وجد المواطن المصري "روماني"، الذي كان يعمل مورِّداً للأخشاب في مصر، نفسه على متن قارب لا يصلح للإبحار بطول 8 أمتار مع 48 شخصاً آخرين حين عبر أخطر حدود بحرية في العالم: وسط البحر المتوسط. فبعد خسارته عمله، ومع أطفاله الخمسة الذين يحتاجون لإطعامهم، باع كل ما يملك قبل أن يعبر الحدود إلى ليبيا ثم يتوجه إلى البحر.
المصريون يخاطرون بكل شيء للعبور إلى أوروبا
تحدّث موقع Middle East Eye البريطاني مع روماني ورجلين آخرين عبرا مؤخراً من مصر إلى ليبيا، ثم إلى إيطاليا. وتحدّث الثلاثة من مركز إيواء صغير للمهاجرين في ميلانو، بالاستعانة بشكري (اسم مستعار)، وهو مترجم ومهاجر مصري. وقال روماني: "مررنا بلحظة كانت فيها الأمواج شديدة، وفقد الناس الأمل تماماً وبدأوا يتلفظون الشهادتين".
وأضاف: "والآن أنا في مركز إيواء وأبحث عن عمل… لا بد لي من العمل لأكسب المال وأرسله إلى أطفالي. لا يمكنني العودة قبل أن أتمكن من تأمين حياتي على الأقل".
التقى الرجلان الآخران، محمد وأحمد، في مركز احتجاز في مدينة امساعد الليبية في أغسطس/آب عام 2022. وكلاهما من مدينة أبنوب على الضفة الشرقية لنهر النيل في جنوب مصر. وقال محمد إنه سافر فراراً من الثأر، الذي ينتشر في المناطق الريفية في الجنوب. وتمكن محمد من الحصول على تأشيرة دخول إلى ليبيا، فيما لجأ أحمد إلى طريق تهريب، وعبر الحدود سيراً على الأقدام.
لكن لدى وصولهما إلى الجانب الليبي من الحدود، لم يجدا فرصة للراحة، حيث كانت الفوضى تعمّ الشوارع، وطلقات الرصاص تملأ السماء، وخطر الاختطاف يتهددهما باستمرار. وسلّم محمد أمره لشبكة تهريب لتساعده على عبور البحر.
قبل رحيله، احتُجز محمد 3 أشهر في مركز ببلدة امساعد الحدودية الليبية، الذي يديره مهربون، وهناك التقى بأحمد. وكان الخوف من مداهمات الشرطة هو الشعور السائد أثناء انتظارهما.
وبعد أشهر من الانتظار، استقلا قارباً من امساعد في جوف الليل. وكشف شروق الشمس عن هيكل متهالك بطول 25 متراً يؤوي بالكاد 620 شخصاً كانوا على متنه.
وحين أبحر بهم القارب في عمق البحر، تعطل المحرك وساد الذعر. وطالب بعض الركاب بالعودة، وطالب آخرون بالاستمرار، واندلعت مشاجرات. وفي النهاية، اتُّخذ القرار بالعودة وإرجاع 100 شخص إلى شواطئ ليبيا. ويقول محمد: "كانت الفوضى سائدة، وكثيرون منا كانوا محتجزين لشهور. وبعض الناس قالوا إنهم سيستمرون حتى لو أدى ذلك إلى موتهم".
ارتفاع أعداد المهاجرين المصريين نحو أوروبا
وقصص هؤلاء الرجال ليست حوادث فردية، ولكنها تأتي في إطار ارتفاع أعداد المصريين الذين يفرون من بلادهم، عبر طرق التهريب، إلى الشوارع الليبية التي مزقتها الحرب، وعبر وسط البحر المتوسط في قوارب متهالكة.
وفي فبراير/شباط عام 2022، وصل عدد الوافدين المصريين لإيطاليا إلى أعلى مستوى له، وكانوا يمثلون حوالي 1 من كل 3 عمليات إنزال في إيطاليا.
ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن هيئة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي "فرونتكس"، كان المصريون الجنسية الأكثر انتشاراً بين من يعبرون وسط البحر المتوسط، حيث كانوا يمثلون 20% من الجنسيات العابرة خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022.
وكان الرجال الثلاثة الجالسون حول جهاز أيفون في مركز إيواء في ميلانو من بين المحظوظين الذين تمكنوا من عبور حدود عسكرية مشددة الحراسة، ومياه وسط البحر المتوسط المخيفة.
الأسباب التي تدفع المصريين للهجرة تتعاظم
وفقاً لمسح أجرته المنظمة الدولية للهجرة بين ديسمبر/كانون الأول عام 2021 ويناير/كانون الأول عام 2022، يأتي معظم المهاجرين المصريين في ليبيا من شمال شرق البلاد، وينحدرون أساساً من محافظات المنيا وأسيوط والفيوم والبحيرة.
وكان الفقر هو العامل المشترك في جميع القصص. إذ أدت أزمة تكلفة المعيشة إلى تآكل شبكة الأمان المتداعية أصلاً في مصر، والتي أدت إلى هبوط ما يقدر بنحو 60 مليون شخص تحت خط الفقر، واضطرار العديد منهم إلى عبور الحدود إلى ليبيا.
