يبدو الدور التركي في الأزمة الأوكرانية فريداً من نوعه، حيث تكاد تركيا تكون الدولة الوحيدة التي ينظر لها الطرفان المتحاربان، كييف وموسكو بإيجابية، ولا يستغني عن دورها الغرب رغم الخلافات المريرة في ملفات أخرى، بل لعبت أنقرة دوراً أفاد إفريقيا ودول العالم الثالث برمته عبر وساطتها مع الأمم المتحدة في اتفاقية حبوب البحر الأسود.
وأصبحت تركيا أحد منافذ روسيا القليلة على العالم بعد أن أحكم الطوق الغربي عليها، وفي الوقت ذاته قدّمت روسيا، منذ بدء غزوها لأوكرانيا، شريان حياة من الناس والمال لتركيا، وحصلت على الكثير من الفوائد في المقابل، حسب وصف تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
الروس يتدفقون على تركيا هرباً من التجنيد والحصار
خلال العام الماضي، تدفق الروس إلى تركيا بأعداد كبيرة؛ حيث اشترى كثيرون عقارات، في حين جاء آخرون هرباً من التجنيد الإجباري في الجيش الروسي، بعد استدعاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للاحتياط، أو لإيداع مدخراتهم خارج اقتصاد البلاد الخاضع للعقوبات الغربية، أو تأسيس أعمال تجارية.
ففي العام الماضي وحده، افتتح الروس 1363 شركة جديدة في تركيا. كما أنه وفقاً لبيانات الحكومة التركية، معظم طلبات الحصول على تصاريح إقامة المُقدَّمة لمكاتب الهجرة في جميع أنحاء أكبر مدن تركيا تأتي من الروس الآن، وقد مُنِح ما يزيد على 155000 روسي تصاريح.
ورحّبت تركيا واقتصادها في الغالب بالوافدين الجدد وأموالهم. وقد غيّر الوافدون إلى حد ما -ومؤقتاً على الأقل- وجوه المدن التركية، مثل إسطنبول أو أنطاليا؛ حيث ازدحمت المقاهي بالزوار الروس، وارتفعت الإيجارات، لكن أسعار الغاز الطبيعي ظلت منخفضة.
بالنسبة لتركيا، فإنَّ الحفاظ على العلاقات مع روسيا، بل حتى تعميقها، دون المساس بمكانتها بصفتها واحدة من أكبر أعضاء الناتو هي عملية توازن صعبة لكن ضرورية جداً. لأن تركيا محاصرة بين إيران والغرب، ولها حدود برية مع سوريا، وتسيطر على منفذ البحر الأسود الوحيد إلى المحيط، ولها حدود بحرية مع أوكرانيا وروسيا. ومنذ بدأت الحرب، تمكنت تركيا من دعم كل من الجهد العسكري الأوكراني والاقتصاد الروسي الذي مزقته الحرب في الوقت ذاته، حسب المجلة الأمريكية.
قبل الحرب، زوّدت تركيا أوكرانيا بطائرات من دون طيار -التي تُستخدَم بكفاءة ضد القوات الروسية- لدرجة أن الأوكرانيين ألفوا لها أغنية، وساعدت أنقرة في التفاوض على صفقة تسمح بشحن الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود، واستضافت المفاوضات الوحيدة التي جرت بهدف محاولة التوصل لوقف إطلاق نار، وتسوية سياسية.
الدور التركي في الأزمة الأوكرانية تحتاجه كل الأطراف
ومن بين كل الوسطاء المحتملين، فإن تركيا قد تكون الوحيدة التي تحظى بثقة الجانبين، فأوكرانيا ترى فيها حليفاً قديماً منذ زمن كان فيه الغرب يتجاهلها، حيث أبرما شراكة سياسية وعسكرية واسعة كانت ترمي لتقوية موقف كييف الضعيف في البحر الأسود، وتضمن تزويد أنقرة لها بأسلحة متطورة تفتقدها تشمل بجانب مسيرات البيرقدار، سفناً حربية وصواريخ كروز، مقابل أن تزود أوكرانيا أنقرة بالتقنية اللازمة لمعالجة أوجه القصور الرئيسية في مشروعات الاسلحة التركية المتعلقة بالأساس بالمحركات، إضافة لتزويد تركيا بتكنولوجيا الأقمار الاصطناعية.
