"قطع للاتصالات وأزمة في النقل، وارتفاع للأسعار وتضخم"، مشكلات قد يواجهها العالم لأنه لا يوجد به ما يكفي من النحاس، وتبدو أزمة نقص النحاس هذه مرشحة لتستمر حتى عام 2030.
فمن أنظمة الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية إلى شبكات الاتصالات والمنتجات اليومية، يلعب النحاس دوراً حيوياً في حياة والاقتصاد العالمي، وازدادت أهميته مع التطور التكنولوجي والتحول نحو الاقتصاد الأخضر.
أسباب نقص النحاس حول العالم
وبلغ الإنتاج العالمي من النحاس الثانوي المكرر حوالي 4.15 مليون طن متري في عام 2021، وفقاً لأرقام مؤسسة Statista.
سجلت تشيلي – أكبر منتج للنحاس في العالم، والتي تمثل 27% من المعروض العالمي – انخفاضاً سنوياً بنسبة 7% في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
من المقرر أن يؤدي نقص النحاس إلى مشكلة في الأسواق العالمية طوال عام 2023، مدفوعاً بالتحديات المتزايدة لتدفقات الإمداد في أمريكا الجنوبية وضغوط الطلب المتزايدة.
وأدت أزمة نقص النحاس إلى ظاهرة يمكن تسميتها بـ"الركض وراء النحاس"، حتى أن الحكومة الأردنية قررت عام 2021 إعادة ترسيم حدود أكبر محمية طبيعية بالبلاد؛ من أجل البدء في التنقيب عن النحاس، الأمر الذي أثار غضباً واسعاً بين نشطاء حماية البيئة، حسبما قال موقع Middle East Eye البريطاني.
قد يؤدي نقص المعدن الأحمر إلى أن تزداد الضغوط التضخمية العالمية سوءاً، وبالتالي تجبر البنوك المركزية على الحفاظ على مواقفها المتشددة لفترة أطول عبر رفع جديد لأسعار الفائدة، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNBC الأمريكية.
وأدت إعادة فتح الصين لاقتصادها وإنهائها لإغلاقات كورونا والنمو في صناعة السيارات والطاقة إلى زيادة الطلب على المعدن الأحمر، مما زاد من الضغط على موارد النحاس.
وقالت تينا تينج، المحللة في CMC Markets: "إن إعادة فتح الصين له تأثير كبير على سعر النحاس؛ حيث يؤدي ذلك إلى تحسين توقعات الطلب، وسيدفع أسعار النحاس إلى الأعلى بسبب نقص العرض، كما أن التوجه نحو الطاقة النظيفة يجعل التعدين أكثر صعوبة.
وفي الوقت ذاته، فإن التوجه للصناعات الخضراء يزيد الطلب على النحاس، وفي هذا الإطار، تضاعفت مبيعات السيارات الكهربائية في عام 2021 ليصل إجمالي عدد المركبات الكهربائية في العالم إلى حوالي 16.5 مليون، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. هذا يعني أنه سيتعين تعزيز أنظمة شحن المركبات الكهربائية، حيث يمثل النحاس أساس الصناعات الكهربائية.
هل ينجح الرهان على المناجم الجديدة؟
وتراهن صناعة النحاس في العالم على عدد من المناجم الجديدة لحل الأزمة، من بينها منجم في منغوليا يفترض أن يصبح الرابع الأكبر على مستوى العالم، ولكن تنفيذ هذا الحلم ليس بالسهل، وتحاول الشركات المنتجة اللجوء لحلول غير تقليدية تبدأ من الروبوتات إلى الميكروبات.
وفي الإطار، تجمع المسؤولون التنفيذيون في مجموعة ريو تينتو "Rio Tinto" الأسترالية الإنجليزية للتعدين، والمسؤولون المنغوليون على بُعد كيلومتر أسفل صحراء جوبي المتجمدة في وقت سابق هذا العام، لافتتاح أحد أغنى مناجم النحاس تحت الأرض في العالم.
فقد كان احتفالاً توج جهداً استغرق 4 عقود، حسبما ورد في تقرير – لوكالة Bloomberg الأمريكية.
