التحالف بين أمريكا وإسرائيل استراتيجي يبرره الطرفان بالاشتراك في "قيم الديمقراطية"، فلماذا تمثل حكومة نتنياهو المتطرفة تهديداً مباشراً لمصالح واشنطن في الشرق الأوسط وحول العالم أيضاً؟
مجلة National Interest الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "الحكومة الإسرائيلية تمثل تهديداً لمصالح أمريكا وليس فقط لقيمها"، كتبه يوناتان توفال، وهو محلل إسرائيلي بارز في ميتفيم (المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية)، ألقى الضوء على الأضرار البالغة التي تتسبب فيها الحكومة الإسرائيلية للمصالح الأمريكية.
فمنذ أن عاد بنيامين نتنياهو على رأس حكومة توصف بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، اقتربت الأمور في منطقة الشرق الأوسط من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى التدخل لنزع فتيل التوتر، لكن دون جدوى.
إدارة بايدن تنتقد حكومة نتنياهو
فقبل أن تكمل حكومة "السوابق"، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير، شهرها الأول، أعلنت عن خطط للتوسع في بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكثفت من تهجير الفلسطينيين وهدم منازلهم، وصعد جيش الاحتلال من غاراته على مدن وقرى الضفة الغربية.
فقام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بزيارة إلى المنطقة أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، ووجه رسالة مباشرة إلى الحكومة الإسرائيلية، مفادها معارضة أمريكا لأي "إجراءات استفزازية" بحق الفلسطينيين، لكن رد تل أبيب جاء خلال أيام من مغادرة الوزير الأمريكي، وكان عبارة عن التوسع في بناء المستوطنات.
وكانت صحيفة The New York Times الأمريكية قد نشرت تقريراً يرصد كيف أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظل تصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ووضع الحكومة الإسرائيلية الجديدة الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة منذ نيلها ثقة الكنيست الذي يسيطر عليه اليمين واليمين المتطرف، في ديسمبر/كانون الأول 2022.
لكن التصريحات الأمريكية العلنية التي تنتقد الحكومة الإسرائيلية تركز على الجانب "الأخلاقي" وما تمثله إجراءات تلك الحكومة من خطر يتهدد "العلاقة الخاصة" التي تربط بين تل أبيب وواشنطن. إذ يركز مسؤولو الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض على التهديد الذي تمثله مساعي تحالف نتنياهو للقضاء على استقلال القضاء الإسرائيلي، وكيف أن ذلك "يهدم القيم المشتركة" التي تربط الحليفين معاً.
وقد اتخذت تلك التحذيرات الأمريكية منحى تصاعدياً منذ بدأت حكومة نتنياهو في خططها لإجراء تعديلات راديكالية على عمل القضاة، تهدد في حالة تنفيذها بإلغاء استقلال القضاء، وهو ما قد يثير أزمة دستورية قد تكون فيها نهاية "ديمقراطية إسرائيل"، بحسب ما رصده تحليل مجلة ناشيونال إنترست.
فخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده بلينكن مع نتنياهو، خلال زيارة الأول لإسرائيل، استغل الوزير الأمريكي المناسبة للتعبير عن "انزعاج واشنطن من الخطر الذي تهدده السياسات الإسرائيلية على الديمقراطية"، وذكر بلينكن الزعيم الإسرائيلي بالالتزام المشترك لبلديهما "بالدفاع عن أعمدة الديمقراطية وتعزيزها".
وبعد أسبوعين فقط، كرر الرئيس بايدن الرسالة نفسها، حيث عبر عن أن أهم ما تهدده سياسات الحكومة الإسرائيلية هو "القيم الديمقراطية المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، حيث قال بايدن: "إن عبقرية الديمقراطية الأمريكية ونظيرتها الإسرائيلية تكمن في أنهما قائمتان على مؤسسات قوية وجهات رقابية وقضاء مستقل. وبالتالي فإن بناء توافق على إجراء تغييرات جوهرية هو أمر مهم للغاية لضمان التزام الشعب بتلك التغييرات، ومن ثم استدامتها".
