مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، يبدو أن اعتماد روسيا على إيران كمزود عسكري يزداد، فكيف انقلبت العلاقة بين موسكو وطهران من علاقة الراعي بالتابع إلى علاقة فيها بعض الندية؟
نشر موقع Responsible Statecraft الأمريكي تقريراً يتناول تطور العلاقة من الاعتماد التاريخي المتبادل بين إيران وروسيا، إلى شكل جديد من أشكال العلاقات الأكثر توازناً.
كانت الحرب في أوكرانيا، والتي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، قد بدأت في فبراير/شباط 2022، وتعرضت موسكو لعقوبات غربية غير مسبوقة في جميع المجالات.
ويلعب الدعم العسكري الإيراني عنصراً محورياً في الحرب في أوكرانيا، عن طريق تزويد موسكو بطائرات مُسيّرة محلية الصنع، لكن التعاون العسكري الثنائي بين البلدين ليس أمراً جديداً في الواقع، رغم الضجة الإعلامية المثارة حول الدعم الإيراني.
كيف تطوّرت علاقة إيران وروسيا تاريخياً؟
يُمكن القول إن العلاقة بين البلدين قد تطوَّرت عبر أربع مراحل مميزة، إذ ترجع جذور التعاون العسكري الروسي الفارسي إلى سبعينيات القرن الـ19، عندما أُعجِبَ الملك القاجاري نصر الدين شاه بلواء القوزاق في الجيش الروسي. فطلب الملك من القيصر ألكساندر الثاني أن يساعد إيران بإرسال بعض المستشارين العسكريين الروس، ما أدى لتشكيل لواء القوزاق الفارسي.
ثم ازداد الاعتماد الإيراني على المساعدة العسكرية الروسية في أعقاب قصف مجلس الشورى الإيراني، واشتعال الحرب الأهلية في البلاد، حيث طلب محمد علي شاه من الروس نشر قواتهم داخل إيران للقتال في صف أنصار الملكية، ليتحول التعاون العسكري الروسي الفارسي إلى علاقة بين دولةٍ راعية وأخرى عميلة.
وإبان الحرب الباردة، تحوّل الاتحاد السوفييتي سابقاً إلى خصمٍ أساسي لإيران، التي تحالفت بدورها مع المعسكر الغربي. وكانت القيادة الإيرانية ترى في السوفييت والدول العميلة لهم (كالعراق) تهديداً رئيسياً لسلامة الأراضي الإيرانية.
ومع ذلك، اشترت إيران كميات محدودة من المعدات العسكرية القياسية من الاتحاد السوفييتي، ومنها المركبات المدرعة والمدفعية الميدانية. وأفادت وثيقة استخباراتية أمريكية بتاريخ 1972 أن الاتحاد السوفييتي قدّم لإيران مساعدات عسكرية بقيمة 370 مليون دولار، خلال الفترة من 1967 وحتى 1971، ليصبح ثالث أهم موردي الأسلحة للبلاد.
ثم اندلعت الثورة الإسلامية عام 1979، وتسببت أزمة الرهائن اللاحقة في حرمان إيران من مُورِّد أسلحتها الرئيسي، الولايات المتحدة. واشتعل الصراع الدموي مع العراق بين عامي 1980 و1988، تاركاً الجيش الإيراني في حالةٍ يُرثى لها، بينما شهدت التسعينيات شراء إيران لبعض أنظمة الأسلحة الرئيسية من روسيا، ومنها الطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع الجوي والدبابات.
واشترت إيران كذلك مجموعةً متنوعةً من أنظمة الدفاع الجوي الروسية، مثل نظام تور إم-1 قصير المدى، ونظام الدفاع الجوي بعيد المدى إس-300، وذلك بغرض حماية منشآتها النووية، لكن روسيا رفضت تسليم أنظمة إس-300 حتى عام 2016 نتيجةً للضغوطات الأمريكية.
هل العلاقة بينهما بصدد التحول استراتيجياً؟
أدى الصراع في أوكرانيا إلى تغيير جوهري في طبيعة العلاقة بين إيران وروسيا. وصحيحٌ أن العلاقة كانت تربط دولةً راعية بأخرى عميلة قبل اندلاع هذا الصراع، لكن الموازين انقلبت في صالح إيران، نتيجة إمدادها لروسيا بالطائرات المسيرة.
ولم يكن أمام إيران في الماضي خيار سوى التوسل إلى روسيا للحصول على أنظمة الأسلحة الكبرى، بسبب العقوبات الشديدة التي فرضها أكبر موردي الأسلحة على طهران.
لكن روسيا، التي تعاني من العقوبات الغربية غير المسبوقة، أصبحت تعتمد على إيران اليوم بفضل طائراتها المسيّرة الفعالة، رغم كونها أقل تطوراً. وتُشير التقارير إلى أن إيران تُهرّب الطائرات المسيرة إلى روسيا على متن السفن وخطوط الطيران الحكومية، كما تخطط لبناء مصنع لإنتاج الطائرات المسيرة في روسيا، من أجل استخدامها في الهجوم الروسي على أوكرانيا. ومن المؤكد أن هذا الواقع الجديد لم يكن سيخطر ببال أحد قبل 10 سنوات فقط.
ولا شك أن المسيّرات الإيرانية أقل تطوراً من نظيرتها الروسية أو أمريكية الصنع، فضلاً عن كونها أبطأ وأعلى ضجيجاً، لكن سعرها المنخفض وسهولة إنتاجها تجعل منها خياراً مثالياً بالنسبة لروسيا، حيث تواجه روسيا صعوبةً في الوصول إلى الرقائق الإلكترونية الغربية اللازمة لإنتاج الأسلحة الأكثر تقدماً، وذلك نتيجةً للعقوبات القاسية المفروضة عليها اليوم. ما يسمح بإطلاق أعداد ضخمة من المسيرات الإيرانية لغمر أنظمة الدفاع الجوي الأوكرانية، وضرب الأهداف غير المحصنة مثل محطات الطاقة ومرافق البنية التحتية الأخرى.
