مظاهرات حاشدة تشهدها جورجيا، استخدمت فيها الشرطة خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، والسبب قانون "الوكلاء الأجانب"، فما قصة هذه الجبهة المؤجلة من الصراع بين روسيا والغرب؟ ولماذا توصف بأنها أوكرانيا أخرى؟
كانت الشرطة الجورجية قد استخدمت مدافع المياه والغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت، في وقت متأخر من مساء الأربعاء 8 مارس/آذار، في محاولات لتفريق احتجاجات تشهدها البلاد لليوم الثاني على التوالي، اندلعت بسبب سعي البرلمان لتمرير قانون "الوكلاء الأجانب"، الذي يصفه منتقدوه بأنه "قانون روسي".
وانتشر المئات من أفراد الأمن في الشوارع حول مبنى البرلمان، في محاولة لتفريق المحتجين. وقالت وزارة الداخلية إنه جرى احتجاز 77 شخصاً بعد احتجاجات يوم الثلاثاء التي بدأت بعد أن أقر المشرعون قراءة أولى لمشروع القانون الذي يلزم أي منظمة تتلقى أكثر من 20% من تمويلها من خارج البلاد بأن تسجل نفسها على أنها ضمن "الوكلاء الأجانب"، وإلا ستواجه غرامات باهظة.
ما قصة جورجيا؟ ولماذا هي جبهة صراع بين روسيا والغرب؟
كانت جورجيا واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي، شأنها في ذلك شأن أوكرانيا، ونالت استقلالها عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة.
وعلى مدى 10 سنوات، عانت جورجيا من الاضطرابات الداخلية بعد الاستقلال، في ظل انقسام البلاد بين معسكرين: أحدهما يميل إلى روسيا والآخر يميل إلى الغرب. وخلال تلك الفترة، شهد إقليم أبخازيا اقتتالاً نتج عنه إعلان الإقليم استقلاله عن جورجيا.
وتقول تبليسي إن هذه المنطقة الانفصالية محتلة من جانب القوات الروسية، ولا يزال الإقليم المستقل موضع نزاع حتى اليوم. وخلال الفترة من 2000 إلى 2020، بدأت جورجيا فتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمارات الأجنبية، علاوة على مساعي تستهدف القضاء على الفساد واتخاذ إجراءات تحقق التقارب بينها وبين الاتحاد الأوروبي ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي 2008، احتلت القوات الروسية منطقة أخرى في جورجيا فيما يعرف بـ"حرب الأيام الخمسة"، وهي منطقة أوسيتيا الجنوبية الجبلية الصغيرة الكائنة في شمال شرقي العاصمة تبليسي.
وأعلنت المنطقة استقلالها في وقت لاحق أيضاً، واعترف بها عدد قليل من الدول، من بينها روسيا وفنزويلا. ولا تزال أوسيتيا الجنوبية خاضعة للسيطرة الروسية.
ويسيطر القلق على أغلبية سكان جورجيا حيال إمكانية نشوب المزيد من الصراعات. وأشارت نتائج استطلاع رأي أجري في الفترة الأخيرة إلى أن أغلب سكان البلاد يفضلون الحل السلمي لمشكلة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
هذه الأحداث والتطورات تتشابه إلى حد التطابق ربما مع أزمة أوكرانيا، التي كانت أيضاً واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، واختارت الاستقلال عام 1991، ثم شهدت البلاد اضطرابات ناجمة أيضاً عن الانقسام بين معسكرين أحدهما ميال إلى روسيا والآخر ميال إلى الغرب.
لكن الاختلاف بين الحالة الأوكرانية والحالة الجورجية يتمثل في وجود نسبة كبيرة من سكان أوكرانيا يعتبرون أنفسهم روساً، وبخاصة في الأقاليم الشرقية والجنوبية المتاخمة للحدود مع روسيا.