على الجانب الآخر، رغم التنافس التاريخي بين تركيا وروسيا والحروب القديمة، ودعم الطرفين لحلفائهما المتحاربين في سوريا وليبيا والقوقاز، فإن البلدين طورا علاقة مركبة فيها تبادل اقتصادي وثيق، واستيراد أسلحة وبناء مفاعلات نووية وعقد تسويات حاسمة وناجحة تنهي اقتتال حلفاء البلدين في مناطق الخلاف.
إنها طريقة فريدة لإدارة الصراعات، تبدو روسيا من جهة وأوكرانيا والغرب من جهة أخرى في أمسّ الحاجة إليها.
وفي بعض الأحيان، يعترف قادة ومسؤولون غربيون بأهمية الدور التركي في الأزمة الأوكرانية ويشيدون به، وهم يعرفون وإن كان لا يصرحون بذلك كثيراً، أن دور الوساطة التركية أهم من تقديم أنقرة أسلحة لكييف، ففي أزمة حساسة يمكن أن تسبب حرباً عالمية، أن يكون الوسيط عضواً بالناتو ولديه علاقات سياسية واستخباراتية وعسكرية مع واشنطن والدول الأوروبية لهو أمر شديد الأهمية ويضفي بعض النظام على الفوضى الأسوأ في العلاقة بين روسيا والغرب منذ مئات السنين.
حتى إن أردوغان قال في المراحل الأولى للحرب، إنه يستطيع الجمع بين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي وجهاً لوجه، وهو ادعاء وصفه الكاتب البريطاني جاستن هاغلر في مقال بصحيفة التليغراف، بأنه "ليس تفاخراً خاوياً".
وبعد الحرب الأوكرانية التي عزلت روسيا، كثّفت تركيا مشترياتها من الغاز والنفط الروسي وساعدت جزئياً في حماية موسكو من تأثير العقوبات، في الوقت ذاته قيدت حركة الأسطول الروسي الداخل للبحر الأسود بتفعيل اتفاقية مونتري لعام 1936، ومكنت مزارعي أوكرانيا من بيع حبوبهم التي كان غيابها يهدد باندلاع أزمة جوع عالمية.
وبالنسبة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فتعد هذه صفقة ضرورية تولّدت من احتياجاته الجيوسياسية والسياسية والاقتصادية، كما هي ضرورية لروسيا والغرب والعالم الثالث على السواء.
وربما تكون انتخابات مايو/أيار هي التحدي الأكبر الذي يواجهه أردوغان، وقد تساعده هذه المعادلة الصعبة التي صنعها بأزمة أوكرانيا على الفوز بها، حسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.
ماذا عن موقف الرأي العام التركي تجاه دوره أنقرة في الأزمة الأوكرانية؟
على الأرجح هناك ارتياح لدى الرأي العام التركي تجاه دور وموقف أنقرة في الأزمة الأوكرانية، وقد يشمل هذا الارتياح المعارضين الأتراك حتى لو لم يفصحوا عنه.
فتاريخياً كانت روسيا والدول الغربية الكبرى هم أعداء الدولة العثمانية الذين أضعفوها وساهموا أو تواطأوا في عمليات طرد المسلمين الأتراك وغيرهم من المسلمين من مناطقها الأوروبية السابقة.
وقد يكون سبب نجاة الدولة العثمانية في عصور ضعفها الأخيرة قبل هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، هو أن روسيا والغرب لم يتفقا على حربها إلا نادراً، لأن كليهما لا يريد للطرف الآخر أن يسيطر على موقع تركيا الاستراتيجي، خاصةً إسطنبول المتحكمة في البحر الأسود.
