ينظر إلى الاتحاد العام التونسي للشغل الحائز على جائزة نوبل بأنه أيقونة الحريات والدفاع عن العمال في العالم العربي، ولكن خبراء اقتصاديين دوليين يرونه شريكاً في إيقاع الظلم على فئة كبيرة من العمال والتسبب في تدهور اقتصاد البلاد.
فمن بين جميع منظمات المجتمع المدني العربية، يمكن القول إنَّ الاتحاد العام التونسي للشغل الحائز جائزة نوبل قد بذل قصارى جهده للدفاع عن مُثُل الديمقراطية في المنطقة (رغم أنه أيد بشكل أولي إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد في الإطاحة بالبرلمان التونسي المنتخب وعزل رئيس الوزراء المختار بشكل ديمقراطي هشام المشيشي ثم تحول لمعارضته بعد ذلك).
ولقد كان الاتحاد ضامناً رئيسياً لانتقال تونس إلى الديمقراطية بعد 2010 وما زال يقف في وجه الرئيس الاستبدادي قيس سعيد، رافضاً دعم الانتخابات البرلمانية الوهمية التي دبّرها في ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني الماضيين، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لكن ما لم يتم فهمه جيداً هو أنَّ الاتحاد العام التونسي للشغل قد ساهم في الأزمة المالية والاقتصادية التي مكّنت صعود سعيد الاستبدادي، حسب المجلة.
ويبلغ عدد أعضاء الاتحاد العام التونسي للشغل الذين يدفعون الرسوم وفقاً لتقديرات نشرت عام 2018، أكثر من نصف مليون شخص (حوالي 5% من إجمالي سكان تونس)، يتوزعون على معظم القطاعات الاقتصادية والفئات الاجتماعية، وله فرع في كل إقليم من أقاليم البلاد.
ومالت معظم التحليلات السياسية بما فيها الغربية للإشادة بدور الاتحاد العام التونسي للشغل في تاريخ البلاد السياسي، وهي الإشادة التي وصلت ذروتها بحصوله مع ثلاث منظمات نقابية وأهلية أخرى هي "الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية" و"الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين" و"الرابطة التونسية لحقوق الإنسان" على جائزة نوبل للسلام عام 2015، تقديراً للدور الذي لعبته في إنجاح الحوار الوطني التونسي، ووضع تونس على طريق الديمقراطية.
هل ألحق الاتحاد العام التونسي للشغل الضرر باقتصاد البلاد؟
ما يتم تجاهله عادةً في دور الاتحاد العام التونسي للشغل إضافة إلى مهادنته لحكم زين العابدين، هو أن سيطرة اليسار على الاتحاد تجعله دوماً معادياً للإسلاميين، وكذلك جعله هذا التوجه اليساري يشجع الإضرابات العمالية التي ألحقت ضرراً باقتصاد البلاد أكثر من تناحرات الأحزاب السياسية.
فقد تسببت الإضرابات العمالية التي دعا إليها الاتحاد لدعم مطالب توفير الوظائف وزيادة الأجور في إلحاق أضرار واسعة النطاق بالاقتصاد منذ عام 2011، حسب موقع The Economist Intelligence Unit.
وقد انسحب عدد من شركات التصنيع إلى خارج البلاد في مواجهة المطالب غير الواقعية بأجور أعلى، والأغرب المطالب بتوظيف عمال وموظفين إضافيين (عادةً لا يكون هناك حاجة لهم).
وأدت الإضرابات والاعتصامات في صناعات الفوسفات والأسمدة المملوكة للدولة على سبيل المثال إلى تدمير الإنتاج، وأجبرت الشركات على توظيف آلاف العمال غير الضروريين، ما أضر بقدرتها المالية على الاستمرار.
وهدد الاتحاد العام التونسي للشغل في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بإطلاق موجة من الإضرابات ما لم يوافق الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة على زيادة أجور عمال القطاع الخاص بنسبة 12%.