وعلى غرار الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا، والذي تحول إلى حرب تصفها موسكو بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، يخشى كثير من الجورجيين أن يجدوا بلدهم مسرحاً لحرب أخرى، خصوصاً في ظل السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وهو ما ترفضه موسكو بطبيعة الحال.
وكما حدث مع شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، عندما أعلن الإقليم الانفصال عن أوكرانيا وقدم طلباً للانضمام إلى روسيا، وهو ما حدث بالفعل، هناك في جورجيا إقليمان ينطبق عليهما الوضع نفسه تقريباً وهما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
ما قصة قانون "الوكلاء الأجانب"؟
كان عشرات الآلاف من سكان جورجيا قد نظموا مظاهرة حاشدة مساء الثلاثاء في وسط مدينة تبليسي، بعد تمرير البرلمان القراءة الأولى لمشروع قانون مثير للجدل يُعرف "بالمنظمات الأجنبية"، يقول معارضوه إن من شأنه أن يحد من حرية الصحافة، وإنه قد يستخدم لقمع المنظمات غير الحكومية، علاوة على المساس بحقوق منظمات حقوقية تعمل في البلاد.
واستخدمت قوات مكافحة الشغب خراطيم المياه ورذاذ الفلفل لتفريق المتظاهرين أمام مقر برلمان جورجيا بينما كان بعض المشاركين في الاحتجاجات يهتفون: "يسقط القانون الروسي"، في إشارة إلى أن مشروع القانون المقترح يُعد نسخة من قانون معمول به في روسيا.
وإذا مرر البرلمان هذا القانون، سوف يلزم جميع المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي تتلقى أكثر من 20% من تمويلها من جهات خارج البلاد بأن تُدرج في سجل خاص، وأن تتقدم بتقرير إفصاح مالي كل سنة. وإذا لم تتقدم تلك المنظمات بتقرير الإفصاح المشار إليه في مشروع القانون، تُوقَّع عليها غرامة مالية قدرها 9500 دولار أمريكي.
وقالت وزارة العدل في جورجيا إن التشريع المقترح يستهدف كشف "عملاء التأثير الأجنبي" في البلاد، ويرى مؤيدو القانون المقترح أن الولايات المتحدة لديها قانون مشابه، وهو قانون تسجيل العملاء الأجانب.
في المقابل، يرفض معارضو هذا التشريع المقترح في جورجيا تمريره لأنهم يرون أنه تقليد لروسيا وما تنتهجه من قمع لحرية التعبير. كما يعتبرون هذا القانون إشارة إلى أن النفوذ الروسي في جورجيا بدأ يتزايد. والأهم من ذلك، يؤكد هؤلاء أن هذا التشريع يقلل من فرص انضمام جورجيا للاتحاد الأوروبي.
ويستحوذ الحزب الحاكم في جورجيا، "حلم جورجيا"، على الأغلبية في البرلمان منذ حوالي عقد من الزمن. وبينما يظهر أعضاء الحزب توجهاً ينحاز نظرياً إلى الاتحاد الأوروبي وقيمه، يحتفظ الحزب الحاكم -على الصعيد العملي- بعلاقات طيبة مع روسيا.
وفي ظل سيطرة الحزب الحاكم على الأغلبية في البرلمان، فإن الاحتمال الأكبر هو أن يتم إقرار القانون في نهاية المطاف، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
لكن الحزب الحاكم قرر، الخميس 9 مارس/آذار، سحب مشروع القانون "دون شروط"، قائلاً إن الهدف الرئيسي للحكومة الجورجية هو "خدمة الشعب وتقليل الانقسامات داخل المجتمع"، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
حرب أوكرانيا وتأثيرها على جورجيا
عندما اندلعت الحرب في أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022، اختارت الحكومة الجورجية أن تلتزم الحياد في الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب، فرفضت الحكومة إعلان دعمها الصريح لأوكرانيا أو رفض العقوبات التي وُقعت على روسيا.