ويحمل منجم أويو تولغوي، الذي يقع جنوب منغوليا وشمال الحدود الصينية مباشرة، أهمية كبرى لجهود مجموعة ريو تينتو، التي تستهدف تجاوز الاعتماد على خام الحديد والتوسع في تعدين النحاس، الذي يعزز التحول إلى الطاقة النظيفة. يملك المنجم كميات ضخمة من المعدن، لكن تقلباته المؤسسية والتقنية والسياسية تعطي لمحة حول المستقبل المضطرب لهذا المعدن الأحمر.
الواقع خيَّب آمالهم ولهذه الأسباب لن يستطيعوا توريد الكميات المطلوبة
في ظل تزايد الطلب على النحاس، تزيد احتمالية قدوم إمداداته من المناجم التي على شاكلة منجم أويو تولغوي، الذي يقع في السهول القاحلة: فهي باهظة الثمن، ومعقدة تقنياً، وخارج طرق الإدار التقليدية للنحاس، وتُدار تحت أعين الحكومات التي تحمي بحرص مواردها الطبيعية.
ويقول دوغ كيروين: "ثمة أزمة ضخمة". كان كيروين أحد أوائل الجيولوجيين الذين عملوا في موقع ترسب النحاس الذي صار يُعرف بـ"أويو تولغوي"، أو "تل الفيروز"، وهو اسم أُطلق عليه تيمناً بالصخور الموجودة في المنطقة، التي تصبغت بفعل النحاس المؤكسد.
يضيف كيروين، الذي يعمل الآن مستشاراً جيولوجياً مستقلاً: "من المحال أن نقدر على توريد كمية النحاس المطلوبة في السنوات العشرة المقبلة لقيادة التحول في مجال الطاقة والوصول إلى مستهدف الطاقة الخالية من الكربون. هذا لن يحدث. ليس هناك ما يكفي من رواسب النحاس التي تُكتشف أو تُطور".
العالم بحاجة إلى 12 منجماً عملاقاً خلال العقد المقبل، فهل هي متوفرة؟
وتشير تقديرات محللي شركة وود ماكنزي لأبحاث الطاقة والاستشارات، إلى أن أي صورة أكثر اعتماداً على الطاقة النظيفة من عالمنا ستعاني من عجز يبلغ 6 ملايين طن من النحاس بحلول العقد المقبل، مما يعني أننا بحاجة إلى أن يدخل 12 منجماً مثل منجم أويو تولغوي الخدمة خلال هذه المدة.
لكن هذا ليس الحال، فليست هناك ببساطة مناجم جديدة كافية، بل إنها أقل بكثير من المناجم الكبيرة الكافية. والنتيجة ستكون ظهور فجوة: إذ إن تقديرات شركة BloombergNEF للبحوث والاستشارات توضح أن الإقبال على النحاس النقي سوف ينمو بنسبة 53% بحلول عام 2040، بينما سوف تتزايد إمدادات النحاس بنسبة 16% فقط.
لكن كبرى شركات التعدين في العالم لا تقف مكتوفة الأيدي. فبعد أكثر من عقد من الندم على الفائض الذي أعقب طفرة الطلب التي قادتها الصين في العقد الأول من القرن الحالي، عادت الصفقات مرة أخرى، التي يسلط فيها المشترون أنظارهم صوب المعادن الخضراء. شجع النقص الوشيك في المعادن الخضراء شركة Glencore Plc's للتحرك من أجل الاستحواذ على شركة Resources Ltd، التي طالما كانت هدفاً منشوداً على صعيد إنتاج النحاس.
كذلك تقدمت شركة Newmont Corp، إحدى شركات تعدين الذهب الكبرى، بعرض للاستحواذ على نظيرتها الأسترالية Newcrest Mining Ltd، وهي صفقة لن تضيف سبائك الذهب وحسب إلى إنتاجها، بل النحاس أيضاً. واستكملت مجموعة بي إتش بي مؤخراً عملية الاستحواذ على شركة Oz Minerals لإنتاج النحاس، وهي أكبر صفقة لها منذ عقود.
الخامات المتبقية في جوف الأرض أقل في الكم وأدنى نقاءً
لن يغير أيٌّ من هذه الصفقات، حتى إذا نجحت، من حال التوازن العالمي العام، وسيوفر حلولاً جزئية لأزمة نقص النحاس.
لا يزال بناء المناجم الجديدة يشكل صداعاً مؤلماً، مقارنة بشرائها، فالأسعار ليست مغرية بما يكفي لتغطية ارتفاع التكاليف، والمخاطر كثيرة.