وقال اتحاد الصناعة والتجارة آنذاك إن الطلب كان "سريالياً" ولا يمكن تحمّله. كما عارض اتحاد الصناعة والتجارة زيادة الأجور على المستوى الوطني؛ لأنها لا تأخذ في الاعتبار المركز المالي للشركات الفردية. كما طالب اتحاد الصناعة بربط أي زيادة في الأجور بالتحسينات في الإنتاجية، التي انخفضت منذ الثورة مع زيادة التغيب والاضطرابات.
ويقول أمين غالي، من مركز الكواكبي للانتقال الديمقراطي في تونس: "إن قدرة الاتحاد العام التونسي للشغل على جعل البلاد في حالة من الجمود الاقتصادي واضحة"، حسبما ينقل عنه تقرير لمركز Carnegie الأمريكي.
الحكومات ونشطاء اليسار يحمون موظفي الدولة والعمال النقابيين فقط
فقد دافع الاتحاد العام التونسي عن مصالح الدوائر الداخلية لسوق العمل وهم موظفو القطاع العام المميزون نسبياً، بينما لم يفعل شيئاً يُذكر للأعداد الكبيرة من العاطلين عن العمل والموظفين الذين يعملون في القطاع الخاص دون عقود رسمية أو ضمان اجتماعي.
وقد ساهم ذلك في عدم المساواة الاقتصادية والإحباط الاجتماعي وتفشي عدم الكفاءة الاقتصادية، حسب تقرير مجلة Foreign Policy الأمريكية.
يعد الوضع في تونس نموذجاً للاضطراب الاقتصادي العام في جميع أنحاء العالم العربي خارج منطقة الخليج الغنية بالنفط: أنظمة ثابتة تحمي من خلالها الدولة مجموعات متقلصة من العاملين في مؤسساتها، بينما يتعرض العاملون خارجها لقوى السوق الغاشمة؛ مما يترتب عليه تشجيع عدم المساواة وتقويض المحركات الاقتصادية والإنتاجية والنمو.
وتشترك بلدان متنوعة مثل الجزائر ومصر والأردن والمغرب في هذا النهج غير المتوازن للرأسمالية.
وفي جميع هذه الحالات، تحمي الدولة الموظفين العاملين لديها، كما أن الحماية تشمل بعض الشركات، حيث تنقسم الشركات، التي تنقسم على نطاق واسع إلى شركات محسوبية لها صلات عميقة بالدولة من جهة وشركات هامشية غير رسمية من جهة أخرى. وتتلقى هذه الأخيرة القليل من دعم الدولة، والأهم أنها تحاول تجنب وطأة البيروقراطية الثقيلة للحكومة.
المشكلة ليست بتدخل الدولة المفرط كما يقول الاقتصاديون أو انسحابها كما يردد اليساريون
إنَّ قضية التنمية الاقتصادية في العالم العربي ليست مجرد مسألة "تدخل الدولة المفرط" كما يجادل العديد من الإصلاحيين المؤيدين للسوق، أو أن المشكلة انسحاب الدولة كما يدعو النقاد اليساريون.
بل بالأحرى المشكلة تكمن في السلوك غير المتكافئ للدولة عبر الإفراط في حماية البعض وإهمال الآخرين وتهميشهم.
ويترسخ هذا النظام غير المتكافئ، من خلال المصالح الخاصة التي تُشكِّل الدوائر السياسية الرئيسية؛ وعلى وجه التحديد، موظفو الدولة وشبكات المحسوبية في الأعمال التجارية.
وعلى النقيض من ذلك، لا يُعترَف بالدوائر الخارجية على أنهم جمهور سياسي لأنهم مهمشون اجتماعياً ومنشغلون بمحاولة الصمود يومياً وغير منظمين.
وهم يتعرضون للتهميش حتى من دوائر المعارضة مثل الاتحاد التونسي للشغل أو بقايا النقابات النشطة في مصر.
أبرز نموذج لذلك دفاع نقابة الصحفيين المصرية بما في ذلك قادة العمل النقابي اليساريون عن الامتيازات المالية وغير المالية التي تقدمها الدولة لصحفيي المؤسسات الصحفية القومية والصحفيين النقابيين العاملين في الصحف الخاصة التي لم يعد يقرؤها أحد، مقابل إهمال كامل لحقوق العاملين في الصحافة الإلكترونية المتصاعدة في نموذج فج للتهميش المزدوج من قبل الحكومة والنشطاء المعارضين.