ورغم أن العلمانيين الأتراك تسيطر عليهم دوماً فكرة التوجه غرباً، وكان حلم الانتماء إلى الاتحاد الأوروبي مسألة جوهرية لديهم، فإنه حتى هؤلاء العلمانيين لا ينسون أن القوى الاستعمارية الغربية مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، احتلت تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، واقتسمت أراضيها ومنحت اليونان أجزاء واسعة من البلاد وضمن ذلك إزمير، وتركت اليونانيين يمارسون فظائع ضد الشعب التركي، في ظل محاولتهم تأسيس ما يعرف باسم "اليونان الكبرى" على أراضي تركيا.
ولا ينسون أنه في لحظة تاريخية بين البلدين دعم الاتحاد السوفييتي نكاية في الغرب، حركة الكفاح من أجل التحرير والاستقلال التركي التي قادها مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك.
ومع أن انضمام تركيا إلى الناتو كان قائماً على معادلة غير رسمية، مفادها أن يحمي الناتو تركيا ويدعمها في مواجهة الأطماع السوفييتية أو الروسية المحتملة، مقابل استفادة الناتو من موقع تركيا الاستراتيجي وثقلها البشري (لديها ثاني أكبر جيش بالحلف بعد أمريكا)، ودورها التاريخي كمنافس لموسكو في البحر الأسود والقوقاز والشرق الأوسط وصولاً لآسيا الوسطى.
ولكن هذه المعادلة سقطت في أول اختبار عندما جاء الروس إلى حدود تركيا الجنوبية لدعم نظام بشار الأسد.
فلقد سحبت دول الناتو وضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، عام 2015، أنظمة صواريخ باتريوت من تركيا بعد وصول القوات الروسية لإنقاذ نظام الأسد، رغم أن الغرب كان شريكاً لأنقرة ودول الخليج في دعم المعارضة السورية، ويتحمل جزءاً من مسؤولية توتر علاقة أنقرة مع دمشق وطهران وموسكو.
وترك حلف الناتو وأمريكا أنقرة في مواجهة المقاتلات الروسية التي سيطرت على سماء سوريا وانتهكت أجواء تركيا، التي لم تكن تمتلك نظاماً دفاعياً جوياً قوياً بسبب تلكؤ أوروبا وأمريكا في منحها أحد أنظمتها المتطورة.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2015، عندما أسقطت تركيا طائرة روسية اخترقت أجواءها على الحدود مع سوريا، وتوترت العلاقات بشدة بين البلدين، بدا موقف الناتو والولايات المتحدة محايداً تماماً، كأنه لا شأن لهما بالأزمة السورية أو تركيا، رغم أن ميثاق الناتو يؤكد أن الاعتداء على أي دولة بالحلف اعتداء عليها جميعاً، ورغم أن دور تركيا في الأزمة السورية جاء بتنسيق وأحياناً بتشجيع من الغرب.
وفي يونيو/حزيران 2016، اعتذر أردوغان عن الحادثة، وأشار إلى استعداده لاستعادة العلاقات، حسبما قال الكرملين آنذاك، وبعد شهر كان موقف روسيا أكثر حسماً ووضوحاً في معارضة محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا مقابل ميوعة المواقف الغربية.
بالنسبة لبوتين، كان التعاون مع تركيا فيه تقليل لتكلفة الحرب في سوريا، وإعادة تنظيم الوضع بسرعةٍ أكبر لتعزيز انتصاره السوري، وتهميش للإيرانيين، والأهم الفوز بصداقة تركيا بموقعها الاستراتيجي الهام ودورها كثاني أكبر عضو في الناتو.
بالنسبة لتركيا كان التعاون مع روسيا لتقليل خسائرها وخسائر حلفائها في سوريا، وضمان أمن حدودها والحصول على مقعد جيد في طاولة التفاوض حول سوريا، وفعلياً حصلت على المقعد الثاني في المفاوضات، متفوقة على إيران التي تم تهميشها بشكل كبير في المفاوضات بشأن سوريا.
