفاوضات في جدة.
كل ذلك مؤشرات مهمة على حدود دور مصر التي رغم تعزيز تحالفها مع البرهان، كانت قدرتها على توفير الدعم اللازم للبرهان، دائماً محدودة في ظل قصور الموارد المصرية اقتصادياً وتراجع نفوذها في المنطقة سياسياً، بجانب حساسية مسألة التدخل العسكري المباشر وعدم جدواها المحتملة في ضوء الطابع الميليشياتي للدعم السريع، كما أن تقديم أسلحة وذخائر سراً للجيش السوداني وهو الخيار الأرجح للقاهرة، يظل له حدوده في الفاعلية وقد يكون معرضاً للكشف مما يعزز الخطاب المناهض لمصر في السودان.
رغم هذه الخلافات الدول الثلاث يمكنها التوافق على حل
ولكن اللافت أن الدول الثلاث، السعودية ومصر والإمارات، بصفة عامة تحرص على إدارة تبايناتها الإقليمية، بما يضمن عدم تضرر علاقاتها الاستراتيجية.
لكنّ تزايد وتعدد أوجه هذه التباينات مؤخراً، يجعل علاقات هذه الدول أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. حيث تتفهم الأطراف الإقليمية والدولية أهمية السودان بالنسبة لمصر، لكنّ النفوذ السعودي والإماراتي بات أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه.
وبينما يمكن للقاهرة التدخل في الصراع لترجيح كفة الجيش، فإن نفوذ كل من السعودية والإمارات سيظل ضرورياً للتوصل لتسوية في نهاية المطاف، خاصة أن المؤشرات حتى الآن ترجح أن الأطراف الثلاثة تميل لاحتواء الصراع ووقف المعارك، حتى وإن ظلت هناك تباينات بينها حول طبيعة الحل السياسي الذي تفضله كل منها.
يجب ملاحظة أن التباينات بين الدول الثلاث ليست جذرية ولا أيدولوجية، كما أنه ما زال هناك حد أدنى من التنسيق والتفاهم بين الدول العربية الثلاث رغم تراجع درجته في العامين الأخيرين (كما بدا في التوتر المصري السعودي بشأن شروط حزمة الإنقاذ المالية وتدفق الاستثمارات للقاهرة).
تسوية تخالف نهج القاهرة التقليدي.. هل تطرح السعودية والإمارات حلاً على نمط حزب االله؟
وبالنظر لحاجة القاهرة للإمارات والسعودية في ملفي السودان والاقتصاد على السواء، وبالنظر للعلاقة بين الدول الثلاث وبين أطراف النزاع، فإن هذا يتيح بدعم أمريكي فرصة للدفع باتفاق لوقف إطلاق نار وفتح أفق تسوية سياسية، عبر المبادرة السعودية بشأن السودان.
ولكنها تسوية لن تكون أقرب لرغبات القاهرة في انفراد الجيش السوداني بالسلطة، وتأكيدها على شرعية المؤسسة العسكرية، بل على الأغلب ستفضي إلى اتفاق لتقاسم السلطة والنفوذ يرسخ ويشرعن ازدواجية توزيع القوة العسكرية في البلاد، حالياً، مع إعطاء نصيب محدود للقوى المدنية المتشرذمة والمتنازعة على الشرعية.
نظرة مصر للوضع السوداني تأتي من منطلق مصلحتها الذاتية ونظرتها لنفسها، فطبيعة الدولة المصرية المركزية تنفر من الميليشيات والأحزاب، وتفتت السلطة أو تعدد مراكزها.
بينما خبرة دول الخليج السياسية خاصة في الأزمات الإقليمية تعاملت مع هذا النموذج مثلما هو الأمر في اليمن ولبنان والعراق، بل إن دول الخليج ذاتها رغم وحدة أنظمتها الداخلية فإنها تعرف ظاهرة تعدد الأجنحة في السلطة وتعدد مراكزها تحت مظلة قيادة أبوية حازمة تترأس الجميع.
قد يؤدي ذلك إلى الوصول عبر المبادرة السعودية بشأن السودان، إلى نموذج أقرب للنموذج اللبناني، حيث تمت شرعنة حزب الله رسمياً كقوة رسمية موازية للجيش (وأعلى منه فعلياً) مع دور رئيسي إن لم يكن مهيمن للحزب سياسياً عبر تحالفاته الواسعة المحمية بقوة سلاحه.
وهو ما يمكن أن يتكرر في السودان، حيث يمكن أن يصبح حميدتي قوة سياسية شرعية تدخل الانتخابات في ظل شعبيته في الغرب السوداني وإمكانياته المالية وتحالفه المحتمل مع القوى المدنية وتحديداً ائتلاف الحرية والتغيير- المجلس المركزي الذي يصور بعض أعضائه حميدتي كمقاتل من خارج النظام جاء من الغرب السوداني المهمش ليتخلص من هيمنة النخب المنحدرة من الوسط السوداني.
كل ذلك مع احتفاظ الرجل بقوته العسكرية بهيكل منفصل وغير خاضع للقيادة العسكرية للجيش.
الفارق أن العلاقة بين الجيش السوداني والدعم أسوأ من علاقة حزب الله والجيش اللبناني
قد تكون أكبر مشكلة أمام مثل هذه التسوية التي قد تخرج من المبادرة السعودية بشأن السودان أن الطرفين ما زال لديهما الموارد والرغبة في استمرار القتال وحسم الصراع عسكرياً (رغم صعوبة ذلك)، فكما سبق الإشارة فإن حميدتي لديه موارد ذاتية، والجيش السوداني لديه موارد الدولة السودانية رغم أنها مثقلة بالأعباء.
وبالتالي قد يستغرق الأمر وقتاً للتوصل لمثل هذه التسوية، حتى يُستنزف الطرفان ويتبين لهما صعوبة الحسم عسكرياً أو تلوح الدول العربية الرئيسية والولايات المتحدة بعقوبات على الطرف المعرقل للاتفاق.
كما أن الفارق بين النموذج اللبناني وبين النموذج السوداني المحتمل أن الجيش اللبناني تاريخياً علاقته ليست متوترة بحزب الله؛ لأن هناك تأثيراً لحزب الله على الجيش عبر المجندين والضباط الشيعة والضباط المسيحيين المؤيدين لحليفيه الرئيسين السابقين ميشال عون وإميل لحود، بجانب الانضباط النسبي للطرفين، وخطاب حزب الله الإيجابي تجاه المؤسسة العسكرية اللبنانية، مما يجعل العلاقة على الأرض جيدة بين الجيش والحزب.
بينما قوات الدعم السريع أصبح بينها وبين الجيش السوداني دماء بعدما كانا يتشاركان السلاح والخبز.
كما أن الجيش السوداني الذي كان ينظر للدعم السريع كمجرد ميليشيات جند هو أعضاءها من مقاتلين غير منضبطين بعضهم يقال إنهم غير سودانيين، لن يقبل بسهولة أن تقاسمه هذه الميليشيات السلطة والمكانة.