النتيجة ليست هناك حوافز لتحسين الإنتاجية
وتعطي الطبيعة الجامدة للاقتصادات العربية حوافز قليلة للشركات أو العمال -سواء كانوا من الداخل أو الخارج- لتحسين الإنتاجية أو المهارات؛ مما يؤدي إلى ركود الاقتصاديات.
وللوصول إلى عقد اجتماعي أكثر شمولاً ونموذج نمو جديد، تحتاج المنطقة إلى شكل من أشكال التحرير المتكافئ: تحويل الامتيازات الداخلية إلى أمان اجتماعي عام وآليات دعم قد تكون أقل سخاء ولكنها متاحة على نطاق أوسع؛ مما يحمي الاندماج الاجتماعي وكذلك المنافسة العادلة والمحرك الاقتصادي.
وفي الوقت الحالي، لا يلوح مثل هذا التغيير الأساسي في الأفق. لأن الانقسامات بين العمال في القطاع العام وأولئك من هم خارجه بالمنطقة لها جذور تاريخية عميقة في برامج التنمية الاقتصادية الطموحة التي تقودها الدولة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فقد تضمنت هذه البرامج، خاصةً في الجمهوريات ذات الجذور الاشتراكية (يصفها تقرير المجلة الأمريكية بالشعبوية)، مثل الجزائر ومصر وسوريا، السيطرة على القطاع الخاص، فضلاً عن أجهزة الدولة الأكبر وتعيين الحكومة لأعداد كبيرة من الموظفين على نطاق أوسع من أي منطقة أخرى في جنوب الكرة الأرضية، وهو إرث يصعب تغييره.
العاملون بالقطاع العام قاعدة شعبية أساسية للحكومات
ويُشكِّل العاملون في القطاع العام قاعدة تاريخية أساسية للأنظمة العربية، وقد نجت امتيازاتهم النسبية من الجولات المتعاقبة من التقشف والتحرير الجزئي جيداً على نحو مدهش.
منذ الستينيات، قام عقد اجتماعي في الدول العربية يمكن وصفه بالوظيفة مقابل الصمت، أي مقابل قدرة الدولة على إبعاد الطبقات الوسطى عن المعارضة والعمل السياسي.
وعبر هذه السياسة، توسعت الحكومات في تعيين الموظفين في الجهاز البيروقراطي الذي تضخم تدريجياً، دون مراعاة المعايير الاقتصادية والكفاءة، والحاجة.
في جميع أنحاء المنطقة، تحافظ الرواتب الحكومية على طبقة وسطى تعتمد على الدولة. وترتفع حصص العاملين في القطاع العام بالنسبة لإجمالي القوى والعمال بعقود رسمية في هذه المنطقة لأعلى بكثير من المستويات في المناطق النامية الأخرى، نتيجة للوعود التاريخية -المنصوص عليها في القانون في بعض الأحيان- لتقديم وظائف حكومية لجميع الخريجين.
أضافت الشركات الراكدة التي تديرها الدولة، والتي غالباً ما كانت تعمل بالخسارة، المزيد من الأعباء إلى كشوف المرتبات العامة التي تدفعها الحكومات. استهلكت فواتير الأجور جزءاً كبيراً من الإيرادات، ولم تترك سوى القليل للإنفاق على الصحة أو التعليم أو الاستثمارات الرأسمالية.
في بعض البلدان أدت هذه الزيادة فقط ليس لزيادة العبء على ميزانيات الحكومات بل لتدهور عام لأداء الحكومات، كما انخفضت القيمة الحقيقية للأجور.
ومع تراجع الحكومات عن توظيف الخريجين الجدد، زاد الوضع سوءاً، يتلقى الموظفون الحكوميون أجوراً قليلة في الأغلب، ولكن يعملون أقل أيضاً؛ مما يؤثر على أداء الحكومة، وهم محميون بقوانين العمل التي تقلل فرص المحاسبة، بينما الخريجون الجدد إما يلقون في أتون البطالة أو يهاجرون بشكل غير شرعي في كثير من الأحيان، أو يعملون في القطاع الخاص، تحت ظروف سيئة وبأجور تقل أو تزيد قليلاً عن الموظفين الحكوميين الذين يتمتعون بمعدل أمان أعلى وعدد ساعات فعلية للعمل أقل، مما يجعل هناك فارقاً بين الجانبين في الأجر مقابل الساعة أو الإنتاجية الفعلية.