وعلى الأرجح عندما يتذكر الأتراك أزمة الطائرة الروسية هذه، سوف يثمنون نجاح أردوغان حالياً في تجنب محاولات الغرب لتوريط أنقرة في الصراع الروسي الأوكراني تحت اسم التضامن الأوروبي والغربي، الذي كان قد اختفى تماماً عندما سقطت الطائرة في عام 2015.
وعلى الأرجح، كان عدم رد الغرب على التدخل الروسي في سوريا للقضاء على الثورة السورية، وترك تركيا وحدها دون دعم في هذه الأزمة هو بداية صعود النزعة العداونية الروسية التي انتهت بحرب أوكرانيا.
علاقة فريدة ليست تحالفاً، ولكنها شراكة تجمع بين التنافس والتنسيق
ولكن هذه المرارة من الغرب، والتحسن في العلاقات مع روسيا بعد أزمة الطائرة والانقلاب ونجاح البلدين في تحقيق تسوية جزئية بسوريا والقوقاز وليبيا، لا تنفي أن العلاقة بين موسكو وأنقرة معقدة، فهي ليست تحالفاً، بل شراكة مركبة تجمع بين التنسيق والتنافس مع خلفيات تاريخية مؤلمة، وشعور متشابه بالتعرض للغبن أو غياب التقدير الكافي من قبل الغرب.
وفي هذا السياق، قال ألبير كوسكون، الزميل البارز في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "يربط روسيا وتركيا زواج مصلحة. وهو بالتأكيد ليس زواجاً سهلاً"، حسبما نقلت عن مجلة مجلة Foreign Policy.
وتمثل روسيا لتركيا فرصة، لكنها تشكل تهديداً في الوقت نفسه. إذ من المؤكد أنَّ سيطرة روسيا العدوانية على المدن الساحلية الأوكرانية ليست في مصلحة تركيا، لكن نفس الشيء ينطبق على ظهور دويلة كردية في شمال سوريا بدعم أمريكي.
فمنذ عام 2014، دعمت الولايات المتحدة المقاتلين الأكراد في شمال سوريا، في حين تقول تركيا أنَّ الميليشيات الكردية لها علاقات عميقة مع حزب العمال الكردستاني السياسي، الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأنها منظمة إرهابية.
وهناك تقارير لمؤسسات بحثية غربية تؤكد على هذه العلاقة.
وتقف روسيا على الطرف الآخر في سوريا في مواجهة أنقرة، حيث تدعم الرئيس السوري بشار الأسد.
"الصديق وقت الضيق".. أنقرة قدمت دعماً عسكرياً لأوكرانيا قبل وبعد الحرب
وأفادت تقارير أن تركيا قدمت قبل أشهر قليلة أنظمة مدفعية صاروخية لأوكرانيا مماثلة لنظام هيمارس "HIMARS" الأمريكي الشهير.
وفي هذا الصدد، قال الخبير الروسي المستقل كريم هاس إنَّ دعم تركيا لأوكرانيا لا يغير قواعد اللعبة في الحرب. وأضاف: "المساعدة العسكرية التركية لكييف موجودة بالتأكيد، ولا ينبغي الاستهانة بها، لكنها لا تتجاوز حتى الآن الخطوط الحمراء لموسكو. تركيا لا ترسل دبابات ولا طائرات مقاتلة؛ لذا فهي على مستوى يقبله الكرملين".
