أعلن إيمانويل ماكرون عن تغيير استراتيجية فرنسا تجاه قارة إفريقيا، وقام بزيارته رقم 18 إلى مستعمرات بلاده السابقة، فهل تؤدي مساعيه الحثيثة إلى إنقاذ ما تبقى من نفوذ بلاده، أم أن تلك الأيام ولّت إلى غير رجعة؟
إذ يقوم الرئيس ماكرون هذا الأسبوع بجولة إفريقية تشمل 4 دول، وكان استبق هذه الزيارة بإعلان عن تخفيض أعداد القوات الفرنسية في القارة السمراء، إضافة إلى ما وصفها بالاستراتيجية الجديدة التي ستتبعها باريس خلال السنوات الأربع المقبلة تجاه مستعمراتها السابقة.
جولة ماكرون الإفريقية هذه المرة أخذته إلى الكونغو الديمقراطية والغابون وأنغولا وجمهورية الكونغو، وهي الزيارة الأولى له إلى تلك الدول، لكنها الزيارة رقم 18 من جانب الرئيس الفرنسي إلى القارة السمراء، التي كانت باريس تتمتع فيها بالنفوذ الأكبر على الإطلاق بين القوى الاستعمارية السابقة.
موقف "محرج" وكاشف خلال زيارة ماكرون للكونغو
سعى الرئيس الفرنسي إلى مشاركة رؤيته التي يصفها بأنها "شراكة متجددة مع إفريقيا" تقف فيها القارة مع فرنسا على قدم المساواة، وبالتالي فإن هدف الزيارة رقم 18 هو الرغبة في تبديد صورة فرنسا كقوة استعمارية سابقة متعجرفة، رغم إقرار ماكرون بسعي بلاده للتمتع بنفوذ في القارة في المستقبل.
لكن محادثات ماكرون، التي أجراها السبت 4 مارس/آذار، مع الرئيس فيليكس تشيسيكيدي في عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية قابلتها عدة احتجاجات على نطاق صغير، في مؤشر واضح على تزايد المشاعر المُعادية لفرنسا في بعض أنحاء القارة الإفريقية.
وشهد المؤتمر الصحفي المشترك بين تشيسيكيدي وماكرون "مشادة كلامية" أثارت تفاعلاً كبيراً على منصات التواصل الاجتماعي؛ حيث انتقد الرئيس الكونغولي مواقف رسمية فرنسية اعتبرها تدخلاً في شؤون بلاده، وجاء رد الرئيس الفرنسي مرتبكاً وغير متماسك بشكل واضح.
الرئيس الكونغولي، فيليكس تشيسيكيدي، تساءل خلال المؤتمر قائلاً: "لماذا تختلف رؤية الأشياء حين يتعلق الأمر بإفريقيا، لماذا لا تتحدثون عن تسوية أمريكية مثلاً حينما تكون هناك مخالفات في الانتخابات الأمريكية، أو تسوية فرنسية حين تحدث مخالفات في الانتخابات الفرنسية، خصوصاً زمن شيراك؟".
حديث الرئيس المضيف كان إشارة لتصريح لوزير الخارجية الفرنسي السابق، جان إيف لودريان، في عام 2019، أشار فيه إلى أن نتائج انتخابات الرئاسة في الكونغو الديمقراطية كانت نتيجة ترتيب مسبق، بين الرئيس المنتهية ولايته جوزيف كابيلا، وفيليكس أنطوان تشيسيكيدي، ولا علاقة لهيئة الانتخابات في البلاد بذلك.
فيما ساد جوّ من التوتر خلال المؤتمر الصحفي؛ حيث مد تشيسيكيدي أصابعه نحو الرئيس الفرنسي قائلاً: "هذا أيضاً يجب أن يتغير في طريقة التعاون بين فرنسا وأوروبا عامة والكونغو الديمقراطية.. انظروا إلينا بطريقة أخرى، باحترام كشريك حقيقي، وليس بنظرة أبوية وإملاءات".
من جانبه، قال ماكرون إن هذه الأمور تحدث فعلاً في فرنسا، لكن الفرق أن الصحافة تتحدث وتندد، مشدداً على أن أي صحفي يطرح سؤالاً فهو يمثل وجهة نظره هو، ولا يعني الحكومة بشيء، وهو ما أثار حفيظة الرئيس الكونغولي، الذي رد بلهجة حادة قائلاً: "ولكني تحدثت عن لودريان الذي كان وزيراً للخارجية".
وانتقد مغردون تبرير ماكرون الأخير؛ حيث قال أحدهم إن الرئيس الفرنسي وضع نفسه في موقف محرج، وظهر أشبه "بدبلوماسي متدرب لا يفقه شيئاً في أصول التعامل".
