ترتبط إسرائيل وأمريكا بعلاقات تحالف استراتيجية وقوية للغاية، لكن الخلافات بين تل أبيب وواشنطن وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة، فهل علاقة نتنياهو وبايدن السبب الوحيد؟
صحيح أن علاقة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لم تكن جيدة بشكل عام، لكن أن تصل الأمور إلى حد اتهامات بالتواطؤ ورسائل مبطنة مفادها "لا تأتي لزيارتنا"، فهذه قد تكون سوابق تاريخية في العلاقات بين البلدين.
لكن الخلافات بين إسرائيل والولايات المتحدة هذه المرة تبدو أكثر عمقاً، وهي ليست مقتصرة على ملف التعديلات القضائية، التي اضطر نتنياهو لتأجيلها تحت وطأة المعارضة الشرسة والاحتجاجات والإضرابات، فتعاملات إسرائيل مع الصين وملف العقوبات على روسيا، وأيضاً ملف إيران، كلها تحمل علامات على التباين في المواقف بين الحليفين.
خلافات بايدن ونتنياهو
كانت إدارة بايدن قد عبرت عن موقفها الرافض للتعديلات القضائية التي يريد تحالف نتنياهو اليميني المتشدد تمريرها، لكن الخلاف بين البيت الأبيض وتل أبيب يرجع إلى اللحظة التي تشكلت فيها الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي توصف بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية.
فقبل أن تكمل حكومة إسرائيل، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير، شهرها الأول في السلطة، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.
وكانت صحيفة The New York Times الأمريكية قد نشرت تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ووضع الحكومة الإسرائيلية الجديدة الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة منذ نيلها ثقة الكنيست الذي يسيطر عليه اليمين واليمين المتطرف، في ديسمبر/كانون الأول 2022.
وزار وزير الخارجية أنتوني بلينكن المنطقة؛ لتوجيه رسالة إلى حكومة نتنياهو، مفادها معارضة أمريكا لأي "إجراءات استفزازية" بحق الفلسطينيين، لكن الحكومة الإسرائيلية أعلنت عن خطط جديدة لتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، إضافة إلى مواصلة الاعتداء على القرى والبلدات الفلسطينية.
وعلى الرغم من إعلان نتنياهو عن تأجيل التعديلات القضائية، فإن بايدن صرح بأن الحل الوحيد للأزمة في إسرائيل هو التراجع تماماً عن تلك التعديلات، وقال إنه أبلغ نتنياهو بذلك خلال اتصال هاتفي بينهما.
وقال بايدن للصحفيين مساء الثلاثاء، 28 مارس/آذار: "مثل العديد من المؤيدين الأقوياء لإسرائيل، أنا قلق للغاية، لا يمكنهم الاستمرار في هذا الطريق، ولقد أوضحت ذلك نوعاً ما". وأضاف: "نأمل أن يتصرف رئيس الوزراء بطريقة تمكنه من محاولة التوصل إلى حل وسط حقيقي، لكن هذا لم يتضح بعد".
ولدى سؤاله عما إذا كان سيدعو نتنياهو إلى البيت الأبيض قريباً، أجاب بايدن قائلاً: "لا، ليس في المستقبل القريب".
لكن نتنياهو لم يقبل تصريحات بايدن، وأصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي تصريحاً غير مسبوق في حدته، حيث قال إن "إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بإرادة شعبها، ولا تقوم على ضغوط من الخارج، بما في ذلك من أفضل الأصدقاء"، في إشارة إلى الولايات المتحدة.
وحقيقة الأمر هنا هي أن تصريحات بايدن أيضاً غير مسبوقة، فهذه هي المرة الأولى يتحدث فيها بايدن لوسائل الإعلام عن الأزمة الإسرائيلية الناجمة عن محاولة الحكومة تمرير قوانين للتعديل القضائي المثيرة للجدل.