ورغم أن التقارير الغربية تشير إلى أن الجيش الأوكراني ربما أسقط نحو 60% أو 70% من تلك الطائرات المسيرة، فإن بعضها تمكن من بلوغ أهدافه في عمق الأراضي الأوكرانية. ويُشبه هذا الأمر استراتيجية الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي تقوم على الافتراض بأن إطلاق عدد ضخم من الصواريخ سيغمر أنظمة الدفاع الجوي المحتملة.
وفي دلالةٍ على زيادة الأهمية التقنية الإيرانية بالنسبة لروسيا، تقول التقارير الآن إن موسكو تبعث بغنائم الأسلحة الأمريكية إلى إيران لهندستها عكسياً، ومنها صواريخ جافلن ونظام الدفاع الجوي المحمول ستينغر. ما قد يُزوِّد إيران وروسيا بوصولٍ إلى المعدات العسكرية عالية التقنية من ترسانة الولايات المتحدة والناتو.
كيف استفادت إيران من حرب أوكرانيا؟
تجدر الإشارة هنا إلى أن إيران أثبتت فاعليتها في الهندسة العسكرية للأسلحة المتطورة من قبل. وفي هذه الأثناء، تقول التقارير إن روسيا عازمة على رد جميل الدعم الإيراني بفتح أبواب ترسانتها الأكثر تطوراً أمام إيران، التي لطالما كانت مهتمةً بشراء أنظمة الأسلحة المتطورة، خاصةً المقاتلات الحربية. وتعرضت إيران للعزل عن سوق الأسلحة الغربية منذ عقود، ما جعل قواتها الجوية أضعف كماً وكيفاً من جيرانها، خاصةً السعودية.
ونقلت تقارير سابقة أن إيران مهتمة بالحصول على مقاتلات سوخوي سو-30، لكن يبدو أنها استقرت الآن على شراء 24 مقاتلة سوخوي سو-35. وفي حال توقيع الصفقة، فسوف تصبح هذه المقاتلات هي أكثر المقاتلات التي اشترتها إيران تطوراً منذ عقود، ولن تقلب هذه الطائرات موازين القوى في المنطقة بدرجةٍ كبيرة، نظراً لضخامة أساطيل جيرانها الجوية، لكنها ستعزز قدرات إيران الدفاعية بكل تأكيد.
وربما نفى مسؤول إيراني رغبة طهران في شراء أنظمة الدفاع الجوي إس-400، مطلع شهر مارس/آذار الماضي، لكن التقارير تُشير إلى أن إيران لا تزال تسعى للحصول عليها. ولا شك أن الاستحواذ على تلك المنظومة سيمثل تعزيزاً كبيراً لقدرات الدفاع الجوي في البلاد، خاصةً في ضوء زيادة القوات الجوية الإسرائيلية لتدريبات الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية.
ومن المؤكد أن الحرب الأوكرانية- وبروز إيران كمورد مهم للأسلحة إلى روسيا- قد غيّرت من ديناميات التعاون بين موسكو وطهران. وربما كانت إيران هي الشريك الذي يعتمد على الطرف الآخر، بينما احتفظت روسيا باليد العليا في السابق. لكن الأوضاع انقلبت اليوم في الواقع، وأصبحت روسيا هي التي تعتمد على صناعة الدفاع الإيرانية، التي أحرزت تقدماً ملحوظاً بفضل خضوعها لحظر الأسلحة على مدار عقود.
وبرزت العلاقة نتيجةً لزيادة عزلة البلدين بموجب العقوبات الأمريكية، ونتيجةً لمقتضيات احتياجاتهما الدفاعية الخاصة. وعلى حد قول الكتاب السابقين، يبدو أن الولايات المتحدة تُسهِّل دون قصد منها تعزيز الكتلة العسكرية والاقتصادية والسياسية، التي تضم الدول القلقة حيال هيمنة واشنطن العالمية على المجالات المالية والتقنية والعسكرية.
وفي المنعطف الحالي، تعتمد الشراكة التبادلية بين موسكو وطهران على توفير الأخيرة لأسلحة غير مكلفة، لكنها ناجحة نسبياً، من أجل دعم جهود الكرملين الحربية. بينما تبدو روسيا عازمةً على تلبية احتياج إيران لأنظمة أسلحة عالية التقنية، وبهذا يمكن القول إن الروابط العسكرية بين البلدين تحولت من علاقة غير متوازنة بين دولة راعية وأخرى عميلة، إلى علاقة تعاون تكافلي متبادل.
ومن المحتمل أن يؤدي استمرار التعاون إلى إنشاء منظومة سلاسل توريد وتصنيع كاملة، حيث ستركز كل دولة إنتاجها على المعدات العسكرية التي تتمتع فيها بأفضلية نسبية. وتتناقض هذه "الشراكة متعددة الوظائف" مع "تحالف الناتو الذي يتمتع بالوظائف نفسها"، حيث تحظى كل الأطراف بكفاءات قتالية متشابهة.
ومع ذلك، سنجد أن استمرار دور إيران كشريك شبه متساوٍ في العلاقة يعتمد على حجم صادراتها إلى روسيا. وفي حال قررت أي دولة أخرى- وخاصة الصين- تزويد روسيا بالمساعدات العسكرية، فقد ترتد طبيعة العلاقة العسكرية الروسية الإيرانية إلى سابق عهدها تاريخياً.