ماذا أراد ماكرون تحقيقه من زيارته رقم 18 لإفريقيا؟
الاحتجاجات الرمزية التي قوبل بها ماكرون والموقف "المحرج" الذي تعرض له في ذلك المؤتمر الصحفي تمثل مؤشرات على أن زيارة الرئيس الفرنسي رقم 18 للقارة قد تكون فشلت في أن يحقق ما أراده منها.
أما ما أراد ماكرون تحقيقه، فقد أعلنه قبل التوجه إلى القارة، من خلال رؤيته للاستراتيجية الفرنسية الجديدة تجاه مستعمراتها السابقة؛ حيث قال إن بلاده ستقوم تدريجياً بإدارة قواعدها العسكرية في القارة الإفريقية بالاشتراك مع الدول التي تستضيف تلك القواعد، مضيفاً أنه سيتم تقليص وجود الجيش الفرنسي وخفض عدد الجنود: "القواعد كما هي الآن تراث من الماضي".
وأضاف ماكرون، خلال لقاء موسع مع الصحفيين الفرنسيين والأفارقة يوم الإثنين 27 فبراير/ شباط الماضي، إن "هذه القواعد لن تغلق، بل سيعاد تنظيمها"، القواعد أو "الأكاديميات" الجديدة ستبدأ تدريجياً في التحول إلى "إفريقية"، وتُدار بالتعاون مع شركاء أفارقة وأوروبيين.
وفي خطابه حول السياسة الفرنسية الجديدة في إفريقيا، دعا الرئيس الفرنسي إلى التحلّي بـ"التواضع" و"المسؤولية"، رافضاً "المنافسة" الاستراتيجية التي يفرضها من يستقرون هناك مع "جيوشهم ومرتزقتهم"، بحسب تقرير لموقع فرانس برس.
وخلال زيارته، أقر ماكرون بأن فرنسا واحدة من القوى الأجنبية التي تتنافس حالياً على النفوذ في قارة إفريقيا، لكنه قال إنه ملتزم بالعمل مع الدول على قدم المساواة، وأضاف: "نريد أن نكون شركاء على المدى الطويل… إفريقيا مسرح للمنافسة. يجب أن يتم ذلك في إطار عادل… لدينا دور نلعبه، لا أكثر ولا أقل".
كانت فرنسا قد عانت في الآونة الأخيرة من انهيار فوضوي في العلاقات مع بعض مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا، وبالتالي فإن زيارة ماكرون الأولى إلى الكونغو والغابون وأنغولا وجمهورية الكونغو تعكس رغبة الرئيس الفرنسي في طيّ هذه الصفحة.
وهكذا بدا أن ماكرون يتجنب في أغلب الأحوال الحديث عن السياسة خلال زيارته إلى القارة هذه المرة، وأعلن مساعدات إنسانية فرنسية لشرق الكونغو ودعماً لقطاعي الزراعة والغابات.
لكن جولة ماكرون وما أعلنه من مساعدات إنسانية تأتي في أعقاب سلسلة من الجولات لمسؤولين أمريكيين وروس وصينيين رفيعي المستوى إلى القارة الإفريقية سعوا خلالها أيضاً إلى توثيق العلاقات مع دول القارة، وهو ما يشير إلى أن فرنسا قد فقدت نفوذاً هائلاً كانت تتمتع به بشكل منفرد، ويبدو أن ماكرون نفسه بات شاهداً على فقدان ذلك النفوذ.
فبحكم ماضيها الاستعماري وتطور روابطها الخاصة مع إفريقيا، كانت تمتلك فرنسا أوراقاً كثيرة للنفوذ في القارة السمراء، لكن النفوذ الفرنسي يسجل في العقدين الأخيرين مؤشرات تراجع ملحوظ، سواء بالمقارنة مع دول أوروبية أخرى والولايات المتحدة أو مع الصين وروسيا، إضافة إلى قوى أخرى منها تركيا.
إذ تشكل الدول الفرنكفونية (الناطقة جزئياً أو كلياً باللغة الفرنسية) حوالي نصف دول قارة إفريقيا ويقطنها زهاء ثلث سكان القارة، وتعتمد فرنسا على مستعمراتها السابقة كأساس لمنظمة الفرنكفونية (50 % من أعضاء المنظمة الأساسيين)، التي تعد من أهم أدوات السياسة الثقافية الفرنسية وقوتها الناعمة في العالم. ويوجد أعلى معدل استخدام للغة الفرنسية في إفريقيا، مثلاً (61% من السكان) في الغابون البلد الغرب إفريقي الذي استهل به ماكرون جولته الإفريقية الحالية.
