في تدخل مستفز في عمل القضاء، أمر رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي الشرطة بعدم تنفيذ أمر قضائي، فيما نفذت المصارف اللبنانية إضراباً قبيل شهر رمضان نظر إليه كابتزاز للمجتمع لمنع التحقيقات بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
ففي 14 مارس/آذار، جددت البنوك اللبنانية إضراباً وطنياً رداً على التحقيقات الجارية والأحكام الأخيرة بشأن سياساتها وممارساتها منذ بداية الانهيار الاقتصادي العنيف في البلاد عام 2019. الإضراب المصرفي، بقيادة جمعية مصارف لبنان، التي تمثل البنوك التجارية اللبنانية، أدى لتجميد جميع المعاملات للمواطن اللبناني العادي باسم محاربة ما يسمى التجاوز القضائي.
لكن أكثر المراقبين للخطاب السياسي في هذا البلد العربي يمكنهم أن يفهموا بسهولة ما الذي يدعم الإضراب حقاً: مطلب النخبة السياسية والاقتصادية في لبنان بالحق في نهب البلد في الخفاء، حسبما ورد في تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.
قاضية تتهم حاكم مصرف لبنان بالثراء غير المشروع بعد تحويله أموالاً عامة لحساب أخيه
بدأ الإضراب المصرفي لأول مرة في 7 فبراير/شباط نتيجة التحقيق الذي أجرته القاضية غادة عون على مدى سنوات في غسل الأموال والممارسات الفاسدة في القطاع المصرفي اللبناني. يركز التحقيق بشكل خاص على البنوك التجارية، رغم أن عون تحقق أيضاً مع بنك لبنان ومحافظه السابق رياض سلامة.
واتهمت عون رياض سلامة بالثراء غير المشروع في 21 فبراير/شباط، بعد تحقيق طويل الأمد في جهوده لتحويل الأموال العامة إلى الحسابات المصرفية لأخيه في سويسرا ودول أوروبية أخرى.
لم تهدر البنوك اللبنانية الكثير من الوقت في الرد على التحقيق، خاصة بعد أن اتهمت عون اثنين من كبار المصرفيين من بنك عودة ومجموعة عودة بغسل الأموال لرفضهم رفع شروط السرية المصرفية المتعلقة بحسابات كبار المسؤولين في البنوك.
وعارضت جمعية مصارف لبنان حكماً آخر أصدرته محكمة النقض ضد فرانس بنك في أوائل فبراير/شباط بشأن دعوى قضائية من مواطنين لبنانيين، إياد الغرباوي إبراهيم وحنان مارون الحاج إبراهيم، طالبين الوصول إلى ودائعهما المصرفية. تم البت في الدعوى في النهاية لصالح المدعين؛ مما أدى إلى إضراب جمعية مصارف لبنان في وقت مبكر من مارس/آذار 2022، عندما اتُّخِذَ أول قرار من ضمن قرارات عديدة ضد البنك بشأن نفس القضية.
ويعتبر حكم فرانس بنك جوهرياً؛ لأنه يأمر البنوك بالدفع نقداً للمدعين بعد إغلاق حساباتهم. فضَّل البنك في الأصل الدفع بشيك لتجنب الخسائر في حيازات البنوك نظراً للتفاوت بين الليرة اللبنانية والدولار الأمريكي. وقد مثَّل هذا الحكم أمراً بالغ الأهمية، لأنه يشكِّل سابقةً لحماية صغار المودعين من الممارسات المصرفية الضارة -التي يمكن القول إنها النقطة الاقتصادية الرئيسية الشائكة للمواطنين اللبنانيين منذ عام 2019.
وفي حين أعلنت جمعية مصارف لبنان في الأصل إضراباً إلى أجل غير مسمى، أدى التدخل السياسي إلى تعليق الإضراب مؤقتاً على مستوى البلاد لمدة أسبوع، بدءاً من 24 فبراير/شباط. وأشارت جمعية المصارف في بيان إلى أنه "بناءً على رغبة رئيس الوزراء، وحساسية البنوك للظروف الاقتصادية الصعبة، والحاجة إلى تأمين الخدمات المصرفية الخدمات لجميع المواطنين في نهاية الشهر، قررت الجمعية تعليق الإضراب مؤقتاً لمدة أسبوع".