بل إن الأكثر إثارة للقلق أن الإنفاق لا يزال أقل بكثير من المطلوب، مع أن عمليات الاستكشاف تزايدت مؤخراً. بالإضافة إلى أن المعادن المُكتشفة تكون بكميات أصغر وذات نقاء منخفض، ما يعني أن نسبة المعادن في الخام أقل، وهو ما يتطلب جهداً أكبر (ونفايات أكثر) للوصول إلى نفس مستويات الإنتاج.
يمكن القول إن آخر اكتشاف من العيار الثقيل كان قبل عقد زمني تقريباً: وهي العمليات المشتركة بمنجم كاموا كاكولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي تملكه شركة Ivanhoe Mines المملوكة للخبير المالي روبرت فريدلاند.
وأعماق التنقيب تزداد والمتطلبات البيئية تضيف أعباءً جديدة
قال ديفيد رادكليف، المدير العام بشركة Global Mining Research للاستشارات والبحوث: "المناجم تتقدم في السن، وتصير أعمق، وتصير جودتها أقل، ومن ثم يكون لديك تعقيدات إضافية تتعلق بالحاجة إلى الانسجام مع التحول الحاصل على صعيد المتطلبات البيئية. وفوق كل هذا توجد المخاطر السياسية".
ينبع تشكك الخبير الجيولوجي كيروين من خبراته العميقة. فقد كان فريقه هو الذي اكتشف قبل أكثر من عقدين الرواسب الهائلة التي أغرت مجموعة ريو للقدوم إلى منغوليا.
وقال ديفيد باترسون، الذي صار المدير الإقليمي لمجموعة ريو في منغوليا عام 2010: "ليس هناك شك في أنها كانت بالضبط نوعية المشروعات التي تسعى وراءها ريو تينتو: (الترسبات) من الدرجة الأولى، وبحجم كبير، وبعمر طويل، وبتكاليف تشغيلية منخفضة. ومن ثم كان ذلك أساس اهتمامهم".
لكن الطريق لم يكن يسيراً، وواجهت المجموعة مشكلات في غرف اجتماعات مجلس الإدارة.
المنغوليون أُصيبوا بالإحباط من نصيبهم من الأرباح والتكاليف زادت 7 مليارات
كذلك كانت هناك اضطرابات مع الحكومة المنغولية، عندما سلطت عناوين الأخبار المحلية الضوء على المنجم. لأن الاتفاق الذي نص على منح البلاد حصة 34% في المنجم -على أن تُحصَّل المدفوعات، بالإضافة إلى الفوائد، من الأرباح المستقبلية- بدا أقل سخاءً بسبب تأجيل التوسعات، مما يعني تأجيل المكاسب المتوقعة.
كانت النتيجة فوضوية للغاية، والتمويل معقداً للغاية، وتواصلت الانتكاسات حتى أواخر عام 2019، عندما تسببت التحديات التقنية في رفع تكاليف المنجم تحت الأرض إلى أكثر من 7 مليارات دولار، أي أكثر مما خُطط له في البداية بمقدار الثلث.
الشركة لجأت لطريقة معقدة لاستخراج المعدن الأصفر
يستخدم منجم أويو تولغوي -الذي تتنبأ له مجموعة ريو بأن يكون رابع أكبر منجم نحاس حول العالم عندما يعمل بكامل طاقته الإنتاجية- طريقة معقدة تسمح بالوصول إلى رواسب عميقة وتسمى "التعدين بالتكهُّف" (Block caving)، وتتضمن الحفر أسفل كتلة المعدن الخام، وتفجير فجوات أسفله تسمح للخام بالانهيار وإسقاط الأنابيب إلى مستويات أدنى؛ حيث يُجمع المعدن ويُسحق ويرسل إلى السطح عن طريق سيور نقل.
تتسم هذه الطريقة بأنها فعالة مع تعدين كميات أكبر من الرواسب التي تكون غنيةً بالمعادن بدرجة أقل من نظيراتها في الماضي، وتنتشر شعبيتها، لكن التقنية لا تزال تجسد تحدياً.
يمكننا أن نلقي نظرة أيضاً على شيلي وبيرو، التي طالما اعتُبرت ذات أهمية بالغة للموجة القادمة من إنتاج النحاس، حيث تضرر قطاع التعدين خلال الاضطرابات الاجتماعية التي استمرت لوقت طويل. وافقت مجموعة ريو على بيع حصتها المسيطرة في منجمها البيروفي لا جرانجا إلى شركة First Quantum.
