المحادثات بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي في السعودية تعتبر الفرصة الأخيرة لإنقاذ السودان من السقوط في مستنقع حرب أهلية طويلة الأجل، فما احتمالات نجاح الوساطة هذه المرة؟
كان السودان، يوم 15 أبريل/نيسان، قد شهد انفجار الموقف المتوتر بين الرجلين القويين المتنافسين على السلطة في البلاد: الجنرال عبد الفتاح البرهان، الحاكم الفعلي للبلاد، قائد القوات المسلحة السودانية، والجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم حميدتي، والذي يقود "قوات الدعم السريع"؛ حيث بدأت حرب شوارع في الخرطوم، ثم امتدت إلى جميع أنحاء البلاد.
ومنذ أن وقع المحظور في السودان، واشتعلت الحرب بين الجيش والدعم السريع، تم الإعلان عن أكثر من هدنة لم يصمد أي منها، في ظل اقتناع كل طرف بقدرته على تحقيق الانتصار عسكرياً ومن ثم الاستيلاء منفرداً على السلطة في البلاد، لكن الواضح بعد دخول الاشتباكات أسبوعها الرابع أن هذا السيناريو ليس وارداً، على الأقل في المستقبل المنظور.
مفاوضات جدة بوساطة السعودية
تأتي المحادثات بين طرفي الصراع في السودان، والتي انطلقت في جدة السبت 6 مايو/أيار، في إطار مبادرة أمريكية سعودية تعتبر أول محاولة جادة لإنهاء القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، والذي حول أجزاء من العاصمة الخرطوم إلى مناطق حرب وقوَّض خطة مدعومة دولياً تهدف للانتقال للحكم المدني بعد اضطرابات وانتفاضات استمرت لسنوات.
وقالت وزارة الخارجية السعودية، في بيان، إن محادثات "تمهيدية بدأت السبت وستستمر خلال الأيام التالية على أمل الوصول إلى وقف فعال ومؤقت لإطلاق النار حتى يمكن إيصال المعونات الإنسانية لمن هم في حاجة إليها"، بحسب رويترز.
الهدف من هذه المفاوضات إذن هو التوصل لوقف مؤقت لإطلاق النار، على أمل أن يكون ذلك الخطوة الأولى على طريق إنهاء الاقتتال والعودة إلى المسار السياسي مرة أخرى، وفي ظل المعطيات المتشابكة المحيطة بهذا الصراع، تأمل الأطراف جميعاً، داخلياً وخارجياً، في نجاح هذه الوساطة.
لكن الأمنيات شيء والواقع شيء آخر، فالواقع تحكمه المصالح وحساباتها. وأحد أبرز حقائق هذا الواقع هو أن طرفي الصراع في السودان لهما داعمون خارجيون لن يقبلوا باختفاء أحد الطرفين من المشهد بطبيعة الحال، وهنا تكمن المعضلة الرئيسية، بحسب أغلب الخبراء والمراقبين.
وبينما يسعى الوسطاء إلى إيجاد مسار يفضي للسلام، أوضح الجانبان أنهما سيناقشان فقط هدنة إنسانية ولن يتفاوضا لإنهاء الحرب. فقد أكد قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، مشاركة جماعته في المحادثات قائلاً إنه يأمل في أن تحقق الهدف المرجو منها وهو فتح ممر آمن للمدنيين.
وكان حميدتي قد تعهد إمّا بالقبض على قائد الجيش الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أو قتله. وثمة أدلة على الأرض تشير إلى أن الجانبين ما زالا عازفين عن التوصل لحل وسط يوقف إراقة الدماء.
ويرأس البرهان، العسكري المخضرم، مجلس السيادة الحاكم الذي تشكل بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019 وبعد انقلاب عسكري عام 2021، بينما يتولى حميدتي، وهو قائد ميليشيات سابق صنع اسمه في صراع دارفور، منصب نائب رئيس المجلس.
وقبل اندلاع القتال، اتخذ حميدتي خطوات مثل التقارب مع التحالف المدني بما أشار إلى أن لديه خططاً سياسية، وألقى البرهان بمسؤولية الحرب على "طموحات" حميدتي.