هل إدارة بايدن "ساذجة" أم "عديمة الحيلة"؟
حقيقة الأمر هنا هي أن هذه المواقف الأمريكية تبدو "ساذجة" إلى حد كبير، بحسب التوصيف الذي استخدمه المحلل الإسرائيلي نفسه، لأن الحديث "الأخلاقي" عن الديمقراطية والمخاطر التي تتهددها جراء سعي حكومة نتنياهو إلى إلغاء استقلال القضاء الإسرائيلي يغفل جانباً مهماً ورئيسياً يتعلق بالمصالح الأمريكية نفسها في منطقة الشرق الأوسط وحول العالم أيضاً.
فعلى الرغم من أن هذه المخططات التي تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى تمريرها تمثل بالفعل تهديداً لتلك الديمقراطية المزعومة، إلا أن إجراءات تلك الحكومة القمعية والاستفزازية بحق الفلسطينيين تمثل تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية، ومن ثم فإن التركيز على التهديد المحدق بالديمقراطية الإسرائيلية إما أنه "سذاجة" أو أنه "قلة حيلة" من جانب إدارة بايدن.
فعن أي جانب أخلاقي يتحدث بلينكن وبايدن مع حكومة يصرح وزير بها، وهو وزير المالية بلتسئيل سموترتيش، علناً بضرورة "محو" قرية فلسطينية من الوجود؟ وحتى تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، المنتقدة لما عبر عنه سموتريتش، جاءت "عاطفية وشخصية بحتة"، حيث قال برايس إن تصريحات سموتريتش أصابت المسؤولين الأمريكيين "بالغثيان".
ويمكن القول إن أبرز ما تكشف عنه "التصريحات الغاضبة والمنتقدة" من جانب إدارة بايدن تجاه الحكومة الإسرائيلية هو مدى فشل واشنطن في تقدير مدى الخطر الذي تمثله تلك الحكومة للمصالح الأمريكية، بحسب توفال، المحلل الإسرائيلي.
فالجبهة الفلسطينية هي الجبهة الواضحة التي تتعرض فيها المصالح الأمريكية لتهديد مباشر بسبب سياسات الحكومة الإسرائيلية التوسعية والقمعية، وهو ما استرعى انتباه إدارة بايدن بالفعل فسارعت إلى تكرار زيارات المسؤولين للمنطقة، كما عقدت قمة العقبة الأمنية في الأردن، وذلك بعد أن تدخلت لدى السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس لسحب قرار إدانة الاستيطان الإسرائيلي من مجلس الأمن قبل ساعات من التصويت عليه.
لكن تحركات وتصريحات الإدارة الأمريكية لا تأثير لها على الإطلاق فيما يتعلق بإجراءات الحكومة الإسرائيلية الاستفزازية. إذ استمرت اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين في قرية حوارة بالضفة الغربية المحتلة، وهي القرية نفسها التي نادى الوزير الإسرائيلي علناً "بمحوها".
وأظهرت مقاطع فيديو، مساء الاثنين 7 مارس/آذار، جنوداً إسرائيليين يرقصون مع المستوطنين الذين يعتدون على الفلسطينيين داخل حوارة، وذلك بعد أسبوع من هجوم المستوطنين على القرية ذاتها، وهو الهجوم الذي وصفه قائد عسكري إسرائيلي كبير بأنه "مذبحة"، وتسبب في غضب وتنديد من المجتمع الدولي.
لماذا مصالح أمريكا في خطر حقيقي؟
استمرار الحكومة الإسرائيلية في إجراءاتها القمعية تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يهدد بانفجار الموقف، وهو ما يمثل خطراً داهماً على الاستقرار في المنطقة، وهو ما يمثل تهديداً مباشراً للمصالح الأمريكية، وليس فقط "لقيم الديمقراطية" التي ينشغل بها بايدن ومسؤولوه.