وقال رادكليف: "ما لم يتنبأ به السوق قط، هو مدى الصعوبة التي ستكون عليها الأمور في أمريكا الجنوبية. حيث إن انعدام اليقين في شيلي، والآن في بيرو، يفاقم وحسب من مستوى التعقيد الذي لم يتوقعه السوق قط، وذلك لم يُحل فعلياً".
تكمن المشكلة الآن في أن الرواسب الكبيرة القادمة سوف تتطلب على الأرجح تحمل مخاطر أكثر مما يرغب فيه غالبية المسؤولين التنفيذيين بكبرى شركات التعدين. وحتى قبل ذلك، يتطلب الأمر زيادة كبيرة في الإنفاق على الاستكشافات الجديدة.
وقال جون ستوفر، مدير حافظة لدى شركة Tribeca Investment Partners للاستثمارات في سنغافورة: "الأمر أشبه بما رأيتموه في تسعينيات القرن الماضي. كان هناك ضعف كبير في الاستثمارات في تسعينيات القرن الماضي، فقد ذهب الكثير من الأموال إلى الطفرة التكنولوجية الأولى، ثم كان لديك التحول الحضري في الصين، فهذه الصدمة الكبيرة على صعيد الطلب لم تكن الصناعة مستعدة لها. الجميع يعرفون ما يحدث، لكننا لا نرى الإنفاق".
يتفق روبرت فريدلاند مع ذلك، ويحذّر من أن الوقت الطويل المستغرق في جلب مناجم جديدة نادراً ما يجري تقصيره، حتى عندما تُنفق أموال الاستكشافات ويُعثر على الرواسب.
وأوضح: "يبلغ عمر أويو تولغوي الآن 20 عاماً، وقد بدأ لتوه. لا يهم إذا كان سعر النحاس 3 دولارات للرطل أو 30 دولاراً للرطل، لا يمكنك تسريع العملية مادياً".
تقنيات جديدة.. هل تنجح الميكروبات والروبوتات فيما فشل به المهندسون المخضرمون؟
ومع ذلك، ثمة خيارات أخرى: إعادة التدوير، أو الطرق الجديدة لاستخراج النحاس من الخام منخفض الجودة، بل حتى نفايات المناجم. تراهن عديد من الشركات الكبيرة، من بينها ريو وبي إتش بي، على التكنولوجيا المتطورة. ولكن في مواجهة الطلب المرتفع، لن تُقلّب الموازين عبر أيٍّ من هذا.
قال كارل فيرمين، محلل شركة وود ماكنزي: "إذا طُرحت في كل عملية حول العالم، كان من الممكن أن تضيف نصف مليون طن آخر". وفقاً لتقديرات فيرمين، فإن الفجوة السنوية في الإمدادات سوف تكون 12 ضعف هذا الرقم في العقد المقبل.
وحتى الطرق المستقبلية الأخرى، مثل استخدام روبوتات تحت الأرض والميكروبات لاستخراج كميات أكبر من الخام منخفض الجودة، أو الرواسب التي يصعب الوصول إليها- فهي لا تزال في مراحل أولية.
تأمل مجموعة ريو بكل تأكيد أن تكون من المستفيدين مما سيحدث، في ظل زيادة الأسعار نتيجةً لزيادة الطلب، حينما يصل إنتاج النحاس في منجم أويو تولغوي إلى ذروته. وعند تلك المرحلة، تتنبأ الشركة بأنها سوف تكون ضمن مصاف العمالقة.
غير أن تحول الاقتصاد إلى الاعتماد على الطاقة النظيفة -أو ما يُعرف بـ "تخضير الاقتصاد"-، وتوسع شبكات الطاقة المتجددة وتوليدها للوصول إلى المستهدفات المناخية العالمية- يتطلب أكثر بكثير من منجم أويو تولغوي.
قال فريدلاند: "كانت منغوليا موقعاً محفوفاً بالمغامرة، وكذلك كانت جمهورية الكونغو الديمقراطية، ولكن يجب إتمام هذا الأمر. ففي غياب هذه الجهود، لن تكون هناك بالتأكيد أية فرصة للتحول في مجال الطاقة، بل مجرد خيال".