ما الذي يشجع بايدن على انتقاد نتنياهو بهذه الحدة؟
المؤكد هنا هو أن تصريحات الرئيس الأمريكي جاءت بمثابة الصدمة للحكومة الإسرائيلية، وبحسب تقرير لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، فإن تصريحات بايدن تعتبر هي الأخطر على الإطلاق، وتفاجأت بها الحكومة الإسرائيلية.
وتشير تقارير إعلامية إسرائيلية وأمريكية أيضاً إلى أن العامل الرئيسي الذي شجع الرئيس بايدن على انتقاد حكومة نتنياهو علناً الآن هو موقف اللوبي الأمريكي اليهودي في واشنطن، والذي عبرت قياداته علناً عن رفض "الانقلاب القضائي" الذي تسعى حكومة نتنياهو لتمريره.
وعندما زار بلتسئيل سموتريتش، وزير المالية المتطرف صاحب التصريحات العنصرية التي أصابت المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس "بالغثيان"، قابلته مظاهرات غاضبة نظمتها الجالية اليهودية الأمريكية، كما وقع 145 شخصاً من القيادات اليهودية في واشنطن بياناً طالبوا فيه بعدم إعطاء الفرصة له ليلقي أي خطاب من الأساس، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
كما يوجه نفس اللوبي انتقادات عنيفة لوزير الأمن الداخلي وأحد أقطاب التطرف داخل الحكومة، إيتمار بن غفير، والذي هدد بالانسحاب من الائتلاف الحكومي إذا أقدم نتنياهو على تأجيل التعديلات، لكنه تراجع بعد عقد صفقة مع نتنياهو، وعد بموجبها رئيس الوزراء بن غفير بأن يشرعن تشكيل ميليشيات مسلحة تحت قيادة الوزير.
وكان بن غفير قد قال، الأربعاء، 29 مارس/آذار لإذاعة الجيش الإسرائيلي، رداً على تصريحات بايدن: "إسرائيل لم تعد نجمة على العلم الأمريكي، نتوقع أن يفهم بايدن هذه النقطة". وأضاف: "في حين أن إسرائيل تقدر النظام الديمقراطي هناك، فإن هذه المنطقة بالتحديد هي التي تحتاج إلى فهم أن إسرائيل دولة مستقلة".
وتابع بن غفير: "يجب أن يكون واضحاً في جميع أنحاء العالم، الناس هنا ذهبوا إلى الانتخابات ولديهم رغباتهم الخاصة".
لكن ربما يكون أبرز مؤشرات الخلاف هو زيارة نتنياهو للبيت الأبيض، أو بالأحرى الزيارة التي لم تتم بعد منذ عودته لرئاسة الوزراء في ديسمبر/كانون الأول 2022. فعادة ما يوجه الرؤساء الأمريكيون دعوات لرؤساء حكومات إسرائيل لزيارة البيت الأبيض في الأيام وعلى أبعد تقدير الأسابيع الأولى لتشكيل الحكومة، لكن نتنياهو لم يتلق الدعوة. وسبق أن تحادث بايدن ونتنياهو هاتفياً أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يتم الإعلان عن لقاء قريب بينهما، لكن ذلك لم يحدث.
وصباح الثلاثاء، قال السفير الأمريكي لدى إسرائيل، توم نايدز، لإذاعة الجيش الإسرائيلي، إنه "ستتم دعوة نتنياهو قريباً إلى البيت الأبيض". لكن واشنطن سرعان ما نفت وجود أي خطة مدرجة على الأجندة بشأن زيارة نتنياهو، وفق تصريحات لنائبة متحدث البيت الأبيض أوليفيا دالتون. وذكرت دالتون أنه "لا توجد خطة بهذا الشأن حتى الآن".
وأفادت بأن نتنياهو "سيقوم بزيارة الولايات المتحدة في وقت ما أسوة بباقي القادة الإسرائيليين، إلا أن هذه الزيارة ليست مطروحة في الأجندة حالياً".