ولكن الدعم التركي العسكري المباشر لكييف أغلبه تم قبل الحرب، في وقت كانت فيه دولة مثل ألمانيا تمتنع عن تقديم الأسلحة لأوكرانيا لكي لا تغضب بوتين الذي كانت تستورد منه الغاز الرخيص، وكانت تتجاهل مصالح كييف حسب تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لدرجة أنها شاركت روسيا في مشروع خط غاز نورد ستريم 2 الذي مكن موسكو من الاستغناء، عن الخطوط الذاهبة لأوروبا عبر أوكرانيا، مما يمكن اعتباره من الأمور المشجعة على الغزو الروسي للبلاد، وإضعافها اقتصادياً بعد أن فقدت عائدات المرور المجزية.
بينما كانت فرنسا في ذلك الوقت تؤكد على ضرورة مراعاة مصالح روسيا، وتحسين العلاقات الغربية معها باعتبارهاَ عضواً أصيلاً في الأسرة الأوروبية، وتحاول تنصيب تركيا عدواً لأوروبا بينما تبعد الأنظار عما تمثله موسكو من مخاطر مثبتة على الاتحاد الأوروبي.
بالنسبة لأوكرانيا تمثل تركيا نموذجاً لمقولة الصديق وقت الضيق، أما بلد مثل ألمانيا وفرنسا، فهما أصدقاء زمن الشهرة حيث تحركوا فحسب بعد أن باتت الأزمة الأوكرانية أيقونة الغرب التي تحظى بالاهتمام الإعلامي.
بوتين يتغاضى عن موقف أردوغان الواضح في إدانته للغزو
من الناحية الاقتصادية، عززت روسيا الاقتصاد التركي بتدفقات ضخمة من رأس المال، خاصةً منذ غزوها واسع النطاق لأوكرانيا، وهي تغض الطرف عن الدعم العسكري المحدود من أنقرة لكييف. ويتفاوض البلدان حالياً على خصم محتمل على مبيعات الغاز، وقد طلبت تركيا من روسيا تأجيل مدفوعات الغاز حتى عام 2024؛ مما يوفر على الأقل تخفيفاً اقتصادياً مؤقتاً.
كما بدأت روسيا في تشييد محطة طاقة نووية في تركيا تُعد الأولى في العالم بنظام البناء والتشغيل، وأفادت تقارير سابقة بأنها موسكو حولت مليارات الدولارات لأنقرة لبدء العمل فيها.
ومع ذلك، تتمتع روسيا بمنافع من هذه العلاقة أيضاً. فبالنسبة للكرملين المعزول والخاضع للعقوبات، صارت تركيا ملاذاً مالياً آمناً. في العام الماضي، بلغت التجارة بين البلدين ما يُقدَّر بنحو 70 مليار دولار، مما يجعل تركيا واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لروسيا. وفي الوقت نفسه، تريد مئات الشركات الغربية التعامل مع روسيا من خلال فتح مكاتب في تركيا لمواصلة التجارة مع موسكو، حسبما ذكرت صحيفة Hurriyet Daily News التركية.
وقال هاس: "ليس لدى بوتين حقاً أي خيار آخر غير تعزيز العلاقة مع تركيا؛ عبر هذا النهج البراغماتي. برغم أنَّ أردوغان لم يكن دوماً شريكاً سهلاً لموسكو، لكن بوتين ليس أمامه بديل أفضل للعمل معه سواء داخل تركيا وخارجها: لأن إنَّ جميع البدائل الأخرى هم قادة أكثر موالاة للغرب".
وفي هذا النهج يقدم بوتين العديد من التنازلات التي لم يكن ليقبلها قبل الحرب ويضطر للتغاضي عن أشياء كثيرة تغضبه بالتأكيد، مثل زيارة أردوغان لأوكرانيا بعد الحرب في أغسطس/آب 2022، وإدانته الصريحة للغزو الروسي وتأكيده الإلتزام بسيادة كييف على كل أراضيها، وهو موقف مختلف عن أغلب دول العالم غير الغربية مثل الصين والهند والعديد من الدول العربية ودول إفريقيا وأمريكا اللاتينية التي تتجنب إدانة موسكو، أو تفعل ذلك على استحياء.
