بعد الضجة التي أثارها روبوت الدردشة ChatGPT من ميكروسوفت، أعلنت الصين عن نسختها الخاصة من تطبيق مشابه يعتمد أيضاً على الذكاء الاصطناعي، فماذا يعني هذا التنافس بين واشنطن وبكين للسباق التكنولوجي؟
كان "شات جي بي تي" أو روبوت الدردشة القائم على الذكاء الاصطناعي، الذي تصنعه شركة "أوبن إيه آي"، في كاليفورنيا، قد أثار عاصفة من الجدل هذا العام، وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 100 مليون شخص حول العالم استخدموه في شهرين منذ إطلاقه.
وقامت شركة مايكروسوفت باستثمار متعدد السنوات بمليارات الدولارات في أوبن إيه آي Open AI لدمج تقنية الشركة في محرك البحث الخاص بها، "بينغ" (مع بعض الآثار المخيفة في البداية). وتعمل شركة جوجل على تطوير روبوت الدردشة الخاص بها المسمى "بارد".
الصين تنضم لسباق روبوتات الدردشة
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تقريراً يرصد ما تعنيه لحظة شات "جي بي تي" للسباق التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، حيث دفعت الضجة حول شات جي بي تي والبدائل المماثلة إلى اندفاع في قطاع التكنولوجيا في الصين للانضمام إلى السباق.
وقالت شركة بايدو، محرك البحث الرائد في الصين، إنها تخطط لطرح "إيرني بوت" في مارس/آذار، بينما أعلنت شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة الأخرى، مثل علي بابا وجيه دي دوت كوم، عن برامج الدردشة الخاصة بها.
كانت الصين قد أمضت سنوات في تطوير قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وحددت طموحاتها في خطة عام 2017 التي سعت إلى جعل البلاد "مركزاً عالمياً للابتكار" في هذا المجال بحلول عام 2030. وقد ولدت هذه الأهداف منافسة ولكن أيضاً تعاوناً بين العلماء والشركات الأمريكية والصينية، بما في ذلك من خلال المعامل التي أنشأتها شركات مثل بايدو وتانسينت وعلي بابا في وادي السيليكون.
ولكن نظراً لأن العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم أصبحت خصومة بشكل متزايد -لا سيما على صعيد التكنولوجيا- فقد تتقلص مساحة العمل معاً على تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي بسرعة.
فقد كانت القيود التي فرضتها إدارة بايدن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي على تصدير رقائق أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، والتي استهدفت جزئياً الحد من قدرات الذكاء الاصطناعي في الصين، بمثابة هجوم كبير في العلاقة التي أصبحت أكثر حدة.
وبات الصراع الجيوسياسي بين أمريكا والصين مفتوحاً على مصراعيه، فبعد أن سعت إدارة جو بايدن إلى الإضرار بالنمو الصيني من خلال "حظر" أشباه الموصلات المتقدمة، رصدت بكين تريليون يوان (143 مليار دولار) للرد بعنف على الخطوة الأمريكية الأخيرة.
والصين وأمريكا هما الآن القوتان الأعظم على المسرح الدولي، والحرب الباردة بينهما أصبحت حاضرة وليست مجرد توقعات، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.
وفي هذا السياق، كانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تحليلاً عنوانه "كيف يمكن منع وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين؟"، رصد كيف أن اندلاع حرب بين القوتين، بسبب أزمة تايوان بالأساس، قد أصبح احتمالاً حقيقياً، مما يشير إلى أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يمكن وصفه بسنوات الخطر.
لحظة "سبوتنيك" للذكاء الاصطناعي
حُدِّدَ هدف 2030 بعد شهور مما يمكن وصفه بـ"لحظة سبوتنيك" للذكاء الاصطناعي في بكين، عندما تغلب برنامج الذكاء الاصطناعي من جوجل على خبير صيني في لعبة اللوحة القديمة وي تشي. وقال سام هويل، الذي يبحث في التكنولوجيا والأمن القومي في مركز الأمن الأمريكي الجديد، لمجلة فورين بوليسي: "لقد أدى ذلك حقاً إلى ثورة في الذكاء الاصطناعي في الصين".