وتؤكد التصريحات الصادرة من السعودية أن الوفدين لا يُبديان أي استعداد للحديث في أمور سياسية، وأن المحادثات تتركز على التوصل إلى هدنة بطابع إنساني؛ مما يشير إلى انعدام الثقة بين الطرفين من جهة، وإصرار كل طرف على قدرته على حسم الأمر ميدانياً على الأرض من جهة أخرى.
كيف يبدو الوضع الميداني في السودان؟
يشير أحدث التقارير عن الأوضاع على الأرض إلى دخول الاشتباكات المسلحة في حالة أقرب للجمود، في ظل تمترس كل طرف في المناطق التي يسيطر عليها، مع استمرار القتال دون توقف تقريباً.
إذ دار قتال في جنوب العاصمة الخرطوم الأحد 7 مايو/أيار، بينما تبدو الأوضاع في دارفور أكثر حدة، وبشكل عام تدهور الوضع الأمني في البلاد بصورة مرعبة. وتسببت المعارك منذ اندلاعها منتصف أبريل/نيسان في مقتل مئات الأشخاص وإصابة الآلاف وعرقلة إمدادات المساعدات وفرار 100 ألف لاجئ إلى خارج البلاد.
مناهل صلاح (28 عاماً)، وهي طبيبة في معمل للتحاليل، استقلت رحلة لمن يتم إجلاؤهم من بورتسودان إلى الإمارات، وقالت إن أسرتها اختبأت لثلاثة أيام في منزلهم القريب من مقر الجيش في العاصمة قبل أن تسافر بعد ذلك للمدينة المطلة على البحر الأحمر. وقالت لرويترز: "نعم أنا سعيدة بالنجاة… لكنني أشعر بحزن عميق لأنني تركت أمي وأبي في السودان وحزينة لكل هذا الألم الذي يحدث في وطني".
وقال عبد القادر (75 عاماً) الذي استقل طائرة إجلاء متجهة للإمارات: "حالفنا الحظ أن نسافر لأبوظبي لكن ما يحدث في الخرطوم التي قضيت فيها كل سنوات عمري أمر مؤلم… ترك حياتك وذكرياتك هو أمر لا يمكن وصفه".
ويسعى الآلاف للمغادرة عبر بورتسودان على متن قوارب متجهة للسعودية أو الدفع مقابل رحلات جوية تجارية باهظة الثمن للرحيل من المطار الوحيد الذي يعمل في البلاد أو من خلال رحلات الإجلاء. بينما تشهد المعابر البرية، سواء مع مصر أو جنوب السودان أو تشاد طوابير ممتدة من النازحين الهاربين من جحيم القتال.
ومع استمرار المعارك في الخرطوم، توشك جبهة إقليم دارفور (غرب) أن تشتعل مجدداً بعد أعوام قليلة من خمود بركان التمرد فيها. ووضع دارفور أعقد من الخرطوم؛ بسبب الحساسيات القبلية والعرقية بين القبائل العربية والقبائل الإفريقية، وانتشار حركات التمرد السابقة بها، وإمكانية انخراطها في الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، بحسب تقرير للأناضول.
وتحاول حركات التمرد السابقة في دارفور، أخذ موقف محايد من الصراع الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع، إلا أن حركات التمرد الدارفورية السابقة شاركت بشكل غير مباشر في القتال إلى جانب الجيش ضد قوات الدعم السريع، تحت لواء "اللجنة الأمنية المشتركة"، المشكلة من وحدات من الجيش وقادة حركات التمرد السابقة.
وهذا ما دفع وزير الدفاع السوداني ياسين إبراهيم ياسين، إلى التأكيد بأن "جميع الحركات المسلحة تعمل مع القوات المسلحة النظامية جنباً إلى جنب دفاعاً عن الوطن"، الأمر الذي تحفظت عليه الحركات المسلحة التي تحاول أخذ مسافة بينها وبين "اللجنة الأمنية المشتركة" رغم أنها جزء منها، بهدف عدم الزج بالإقليم في أتون الحرب مجدداً.