ففي الدول العربية، يصعب العثور على وظائف في الحكومة، ويصعب العيش على رواتبها، ومع ذلك يظل القطاع العام هو صاحب العمل المفضل. في عام 2020، قام الباحثون في منتدى البحوث الاقتصادية وهو مركز بحثي، بحساب أجر الكفاف في مصر، وهو الراتب الذي لن يقبل العامل دونه وظيفة. وبلغ متوسط النتيجة بالنسبة للعاطلين 2500 جنيه في القطاع العام و3000 في القطاع الخاص. كانت الفجوة أوسع للنساء: 1500 جنيه للقطاع العام و2500 جنيه للقطاع الخاص.
ليس من الصعب معرفة السبب. لا تزال العديد من الحكومات تتمتع بأمان وظيفي أفضل من القطاع الخاص. وجد التقرير أن 95% من موظفي القطاع العام حصلوا على إجازة مرضية مدفوعة الأجر، وأن 96% حصلوا على تأمين صحي. في القطاع الخاص، كانت هذه الأرقام 40% و36%، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
كما أن كثيراً من الموظفين يفضل تأمين وظيفة حكومية لتوفير الأمان الوظيفي، ثم بعد الحصول عليها يتجه للبحث عن وظيفة أخرى في القطاع الخاص لتحسين الدخل، في ظل سهولة التسرب من العمل الحكومي بسبب قلة الرقابة.
العمل الحكومي يعني بالنسبة للموظف في العديد من الدول العربية، وجاهة اجتماعية، ساعات عمل أقل رسمياً وأقل كثيراً واقعياً، محاسبة محدودة، إلا في الأخطاء الكبرى، مع حاجة محدودة للتطوير في ظل أمان وظيفي لا محدود، وأجور منخفضة أو جيدة حسب ظروف الوظيفة أو الدولة، مع إمكانية توافر فرصة لإيجاد عمل جانبي، أو بيزنس خاص.
وفي مصر كان هناك مثل شهير يعبر عن التعلق بالعمل الحكومي رغم أجوره المنخفضة، يقول: "إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه"، أي إن فاتتك الوظيفة الحكومية حاول الاستفادة من ترابها.
اتحاد الشغل يرفض خطة صندوق النقد فيما لدى تونس أعلى معدل أجور لحجم الاقتصاد في العالم
ويقوض التوظيف في القطاع العام المدفوع سياسياً الكفاءة الاقتصادية تقويضاً كبيراً.
وتتفشى العمالة الزائدة تحديداً في الشركات المملوكة للدولة: ففي عام 2021، امتلكت الخطوط الجوية التونسية 26 طائرة؛ منها سبع طائرات فقط تعمل، بينما توظف 7600 شخص -بواقع أكثر من 1000 لكل طائرة عاملة. وقاوم الاتحاد العام التونسي للشغل جميع المحاولات لتوحيد كشوف المرتبات.
والحفاظ على مثل هذه الدوائر الانتخابية من الموظفين الحكوميين مُكلِّف للاقتصاد برمته. وتتمتع تونس بأحد أعلى نسب الإنفاق في العالم على رواتب موظفي القطاع العام، التي وصلت إلى 15.1% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022.
وفي الواقع فإن الاتحاد العام التونسي للشغل أيد إجراءات الرئيس سعيد ضد الديمقراطية، ثم بدأ يعارضه، بعد أن تجاهل سعيد الاتحاد ولم يعِر اهتماماً لدعواته الحوارية، ثم تصاعدت معارضته بعد طرح صندوق النقد الدولي خطته على تونس للإصلاح المالي، رغم أنه لم يقدم بديلاً.