والعنف أيضاً من ضمن العوامل الدافعة للهجرة. إذ سجل مركز مراقبة النزوح الداخلي 1000 حالة نزوح جديدة بسبب العنف في مصر. ووثقت هيومن رايتس ووتش اتساع نطاق الاختفاء القسري والإعدام خارج نطاق القضاء في إطار "حرب جهاز الأمن الوطني على الإرهاب".
وفي شمال سيناء، أدت الحملة المستمرة منذ 8 سنوات بين القوات المسلحة المصرية وتنظيم ولاية سيناء، الفرع المحلي لتنظيم الدولة الإسلامية، إلى ارتفاع حصيلة القتلى، ونزوح ما يقدّر بنحو 100 ألف من سكانها، البالغ عددهم 450 ألفاً.
"لا بد أن تكون محظوظاً"
يبلغ أحمد، أصغر الرجال الثلاثة في المركز، من العمر 20 عاماً فقط. وهو مثله مثل العديد من المهاجرين، اضطر إلى اللجوء إلى عصابات التهريب ليعبر إلى ليبيا، ودفع ما يعادل 150 دولاراً مقابل عبور الحدود سيراً على الأقدام 5 ساعات.
وتحدث الباحث في منظمة العفو الدولية، حسين باعومي، إلى مصريين في ليبيا خاضوا نفس الرحلة، وكثير منهم شباب من أفقر محافظات صعيد مصر.
وقال باعومي لموقع Middle East Eye: "لا بد أن تكون محظوظاً جداً لتتمكن من التعامل مع مهرب يوصلك إلى غرب ليبيا. ولا بد أن تكون محظوظاً جداً لتتمكن من الوصول إلى مهربين لا يخلون بك".
وكثير من الناس الذين تحدث إليهم باعومي انتهى بهم المطاف إلى الاحتجاز على يد جماعات الاتجار بالبشر، التي يرتبط بعضها بجماعات مسلحة تشكل ما يُعرف بالقوات المسلحة العربية الليبية، بقيادة خليفة حفتر.
وقال: "أخبروني عن تعرضهم للتعذيب، والاحتجاز في ظروف يمكن اعتبارها اختفاء قسرياً وابتزازاً. وبطبيعة الحال عادة ما يكون الغرض من التعذيب انتزاع الأموال من عائلاتهم في الوطن".
لا يوجد سوى معبر حدودي رسمي واحد مع ليبيا، وهو معبر امساعد-السلوم في الشمال. والحدود المصرية الليبية شاسعة ولكن يصعب اختراقها في الغالب بسبب التضاريس. والجزء الشمالي المتبقي الذي يبلغ 265كم تنتشر به الدوريات الليبية والمصرية باستمرار.
وغالباً ما تكون طرق التهريب هي الطريقة الوحيدة لعبورها. فمنذ عام 2016، بعد غرق عديد من القوارب الكبيرة، ضخت الحكومة موارد كثيرة لتأمين سواحلها.
"خاطرت بحياتي لأصل إلى هنا"
بعد 3 أيام قضاها أحمد ومحمد في البحر المتوسط، أنقذهما خفر السواحل الإيطالي. ثم نُقلا إلى مخيم في صقلية وهناك قُدِّم لهما الطعام والشراب لأول مرة منذ أيام. وقال محمد: "شعرنا بفرحة لا توصف، وكنت مستعداً لأنام في الشارع رغم أنهم وفروا أسرّة لنا".
واجتمع الرجال الثلاثة، أحمد ومحمد وروماني، في غرفة مركز الإيواء في ميلانو، وتبددت الفرحة التي كانوا يشعرون بها، لكنهم قالوا إنهم متفائلون. قال أحمد: "جازفت بحياتي لأصل هنا، ولا مفر من أن أؤمن بأن الحياة أفضل هنا".
لكن شكري، الذي يعيش في إيطاليا منذ 15 عاماً، أكثر دراية بحقيقة الوضع. وقال بعد أن غادروا: "إنهم لا يفهمون أنه توجد صعوبات هنا أيضاً".
فقد توفَّر له ما يكفي من الوقت ليألف نظاماً بيروقراطياً يزداد تعقيداً يومياً ويضطر المهاجرون في إيطاليا إلى التعامل معه. إذ يتعين على طالبي اللجوء الانتظار 10 سنوات قبل أن يصبحوا مؤهلين للتقدم بطلب للحصول على الجنسية.
وتقدم شكري للحصول عليها قبل 4 سنوات، لكنه ما زال ينتظر. وفي الأثناء، يضطر لدفع رسوم تجديد إقامته والرسوم القانونية والضرائب. وقال: "عليك أن تدفع في كل مكان في هذا البلد، فالأمر ليس سهلاً. واليوم أصعب من ذي قبل لأن أوروبا لم تعد مفتوحة".
وقال شكري: "إذا عدت إلى مصر، فسيُلقى بي في السجن. فقد انتقلت إلى هذا البلد لأبدأ بداية جديدة، ولكن بعد بضع سنوات، أدركت أن لها مشاكلها أيضاً". وقال ساخراً: "أو ربما هو أنا! ربما لا تستطيع المشكلات الابتعاد عني".