ورداً على تعليقات بايدن، قال وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي ميكي زوهار، في تغريدة مساء الثلاثاء: "من المحزن أن يقع بايدن ضحية الأخبار الكاذبة من إسرائيل"، حول التعديلات القضائية.
لكنه حذف لاحقاً التغريدة، وغرد قائلاً: "احتراماً لعلاقتنا المهمة مع أكبر حليف لنا، الولايات المتحدة الأمريكية، حذفت التغريدة". وتابع: "ينفطر قلبي لرؤية مقدار الضرر الذي لحق بإسرائيل من كل الأخبار المزيفة التي تم نشرها فيما يتعلق بإصلاحنا القانوني المبرر".
هل تهدد الخلافات علاقات إسرائيل وأمريكا؟
في تغريداته الغاضبة رداً على تصريحات بايدن، قال نتنياهو: "التحالف بين إسرائيل والولايات المتحدة غير قابل للكسر ويتغلب دائماً على الخلافات العرضية بيننا".
وفي الوقت نفسه لا يخلو أي بيان أمريكي ينتقد حكومة نتنياهو من التأكيد في نهايته على "متانة التحالف بين إسرائيل وأمريكا"، وكان جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، قد وصف تلك العلاقة بين واشنطن وتل أبيب بأنها "عميقة للغاية".
لكن على الرغم من هذه التأكيدات، فإن الخلافات بين واشنطن وتل أبيب هذه المرة تبدو أكثر عمقاً من أي مرات سابقة. وربما يكون الخلاف حول سياسات الحكومة اليمينية بشأن التعديلات القضائية هو الطافي على السطح بشدة، لكن المؤكد هو أنه ليس الخلاف الوحيد. فملف إيران النووي وكيفية التعامل معه يعتبر ملفاً آخر من ملفات الخلاف. كما أن علاقات إسرائيل المتنامية مع الصين ملف آخر.
والأمر نفسه بالنسبة للعلاقات الإسرائيلية مع روسيا، إذ تسعى تل أبيب إلى عدم قطع العلاقات مع موسكو بشكل كامل لأسباب تتعلق بالهجرة اليهودية من روسيا لإسرائيل وملفات ومصالح أخرى تجعل هناك اختلاف في الموقف الإسرائيلي عن الموقف الأمريكي بشأن العقوبات على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا.
صحيح أن الولايات المتحدة هي أقوى حلفاء إسرائيل وداعميها العسكريين والأمنيين، لكن السؤال هنا يصبح: ما الذي قد يجعل أمريكا تخفض أو حتى تلغي دعمها وتحالفها مع إسرائيل؟ هذا هو السؤال الذي توقف عنده كثير من المحللين في تل أبيب وواشنطن كذلك، والواضح هنا أن تصرفات حكومة نتنياهو تمثل عنصراً ضاغطاً بشدة على قوة تلك العلاقات.
وفي هذا السياق، ذكر تقرير لصحيفة Haaretz الإسرائيلية أن المسؤولين الأمريكيين "يدركون بشكل متزايد أن نتنياهو مدين لحلفائه من اليمين المتطرف أكثر مما كانوا يعتقدون في الأصل. وقد شرح بلينكن نهج الولايات المتحدة العام الماضي عندما قال إنها ستتعامل مع إسرائيل على أساس السياسة وليس الشخصيات".
وأضافت الصحيفة: "من جهته، سعى نتنياهو لإقناع المسؤولين الأمريكيين بأنه الشخص الذي يتحكم بعجلة القيادة، رغم الخلافات المستمرة". لكن بعد أحداث نهاية الأسبوع الماضي يدرك المسؤولون الأمريكيون الآن أنه في حين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد يدعي أنه يضع يديه على عجلة القيادة، فإن الآخرين يضعون أقدامهم على الغاز".
الخلاصة هنا هي أن الخلافات بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو قد تتسبب في مزيد من المشكلات بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، وقد تصبح سبباً من أسباب انهيار الائتلاف اليميني المتشدد، لكن ليس من المرجح أن يتأثر التحالف الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن على المدى القريب والمتوسط.