وقال أمينه العام نور الدين الطبوبي: "نحن ضد الخيارات المؤلمة والموجعة التي يتحدثون عنها، نحن مع الإصلاح، ولكن ليست لنا نفس النظرة حول الإصلاح مع الحكومة الحالية والحكومات المتعاقبة".
وتتضمن خطة الإصلاح الحكومية المدفوعة من الصندوق تجميد فاتورة رواتب القطاع العام، ومراجعة سياسة دعم بعض المواد الأساسية، وإعادة هيكلة شركات عامة تمر بوضع مالي سيئ.
العاملون خارج الحكومة قنبلة موقوتة
ويترك الإنفاق المرتفع على المنافع الداخلية القليل من الموارد لدعم الموظفين في سوق العمل الخاص، الذين يتلقون القليل من المساعدة الاجتماعية أو لا يتلقونها على الإطلاق.
ويقل معدل الإنفاق على المزايا غير المرتبطة بالعمل الرسمي في تلك المنطقة مقارنة بجميع مناطق العالم الأخرى. وتعاني معاشات التقاعد غير القائمة على الاشتراكات، وإعانات البطالة، وأنظمة المنح النقدية من التراجع؛ مما يُعرّض عمال القطاع الخاص للإهمال.
وشكّل إحباط العمالة في الدوائر الخارجية مشهد السياسة العربية. ففي تونس على وجه الخصوص، برزت تلك الفئة في الاحتجاجات الاجتماعية. كان البائع المتجول التونسي محمد البوعزيزي، الذي أشعلت تضحيته بنفسه شرارة الانتفاضات العربية في 2010-2011، عنصراً خارجياً جوهرياً.
ومع ذلك، أبقت حلقات التغذية السياسية النظام الحالي في مكانه: إذ تخشى الأنظمة من لمس الامتيازات دوائرها الداخلية نظراً لاعتمادها طويل الأمد على الطبقة الوسطى التي توظفها الدولة كقاعدة سياسية أساسية.
القانون الوحيد الذي رفض في عهد السيسي يتعلق بإصلاح العمل الحكومي
وحتى عندما تولى قائد الجيش عبد الفتاح السيسي حكم مصر في عام 2013، ورغم أنه عرف بقدرته على إدخال تغييرات غير شعبية دون مقاومة، فإنَّ القانون الوحيد الذي رفض برلمانه المطيع المصادقة عليه (حسب وصف المجلة الأمريكية) تضمن إجراءات إصلاح الخدمة المدنية.
ونظم الأفراد خارج القطاع الحكومي مظاهرات عرضية، لكنهم نادراً ما يطلبون تغييرات منهجية في أسواق العمل أو أنظمة الرعاية الاجتماعية. بل يميلون إلى طلب الوظائف الحكومية وأن يكونوا جزءاً داخلياً من هذا النظام بدلاً من قلب النظام أو خلق نظام كفؤ للعمل في القطاع الخاص.
الشركات المقربة للأنظمة تربح بينما البعيدة عنها تنزوي
وفي الوقت نفسه، فإنَّ غابة اللوائح الوقائية الموروثة التي تنظم خطط التنمية التي تقودها الدولة تُسهِّل الشبكات الفاسدة بين نُخب الدولة ورجال الأعمال. ولا تزال متطلبات الترخيص والتفتيش وصلاحيات الوصول إلى الأراضي والائتمان الخاضعة لسيطرة الدولة، والإعانات التقديرية وحماية التجارة، سائدة.
وتستخدم نُخب الدولة مثل هذه الأدوات لحماية الدوائر الداخلية، بينما تجعل من الصعب على الجيش الضخم من الشركات خارج هذه الدوائر المنافسة. ويُظهِر البحث التجريبي حول المحسوبية العربية النطاق المذهل للامتيازات التي تتمتع بها الدوائر الداخلية، أي الشركات المرتبطة بالطبقة السياسية.
ففي مصر، استحوذت الشركات "المرتبطة بالطبقة السياسية" في عهد مبارك على 11% فقط من إجمالي العمالة، لكنها تمتلك 60% من إجمالي صافي الأرباح بين الشركات المُدرجَة.