واللافت أنه رغم أن تركيا كان يمكن أن تستغل إنشغال موسكو، بحرب أوكرانيا، ورغبة أمريكا في إيذائها، لتتفق مع واشنطن ضد النفوذ الروسي في سوريا، مقابل إطلاق يد أنقرة ضد الأكراد، ولكن العكس هو ما حدث إذ تحترم تركيا تفاهماتها مع موسكو بشأن سوريا بل أبدت استعدادها للتطبيع مع الأسد، لتؤكد على أنها شريكاً موثوقاً لا ينتهز الفرص.
على الجانب الآخر، من الناحيتين الجغرافية والعسكرية، تضع تركيا نفسها في صف الكتلة الغربية وكانت حليفاً حيوياً للغرب، لكن اقتصادياً، ليس أمام أنقرة خيار آخر سوى العمل مع روسيا.
وأشار هاس: "إذا قطعت روسيا الغاز عن تركيا، فستكون كارثة. وبالمثل، إذا حدثت مشكلة للاقتصاد التركي، فإنَّ البنوك الأوروبية ستعاني أيضاً من عدد القروض التي أخذتها أنقرة منها".
العداوات التاريخية قد تعود
ومع ذلك، مثل جميع الزيجات -سواء أكانت بدافع المصلحة أم غير ذلك- هناك ماضي مشحون واحتكاكات محتملة في الأفق. إذ يُقرّ أردوغان بواقع وجود روسيا في منطقة البحر الأسود، خاصةً وأنَّ الولايات المتحدة غائبة إلى حد كبير اقتصادياً وعسكرياً عن المنطقة. وقال محمد كوجاك، محلل الشؤون الخارجية المستقل المقيم في أنقرة: "أردوغان تكيف مع هذا: الولايات المتحدة تحول تركيزها بعيداً عن منطقة البحر الأسود".
ومع ذلك، أردف كوجاك أنَّ العداوات التاريخية والتنافس طويل الأمد قد يعودان ويطغيان على التعايش الاقتصادي والسياسي الحالي.
وأضاف كوجاك: "نظراً لشراكتها مع روسيا، عالجت تركيا قضاياها الأمنية العاجلة، والمتعلقة في الغالب بسوريا بنهج مخالف تماماً عن الغرب.
وافترقت أجندة تركيا عن أجندة الغرب في سوريا بشكل كبير، لأن أنقرة ترى أن مواقف الغرب تضر بأمنها القومي بتحالفه مع الأكراد، بينما الروس الذين لديهم علاقات قديمة منذ العهد السوفيتي مع حزب العمال الكردستاني أكثر مراعاة نسبياً لمخاوف أنقرة.
ولكن تركيا في الوقت نفسه تقدر عضويتها في الناتو وتحالفها الأمني مع الغرب، كما بدأت تقيم علاقة وثيقة مع خصوم موسكو في شرق أوروبا خاصة بولندا التي كانت أول عضو بالناتو يشتري طائرات بيرقدار.
وعلى المدى الطويل، تظل روسيا منافساً تاريخياً وتهديداً لأمن تركيا. ومن المحتمل أن يطغى تأثير هذه العوامل على المزايا الاقتصادية".
كان يمكن أن تتحول حرب أوكرانيا لأزمة كبيرة لتركيا القريبة من الصراع، والتي يتأثر اقتصادها بارتفاع أسعار الطاقة بشدة لأنها مستورد كبير للنفط والغاز، كما أنها ترتبط اقتصادياً بروسيا وأوكرانيا بشكل كبير سواء عبر التجارة أو السياحة.
ولكن حتى الآن، باستثناء خسارة التعاون في مجال الصناعات العسكرية مع أوكرانيا، بسبب الحرب نجح أردوغان في تحويل المشكلات المحتملة لتركيا من الأزمة إلى مكاسب أو فرص، بل ساهم في تقليل خسائر الطرفين المتحاربين ولو قليلاً، وفي تقليل مأساة فقراء العالم الذين يعتمدون على حبوب البحر الأسود.