ولكن رئيس الوزراء يأمر الشرطة بتجاهل أوامر القضاء
في الواقع، كان النظام السياسي اللبناني ينقضُّ مرة أخرى لإنقاذ النظام المصرفي. أعلن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي في 23 فبراير/شباط أنه سيطلب من قوى الأمن ووزير الداخلية بسام مولوي عدم التصرف بناء على أوامر عون، مشيراً إلى "تجاوز السلطة". امتثل مولوي لهذا الأمر. علاوة على ذلك، أمر المدعي العام اللبناني، غسان عويدات، عون "بتعليق إجراءات التحقيق مؤقتاً حتى تُتَّخذ قرارت بشأن القضية المطروحة".
ووصفت عون الإجراءات بأنها "انهيار كامل للعدالة" و"تدخل غير مسبوق في عمل القضاء". ووسط جهود عون المتواصلة، جدَّدت البنوك الإضراب في 14 مارس/آذار ومرة أخرى في 21 و22 مارس/آذار، معلنة انتهاء الإضراب في بداية شهر رمضان.
لسوء الحظ، كما يتضح من العناد المستمر لجمعية مصارف لبنان هذا الشهر، تحدد تصريحات عون كيف سقط لبنان في مثل هذا الوضع الاقتصادي والسياسي غير المستقر. منذ انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019، احتج الشعب اللبناني باستمرار على ما يصفه بحق بأنه فساد مفتوح، ولكن دون جدوى. وبدلاً من إصلاح النظام المنهار من حولهم، عززت النخب اللبنانية في الدوائر المصرفية والسياسية ثرواتها وأمنها وسلطتها ضمن مخطط يشبه بيتاً زجاجياً على وشك الانهيار.
وصف تقييم البنك الدولي للحالة الاقتصادية للبلاد ذلك بأوضح العبارات في تقرير عام 2021، مسلطاً الضوء على الوضع باعتباره أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية في التاريخ الحديث. إن تصرفات الجمعية، وكذلك تصرفات رئيس الوزراء، هي استمرار لخطوط الفساد المباشرة الواضحة منذ زمن طويل في لبنان والتي تؤدي إلى هذا الانهيار.
المصارف اللبنانية والنخبة ترفض الإصلاح وتنتظر العون الدولي
الرد الطبيعي على مثل هذا السيناريو هو الإصلاح الذي نادى به بقوة المواطنون اللبنانيون وزعماء العالم وصندوق النقد الدولي في السنوات الأخيرة.
محور هذا النقاش هو ضوابط رأس المال وقوانين السرية المصرفية التي من شأنها، إذا صيغَت وفقاً لمعايير صندوق النقد الدولي، أن تقاوم الممارسات المصرفية المشبوهة وتحمي المودعين الأفراد على عكس النخب الثرية المترابطة.
ليس من المستغرب أن ترفض جمعية مصارف لبنان توصيات صندوق النقد الدولي وتوصيات الحق الأساسي للشعب اللبناني في الوصول إلى حساباته المصرفية، فضلاً عن معايير الشفافية الدولية الأساسية.
هذا ليس موقفاً موضوعياً من جانب القطاع المصرفي اللبناني، بل إنه حيلة مقصودة لتجنب المساءلة عن سرقة مدخرات المواطنين اللبنانيين أثناء محاولة تبريد الأزمة حتى وصول الدعم الدولي (كما حدث في الماضي)، حسب المجلة الأمريكية.
ولكن زعماء العالم سئموا من فساد الطبقة الحاكمة اللبنانية
ومع ذلك، لا يبدو أن الدعم الدولي يلوح في الأفق هذه المرة. سئم زعماء العالم من الطبقة الحاكمة في لبنان لرفضها التغيير والإصلاح. وسوف تختار النخب اللبنانية عدم السماح للتحقيقات بتحدي الوضع الراهن.
يمثل تحقيق "انفجار بيروت" هو مثال على ذلك بالنظر إلى التدخلات السياسية المحيطة به، حيث يقدم سيناريو يصعب فيه رؤية نجاح التحقيقات الأخرى، لا سيما بدون ضغوط دولية أقوى.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد طرح مبادرة لحل الأزمة السياسية اللبنانية تمهيداً لتلقي البلاد مساعدات دولية لإنقاذ اقتصادها، ولكن زعماء البلاد قابلوا المبادرة بفتور لأنها تتضمن تخفيض مقدار المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومة، وتقلل سلطاتهم في اختيار الوزراء الممثلين لطوائفهم.