وتشكلت اللجنة الأمنية المشتركة، بعد "اتفاق جوبا للسلام"، الموقع بين الحكومة وبعض حركات التمرد في دارفور والجنوب الجديد، في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بعد نحو عام من سقوط نظام البشير، وهذا ما يفسر عدم سقوط ولاية شمال دارفور ومركزها الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، بيد قوات حميدتي، رغم أنها مسقط رأس الأخير.
بينما سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة نيالا، مركز ولاية جنوب دارفور، في حين يشتعل القتال في مدينة الجنينة، مركز غرب دارفور، والتي كانت المعقل الرئيسي للحركات المسلحة في زمن التمرد، خاصة أنها مفتوحة على الأراضي التشادية.
لكن محاولة قوات حميدتي، السيطرة على كامل إقليم دارفور بولاياته الخمس، من شأنه أن يدفع حركات التمرد الدارفورية السابقة للقتال إلى جانب الجيش؛ ما سيقلب معادلة التحالف التي كانت قائمة في الحرب التي اندلعت ما بين عامي 2003 و2019.
ويضم إقليم دارفور 5 ولايات تتمثل في: شمال دارفور، وجنوب دارفور وغرب دارفور، وشرق دارفور ومركزها زالينجي، ووسط دارفور ومركزها الضعين، ويترأس الإقليم حالياً مني أركو مناوي، زعيم حركة تحرير السودان (المتمردة سابقاً)، والتي يقودها جناحها الآخر عبد الواحد نور.
ما فرص نجاح الوساطة في إنقاذ السودان؟
الموقف يبدو ضبابياً بالمرة في هذه المرحلة؛ حيث تسارع دول المنطقة المعنية مباشرة بالصراع إلى إيقاف القتال، خاصة مصر التي تخشى من التداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية السلبية للغاية في حال امتد الصراع، والسعودية أيضاً التي تمثل الاستثمارات على البحر الأحمر حجر الزاوية في محاولات تنويع اقتصادها بعيداً عن النفط، والإمارات أيضاً التي تمتلك استثمارات ضخمة في السودان.
لكن التباين الواضح بين مواقف ومصالح الدول الثلاثة ليس خافياً، فمصر تقف في صف الجيش بقيادة البرهان، والإمارات تدعم قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، بينما يبدو موقف السعودية غامضاً وإن كان أقرب للحياد، فما مدى قدرة مصر والإمارات على التوصل إلى أرضية مشتركة؟
عقدت الجامعة العربية، الأحد 7 مايو/أيار، دورة غير عادية لوزراء الخارجية العرب لبحث الأزمة في السـودان، بناء على طلب مصر وبالتنسيق مع السعودية، في حين تناقش الإمارات والسعودية مع أطراف غربية تسوية تقترح استبعاد البرهان وحميدتي واستبدالهما بشخصيات أخرى من الطرفين، حسبما ورد في تقرير لمركز "أسباب" للدراسات السياسية والاستراتيجية. لكن هذا المقترح يبدو بعيد المنال لأن أياً من الرجلين لن يقبل به على الأرجح، كما أن قوات الدعم السريع وجودها مرتبط بشخص حميدتي وأسرته.
النقطة الأخرى في هذه الحسابات تتعلق بصعوبة قبول أي من الطرفين، أو داعميهما من القوى الخارجية، بأي تسوية تشملهما معاً، في ظل الدماء الغزيرة التي سالت وتسيل؛ مما يجعل عودة الحد الأدنى من الثقة بين الجانبين أمراً غاية في الصعوبة، خصوصاً أن الروابط القبلية في السودان لها دور مؤثر.
الخلاصة في هذا السياق هي أن فرص نجاح الوساطة لا تبدو قوية، وربما يكون السيناريو الأخطر، في حالة إصرار الطرفين على مواصلة الاقتتال حتى الحسم عسكرياً، هو أن ترفع القوى الخارجية يدها عن جهود الوساطة وتركز على ضمان الحد الأدنى من مصالحها ونفوذها على المدى البعيد من جهة، وأن يظل الصراع محصوراً داخل السودان وألا يمتد خارجه من جهة أخرى.