قال غراهام ويبستر، الباحث ورئيس تحرير مشروع DigiChina في مركز السياسة الإلكترونية بجامعة ستانفورد، إن تعريف لحظة روبوت المحادثة بمصطلحات قومية بشكل مفرط قد يكون مضللاً.
إذ يُعَد روبوت الدردشة شات جي بي تي بعيداً كل البعد عن نوع التكنولوجيا التي طُوِّرَت تقليدياً في مختبرات الحكومة الأمريكية. قال ويبستر: "لا أعتقد أنه ينبغي النظر إلى شات جي بي تي على أنه فوز للولايات المتحدة في نوع من السباق. إن شركة أوبن إيه آي هي مجرد شركة، وهي ليست الولايات المتحد.. لديها طموحاتها وقيمها الخاصة التي قد تتوافق أحياناً مع معظم الأمريكيين وقد لا تتوافق في بعض الأحيان، وهي ببساطة لا توجهها المصلحة الوطنية".
لكن الاتجاهات الوطنية لا تزال تلعب دوراً كبيراً، حيث سيكون لنظراء أوبن إيه آي الصينيين حسابات مختلفة بسبب اللوائح التقنية التي تفرضها بكين في كثير من الأحيان، وجهازها الرقابي الواسع، وسيطرتها الحكومية الأوسع على القطاع الخاص. قال ويبستر إنه سيتعين على الذكاء الاصطناعي التوليدي في الصين الالتزام بقواعد بكين بشأن كيفية تأثير المنتج على الأمن القومي.
وأضاف ويبستر: "لذلك، هناك مسؤولية تلقائية، بشكل أساسي، لإجراء ما يمكنك اعتباره الإشراف على المحتوى أو الرقابة -إنه بصراحة كلاهما".
هناك أيضاً اختلاف كبير في كيفية تعامل الصين مع تنظيم الذكاء الاصطناعي، وفقاً لبول تريولو، نائب الرئيس الأول لشؤون الصين وقائد سياسة التكنولوجيا في مجموعة أولبرايت ستونبريدج، مضيفاً أن الولايات المتحدة تميل إلى التعامل مع الذكاء الاصطناعي كعنصر إضافي في القطاعات المنظمة بالفعل. قال تريولو: "ينظر المسؤولون الصينيون إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره تقنية مهمة تتطلب إطاراً تنظيمياً، للتحكم في الجوانب السلبية لنشر خوارزمية الذكاء الاصطناعي وأيضاً لتزويد شركات التكنولوجيا بإحساس واضح بالمكان الذي ستُرسَم فيه الخطوط التنظيمية لتشجيع الابتكار في القطاع".
لم يُتَح شات جي بي تي في الصين، وبحسب ما ورد فرضت بكين قيوداً على شركات التكنولوجيا الصينية من استخدام أو تقديم خدماتها للجمهور. قالت أنجلي دات، التي تبحث في الرقابة الصينية في مجموعة PEN America، إن الحكومة الصينية تحاول تبرير القيود على شات جي بي تي والرقابة الأوسع في الصين من خلال تصويرها كجزء من التنافس الأوسع بين الولايات المتحدة والصين.
قالت دات: "في حين أن الحقيقة المطلقة هي أن المعلومات غير الخاضعة للرقابة والحرة خارج جدار الحماية تتعارض مع دعاية الحزب الشيوعي الصيني والمعلومات المضللة" حول عدد من القضايا الحساسة، مثل حقوق الإنسان في شينجيانغ.
هل تتفوق الصين في روبوتات الدردشة؟
وقال مسؤول في السفارة الصينية في واشنطن إن بكين تركز على إبقاء الذكاء الاصطناعي مفيداً وآمناً.
وكتب المسؤول عبر البريد الإلكتروني للمجلة الأمريكية: "تلتزم الصين ببناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية في مجال الذكاء الاصطناعي والجهود المبذولة للدفاع عن نهج يركز على الناس ومبدأ الذكاء الاصطناعي من أجل الخير، وضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي آمناً وموثوقاً ويمكن التحكم فيه وقادراً على تحسين تمكين التنمية المستدامة العالمية وتعزيز الرفاه المشترك للبشرية جمعاء".