ويرى كثيرون أن خيار العلاقات الطيبة مع موسكو كان من الأمور التي تستدعيها مصلحة البلاد، وكان أيضاً من الخيارات التي كان من الضروري اللجوء إليها في السنوات القليلة الماضية.
وركز هذا الحياد الجورجي على العرض المضيء العملاق الذي كتب بحروف من نور "تبليسي مدينة السلام"، لكنه يلقي الضوء أيضاً على التناقض بين هذه العبارة وحقيقة أن الكثير من الجورجيين تطوعوا للقتال في صفوف الفيلق الأجنبي إلى جانب القوات الأوكرانية ضد الجيش الروسي، بحسب تقارير غربية.
ولا يزال عدد الجورجيين الذين يشاركون في القتال في أوكرانيا غير معروف، لكن من المرجح أن عددهم يقدر بالمئات وسط تقارير تشير إلى مقتل العشرات منهم، بحسب تقرير لبي بي سي.
والواضح أن هناك تعاطفاً شعبياً متنامياً مع الأوكرانيين، لكن في الوقت نفسه يخشى قطاع عريض من الجورجيين أن تتعرض بلادهم للمصير ذاته إذا ما قررت الانحياز لأي من طرفي الصراع، خصوصاً أن الحياد يبدو الحل الأسلم من وجهة نظر هؤلاء.
كانت الأعلام الأوكرانية والأعلام الأمريكية حاضرة بقوة خلال المظاهرات الرافضة لقانون "الوكلاء الأجانب"، وهو ما يشير إلى مدى تأثير الحرب الأوكرانية على ما يجري على الأراضي الأوكرانية.
وقام الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بمخاطبة المتظاهرين عبر الإنترنت، ووجه لهم الشكر على "رفع العلم الأوكراني والتعاطف مع الأوكرانيين"، قائلاً إن "أوكرانيا تريد الانضمام للاتحاد الأوروبي ولحلف الناتو، وهذا ما سيحدث. وجورجيا تريد الانضمام للاتحاد الأوروبي ولحلف الناتو، وهذا أيضاً ما سيحدث".
لكن في الذكرى الأولى للحرب في أوكرانيا، أعادت الحكومة في جورجيا تكرار دعوتها للتهدئة والبحث عن حلول سلمية، وشددت على أن موقفها ينبع من رغبتها في "الحفاظ على السلام". كما أعربت عن مخاوفها حيال هؤلاء الذين يريدون أن يمتد الصراع إلى جورجيا.
وقال رئيس وزراء جورجيا إيراكلي غاريباشفيلي: "نحن الحكومة التي تفادت تعرض جورجيا مرة أخرى لخطر الحرب وتجنبت التصعيد. فلو كانت هناك قوى مدمرة في السلطة، لتحول جزء كبير من جورجيا، مثل أوكرانيا تماماً، إلى منطقة قتال. دعونا نعِش في سلام وليعتنِ كل ببلده".
وحاولت تبليسي منع المتطوعين من السفر للانضمام إلى المقاتلين في صفوف أوكرانيا، محذرة من أن ذلك قد يؤدي إلى تورط جورجيا في الصراع. لكن في النهاية، لا يزال عدد كبير من الجورجيين ينجحون في الانتقال إلى كييف وسط تأكيد من قبل السلطات الجورجية على أنها ليس لها علاقة بهؤلاء المقاتلين.
لكن في الجانب الآخر، لا تزال المعارضة -التي سافر الكثير من أنصارها للقتال في أوكرانيا- تخرج إلى الشارع لإحياء ذكرى هؤلاء الذين قتلوا أثناء الصراع في أوكرانيا، بمن فيهم المقاتلون الجورجيون.
الخلاصة هنا هي أن جورجيا تمثل جبهة من جبهات الصراع بين روسيا والغرب، شأنها شأن أوكرانيا تماماً، وتسعى الحكومة في تبليسي إلى تجنيب البلاد المصير الأوكراني، لكن المعارضة هناك لها رأي آخر مختلف تماماً، فلمن ستكون الكلمة العليا في نهاية المطاف؟