فعلى سبيل المثال، سيؤدي انفجار الموقف في الأراضي الفلسطينية إلى مخاطر انتشار عدم الاستقرار في الأردن، حيث غالبية السكان من أصل فلسطيني ويرتبطون بروابط مباشرة مع الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة وغور الأردن. والأردن حليف استراتيجي مهم للولايات المتحدة، وبالتالي فإن أي عدم استقرار يتهدد المملكة يقوض المصالح الأمريكية بطبيعة الحال.
وإذا كان استقرار الأردن، المجاور مباشرة للفلسطينيين، سيكون الضحية الأولى لسياسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، فإن دولاً أخرى مجاورة، هي أيضاً حليفة استراتيجية لواشنطن، على الأرجح ستتأثر أيضاً.
وعلى الرغم من أن حكومات تلك الدول، مثل مصر والإمارات وغيرهما، تعتبر قوية بما يكفي للتعامل مع أي عواصف قد تنتج عن انفجار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، بمعنى اندلاع احتجاجات منددة بإسرائيل والاحتلال وسياسات القمع تجاه الفلسطينيين، إلا أن تأثير تلك الاحتجاجات سيمثل ضغوطاً على حكومات تلك الدول قد تدفعها إلى اتخاذ مواقف أو اتباع سياسات تضر بالمصالح الأمريكية، بحسب تحليل مجلة ناشيونال إنتريست.
وفيما يتعلق بالأوضاع في دول الجوار، وخاصة الأردن ومصر تحديداً، فإن الأوضاع الاقتصادية الخانقة تضع ضغوطاً كبيرة على حكومات تلك الدول بالفعل للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، وبالتالي فإن أي عوامل إضافية تهدد هذا الاستقرار تمثل تهديداً مباشراً لتلك الدول الحليفة لواشنطن، في وقت تسعى إدارة بايدن إلى إقناع حلفائها بالابتعاد عن روسيا والصين، في إطار صراع القوى الكبرى المستعر حالياً على الساحة الدولية.
النقطة الأخرى هنا تتعلق بصورة الولايات المتحدة على المسرح العالمي، حيث يصر بايدن على أن "أمريكا زعيمة العالم الحر وحامية الديمقراطية"، وبالتالي فإن سياسات الحكومة الإسرائيلية التي لا تقيم وزناً للديمقراطية أو حقوق الإنسان أو احترام القانون الدولي تمثل "إحراجاً" لواشنطن وإضعافاً لموقفها بطبيعة الحال.
وهذه النقطة تحديداً كانت أهم الأسباب التي دفعت إدارة بايدن لمحاولة إقناع السلطة الفلسطينية بسحب مشروع قرار إدانة الاستيطان من مجلس الأمن الدولي قبل التصويت عليه، حتى لا تضطر إدارة بايدن إلى اتخاذ موقف من اثنين: الأول هو استخدام حق الفيتو، والثاني هو الموافقة على تمرير القرار الأممي. ففي الحالة الأولى، كانت إدارة بايدن ستصبح هدفاً للانتقادات الروسية والصينية لأنها تدافع عن دولة (إسرائيل) تنتهك القانون الدولي. أما في الحالة الثانية، فسيجد بايدن نفسه متهماً من جانب اللوبي اليهودي الداعم لإسرائيل بأنه لا يوفر لتل أبيب الحماية التي وفرها سلفه الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب.
الخلاصة هنا هي أن إدارة بايدن تبدو إما "غافلة" أو "متغافلة" عن الخطر الداهم الذي تمثله الحكومة الإسرائيلية على المصالح الأمريكية ذاتها، سواء في الشرق الأوسط أم حول العالم، وتركز واشنطن في المقابل على "الجانب الأخلاقي"، رغم عدم أخلاقية إجراءات وتصرفات حكومة نتنياهو من الأساس.