ومن المفارقات أن روبوت الدردشة إيرني الخاص بشركة بايدو قد دُرِّبَ على معلومات باللغة الإنجليزية من ويكيبيديا وريديت، وكلاهما محظور في الصين.
فقد كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بدأت في التوتر خلال أغلب فترات حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي شن حرباً تجارية شرسة ضد بكين، لكن ذلك لم يمنع التنين من أن يصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، بينما يعاني الاقتصاد الأمريكي بشدة من التضخم، بفعل تداعيات جائحة كورونا، ثم حرب روسيا في أوكرانيا، وهو ما يحدّ من قدرة واشنطن على استخدام المساعدات الاقتصادية كورقة ضغط كما كان الحال سابقاً، عكس بكين.
ومع تولّي جو بايدن المسؤولية، وحديثه المتكرر بأن "أمريكا عادت لقيادة العالم"، أصبحت "المنافسة" علنيةً بين بكين وواشنطن، وأصبحت الحرب الباردة بينهما أمراً واقعاً، ليعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الوقت قد حان لنظام عالمي جديد، ليحل محل النظام القديم أحادي القطبية، أو بمعنى آخَر النظام الذي تقوده أمريكا وتهيمن عليه.
سعى ترامب إلى أن يُلحق بالصين جروحاً غائرةً من خلال حربه التجارية، لكن تلك الحرب لم تكن فعالة، وبعد نحو عامين من دخوله البيت الأبيض بدا أن جو بايدن قد وجد السلاح الذي قد يكون فتاكاً ويعيق بكين بالفعل، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، عنوانه "بايدن يعزل الصين عن الرقائق الإلكترونية".
وتسعى واشنطن بشتى الطرق الآن إلى تحقيق هدفها الرئيسي وهو عرقلة الصين، التي تسير في مسار ثابت نحو إزاحة أمريكا عن مركز القيادة العالمي. وأخيراً وجدت إدارة بايدن سلاحاً أكثر حدة، ويمكنه أن يعيق طموحات الصين التكنولوجية لما يصل إلى عقد من الزمان. ويتمثل الهدف في رقائق أشباه الموصلات، خاصةً الصنف المتطور المستخدم في الحواسيب الفائقة والذكاء الاصطناعي.
ولا تحظر ضوابط التصدير الجديدة التي أعلنتها إدارة بايدن في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بيع هذه الرقائق إلى الصين فحسب، بل تحظر أيضاً بيع المعدات المتطورة اللازمة لصنعها، وكذلك المعرفة من أي مواطن أمريكي أو مقيم أو حاملي البطاقة الخضراء.
وتدعم رقائق أشباه الموصلات، التي لها عرض بسكويت الرقاقة وحجم الظفر، كل شيء من هواتفنا الذكية إلى أنظمة الأسلحة المتقدمة التي خصّتها الولايات المتحدة بالذكر في ملفها للإعلان عن قيود التصدير.
والأهم من ذلك أنه لا غنى عنها لتقنيات المستقبل؛ مثل الذكاء الاصطناعي والسيارات ذاتية القيادة، إضافة إلى كل صناعة تقريباً من الأدوية إلى الدفاع، وهذه هي أكثر نقطة تستطيع القيود الأمريكية أن تؤذي من خلالها الصين.
اعتادت الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا في الصين على تجاوز القيود من أعلى إلى أسفل. قال ويبستر: "تتمتع كل هذه الشركات بخبرة كبيرة في التعامل مع متطلبات التنظيم والرقابة الحكومية على منتجاتها الأخرى. لذا فهو بالتأكيد حاجز إضافي، لكنه مألوف لهم".
وسوف تستخدم بكين على الأرجح الذكاء الاصطناعي لتوليد دعايتها الخاصة، وربما يكون الأكثر تأثيراً من من رقابة بكين فيما يتعلق بقدرة الصين على تطوير نظامها للذكاء الاصطناعي، هو ضوابط التصدير الأمريكية في العام الماضي والتي تقطع جميعها تقريباً بيع رقائق أشباه الموصلات الأكثر تقدماً للشركات الصينية. قال تريولو إن هذه الرقائق ضرورية لتطوير نماذج متقدمة للذكاء الاصطناعي، وقد تكون قيود التصدير "أكبر تأثير منفرد للتنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين على تطوير الذكاء الاصطناعي في الصين".