لكن نفوذ فرنسا الثقافي وخبرتها التاريخية في إفريقيا بدأ يتقلص؛ إذ تفيد دراسات وإحصاءات بأن استخدام اللغة الفرنسية يشهد تراجعاً في مجالات تقليدية؛ مثل التعليم والإعلام وأوساط الأعمال. ويثير هذا المؤشر قلقاً كبيراً لدى صانعي السياسة الثقافية الفرنسية، لاسيما وأن تراجع استخدام اللغة الفرنسية يبرز لدى الفئات الشابة في الدول الفرنكفونية، وهي الفئات الأكثر حضوراً في وسائل التواصل الحديثة والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، بحسب تحليل لشبكة DW الألمانية.
ماذا تبقى لدى فرنسا من أوراق إفريقية؟
تعتبر فرنسا أول وجهة في العالم لاستقبال المهاجرين الأفارقة؛ إذ تستقبل سنوياً 20% منهم. ويتجاوز عدد الأفارقة في فرنسا عشرة ملايين شخص نصفهم مغاربيون، ويشكلون حوالي 15% من مجموع سكان البلاد، وفق أرقام رسمية فرنسية.
ورغم أن سياسة فرنسا الخارجية تعتمد بشكل واسع على توظيف النخب والكفاءات الإفريقية كجسور مع بلدانهم الأصلية، تلقي التعقيدات المتزايدة التي تواجه المهاجرين الأفارقة على صعيد السياسة الداخلية الفرنسية، ولاسيما في ظل الضغوط المتنامية لليمين المتطرف، بظلال من الاضطراب في علاقة الهجرة الإفريقية بالمجتمع والمؤسسات الفرنسية.
فخلال قمة الدول الفرنكفونية التي احتضنتها جزيرة جربة التونسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، اعترف ماكرون بأن مكانة لغة موليير تتعرض "لانتكاسات"، على جبهات عديدة خصوصاً في المنطقة المغاربية، مشيراً بالخصوص إلى فئات الشباب، ووصفها بـ "مقاومة شبه سياسية" للنفوذ الثقافي الفرنسي، وهو منحى يسجل وبدرجات أكثر حدة أحياناً لدى نخب ثقافية وسياسية في عدد من بلدان جنوب الصحراء وغرب إفريقيا، مثل مالي وبوركينافاسو والسنغال.
أما اقتصادياً، فقد كانت فرنسا تتمتع بحضور اقتصادي وتجاري قوي في القارة السمراء؛ حيث تنشط أكثر من 1100 مجموعة استثمارية فرنسية عملاقة وحوالي 2100 شركة كبيرة، وكانت فرنسا هي ثالث مستثمر في القارة بعد بريطانيا والولايات المتحدة.
لكن تراجعت مكانة فرنسا بشكل لافت بسبب دخول شركاء غير غربيين على الخط؛ إذ باتت الصين أكبر شريك اقتصادي للدول الإفريقية، كما أصبحت تركيا شريكاً منافساً في أسواق كانت تتمتع فيها فرنسا بنفوذ تقليدي؛ مثل الجزائر وليبيا والسنغال.
ولا تقتصر معضلة فرنسا في فقدان مكانتها في المنطقة المغاربية، كشريك أول للمغرب لصالح إسبانيا، ولصالح الصين في الجزائر، بل مثلاً في تحول حليفها التقليدي المغرب إلى منافس لها في منطقة غرب إفريقيا.
وهناك مؤشر آخر يهدد الحضور الاقتصادي الفرنسي يتمثل في تنامي نزعات التمرد على النفوذ الفرنسي داخل تكتلي "المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا" و"المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا" واللتين تستخدمان "الفرنك الإفريقي" كعملة مرتبطة بالسوق المالية الفرنسية، بناء على اتفاقيات مالية أُبرمت سنة 1945 إبان الحقبة الاستعمارية.
ويقدر خبراء اقتصاديون بأن دول هذه المجموعة تدفع نسبة تفوق 50% من احتياطاتها من العملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية، لكن باعتمادها على عملتها الخاصة "الإيكو" سيتجسد فك الارتباط المالي بين "المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا" وفرنسا بحلول سنة 2027.
الخلاصة هنا هي أن ماكرون يواجه تحدياً غير مسبوق يتمثل في رغبته في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذ فرنسا التقليدي في مستعمراتها السابقة في إفريقيا، في ظل منافسة شرسة من قوى عالمية أخرى ونفور واضح من جانب الأفارقة من نفوذ باريس، فهل أصبح ماكرون شاهداً على تلاشي نفوذ بلاده في القارة السمراء؟