وكما هو الحال في أسواق العمل العربية، هناك إمكانية تنقل ضئيلة أمام الشركات بين الدائرة الداخلية والخارجية. وتظل الشركات العربية صغيرة وغير رسمية لفترة أطول مقارنة بنظيرتها في المناطق الأخرى، في حين أنَّ الشركات الكبيرة تخرج من سوق العمل بمعدل أقل من أي مكان آخر.
وبخلاف العمالة، فإنَّ الشركات في الدائرة الداخلية المقربة للسلطة أكثر تنظيماً وقادرة على التأثير في قرارات الدولة. وعند تحرير الأسواق رسمياً، لا سيما في سياق اتفاقيات التجارة الدولية، غالباً ما تتمكن الشركات في الدوائر الداخلية من الضغط من أجل قواعد تمييزية جديدة في مجالات أخرى من التنظيم لحماية امتيازاتها.
والشركات الداخلية المحمية لديها القليل من الحوافز لتصبح قادرة على المنافسة، في حين أنَّ الشركات في الدوائر الخارجية لديها فرصة ضئيلة للنمو والابتكار. وتسهم الانقسامات الثابتة بين الفئتين في القطاع الخاص العربي في انخفاض الإنتاجية وضعف الابتكار وضعف أداء التصدير. وإحدى النتائج الثانوية لهذا الضعف الهيكلي هي ندرة الوظائف الرسمية الجيدة في القطاع الخاص؛ مما يعزز بدوره اعتماد الطبقات الوسطى العربية على وظائف الدولة، التي تثقل الاقتصاد.
وجنباً إلى جنب مع أنظمة التعليم الحكومية الضعيفة، يؤدي ذلك إلى ضعف مستويات المهارات عبر الاقتصادات العربية. وهذا يقلل أكثر من فرص الأطراف في الدوائر الخارجية في العثور على وظائف جيدة – ويجعل الدائرة الداخلية الأمور تتشبث بامتيازاتها أكثر؛ نظراً لافتقارها إلى القدرة التنافسية في سوق أكثر انفتاحاً، فهي تربح من الامتيارات وليست من المهارات كما يحدث في الاقتصادات الناجحة.
ولذلك يظهر الفشل واضحاً عندما تواجه منافسة خارجية إذا فتحت الأسواق المحلية أو اضطرت للتصدير.
باختصار، السرد السائد بأنَّ الإصلاحات النيوليبرالية والمؤيدة للسوق أدت إلى عدم المساواة والفساد والركود الاقتصادي في جميع أنحاء العالم العربي هي على أحسن تقدير غير مكتمل. ففي حين أنَّ إجراءات التحرير التي أديرت إدارة سيئة والتعامل بهدف المنفعة الذاتية قد ساهمت في كل هذه المشكلات، إلا أنَّ الحماية المستمرة والعميقة لمجموعات مختارة من الدوائر الداخلية في السوق هي بنفس القدر من الإشكالية والتشويه.
وما لم يُعثَر على عقد اجتماعي جديد، فإنَّ عدم كفاءة النظام الحالي سيجعل الجميع أسوأ على المدى الطويل، بما في ذلك الدوائر الداخلية التي لم تعد الدولة قادرة على دعمها.
ووصلت مصر لأبعد نقطة بين دول المنطقة على هذا الطريق نحو الفقر العام. وبدأت الجولات المتكررة لتخفيض قيمة العملة في دفع القوى العاملة بالقطاع العام إلى مستوى الدوائر الخارجية -مع الحفاظ عامةً على مصالح شركات المحسوبية.
وسيكون من مصلحة الحكام على المدى الطويل البدء في تكريس المزيد من الاهتمام لقوة العمل خارج الدوائر الداخلية القادرين على إثارة الاضطرابات العفوية التي ساهمت بحسم في الاضطرابات والثورات الماضية، رغم أنهم غير منظمين كجماعة ضغط. ومن الأجدر للحكام أيضاً أن يتذكروا أنَّ كراهية المواطنين للعاملين في أجهزة الدولة وشركات المحسوبية غير المنتجين، والمؤيدين للرأسمالية والمُعيّنين بالمحسوبية، كانت عاملاً أساسياً دفع الناس إلى النزول للشوارع خلال الموجة الأخيرة من الانتفاضات.