الانتصار في الحرب العالمية الثانية وضع حجر الأساس لأوهام السيطرة الأمريكية على النظام العالمي، لكن حرب فيتنام ألقت الشك في النفوس، ثم جاء الانتصار في الحرب الباردة ليعيد الثقة، فمتى تتخلص واشنطن من أحلام الانفراد بالهيمنة على العالم؟
فمنذ أن تولى الرئيس جو بايدن المسؤولية يوم 20 يناير/كانون الثاني 2021، أصبح شعار سياسته الخارجية هو "عودة أمريكا لقيادة العالم"، إذ كان قد وعد قبل حتى أن يتولى المسؤولية رسمياً، بالدعوة إلى عقد "مؤتمر دولي للديمقراطية" بغرض "تجديد روح وأهداف العالم الحر"، فيما اعتبره كثير من المراقبين رغبة واضحة من واشنطن في إعادة أجواء الحرب الباردة.
ومع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي تراه موسكو "عملية خاصة" بينما يراه الغرب "غزواً عدوانياً غير مبرر"، استغل بايدن الحرب الأكبر في أوروبا لتقسيم العالم إلى معسكرين، أحدهما غربي بقيادة واشنطن والآخر يضم روسيا والصين، فارضاً على باقي دول العالم "الانحياز" إلى أي من المعسكرين أو التعرض للعقوبات والضغوط الأمريكية.
القوة العسكرية تحكم رؤية أمريكا للعالم
مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تحليلاً، عنوانه "الحساب الذي لم يحدث.. لماذا تظل أمريكا حبيسة فخ أحلام الهيمنة الكاذبة؟"، ألقى الضوء على خلفيات الأحلام الأمريكية باستمرار الهيمنة على النظام العالمي، على الرغم من التغييرات الكبيرة التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.
رصد تحليل "فورين أفيرز" تطورات أحلام الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، بداية من نهاية الحرب العالمية الثانية والتي جسدها الأمريكيون في فيلم وثائقي عنوانه "الانتصار عبر البحار"، والذي ركز على كيف أن القوة العسكرية الأمريكية كانت السبب الحاسم في انتصار الحلفاء بزعامة الولايات المتحدة على ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية.
لم تتمكن الولايات المتحدة من حسم تلك الحرب العالمية إلا بعد إسقاط قنبلتين ذريتين على مدينتي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين، مما أجبر اليابان على إعلان الاستسلام لتنتهي الحرب، ومعها تبدأ مرحلة الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، ويبدأ زعماء واشنطن في التركيز على أهمية القوة العسكرية في ضمان استمرارية تلك الهيمنة.
وفي تصوير الأمريكيين لذلك التفوق من خلال فيلم "الانتصار عبر البحار"، تم التركيز على أهمية ضمان التفوق العسكري، وكانت رسالة الجزء الأخير من تلك السلسلة الوثائقية بعنوان "تصميم نظام من أجل السلام"، لكن حقيقة الأمر هي أن هذا التصميم من أجل السلام لم يكن أكثر من مجرد "رسالة تحذير" مباشرة، مفادها أن "قنبلة واحدة أسقطتها طائرة واحدة أفنت 78 ألف شخص" بحسب صوت الراوي الأمريكي في الفيلم، والذي صاحبته مشاهد الدمار الهائل في هيروشيما، واختتمت السلسلة الوثائقية بعبارة "قنبلتان تسببتا في إنهاء الحرب العالمية الثانية".
وفي هذا السياق، كانت نهاية الحرب العالمية الثانية إيذاناً ببداية مرحلة جديدة من السعي الأمريكي لوراثة الامبراطوريات الأوروبية، خاصةً بريطانيا وفرنسا، وتدشين عصر جديد من العلاقات الدولية يقوم بالأساس على فرض الإرادة الأمريكية على العالم، انطلاقاً من التفوق العسكري الكاسح، الذي كان عنوانه الرئيسي "التفوق النووي".
لكن سرعان ما أصبح حلفاء الحرب العالمية الثانية خصوماً في معركة السيطرة على العالم، حيث بدأت مرحلة الحرب الباردة بين معسكرين: الأول غربي تقوده واشنطن ويرفع شعارات الديمقراطية والرأسمالية، والآخر شرقي يقوده الاتحاد السوفييتي ويرفع شعار الاشتراكية وسيطرة الدولة على أدوات الإنتاج. وهكذا بدأت أحلام السيطرة الأمريكية المطلقة في الاهتزاز، خصوصاً مع اندلاع حرب فيتنام، التي تحولت إلى مستنقع ممتد تسبب في حدوث انقسامات عميقة داخل المجتمع الأمريكي ذاته.
حرب فيتنام ومرحلة الشك الأمريكي
حقيقة الأمر فيما يتعلق بالانتصار الصعب والمكلف للغاية في الحرب العالمية الثانية لم يكن يجب أن يمثل توثيقاً للهيمنة الأمريكية ولا حتى مؤشراً على الأهمية القصوى للقوة العسكرية، بحسب ما خلص إليه تحليل "فورين أفيرز"، بل ثبت لاحقاً أن ذلك "الانتصار عبر البحار" كان أحد أهم مصادر الأوهام الأمريكية بالسيطرة والهيمنة على العالم.
ثم جاءت حرب فيتنام خلال ستينات القرن الماضي وما نتج عنها من خسائر بشرية هائلة في صفوف الأمريكيين والفيتناميين وفشل الآلة العسكرية الأمريكية في تحقيق الانتصار على جيش أضعف وأصغر كثيراً، رغم وجود الدعم السوفييتي بطبيعة الحال، لتصيب أوهام السيطرة الأمريكية بشكوك عميقة، كان يفترض أن تؤدي إلى تغييرات جذرية في السياسة الخارجية لواشنطن ومراجعة الاستراتيجية المعتمدة فقط على القوة العسكرية.
لكن انتهاء الحرب الباردة بتفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي خلال ثمانينيات القرن الماضي نسف تلك الشكوك مرة أخرى، وعادت أحلام السيطرة الأمريكية المطلقة إلى الواجهة مرة أخرى، لتضع واشنطن أسس نظام عالمي أحادي القطبية تنفرد فيه بوضع القواعد وفرض الشروط، مسلحة بالقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية والتحكم شبه المطلق في المؤسسات الدولية.
وهكذا تمسكت الخارجية الأمريكية أكثر وأكثر بأسطورة، مفادها أن ما يحتاجه العالم فعلاً هو مزيد من القوة العسكرية الأمريكية.
لكن خلال عقد واحد تقريباً من انفراد واشنطن بالهيمنة على النظام العالمي، تعرضت تلك النظرية الأمريكية لتحديات كبيرة كان من المفترض أن تؤدي إلى مرحلة من إعادة الحسابات، على غرار ما يحدث عادة مع الإمبراطوريات التي تعتمد على قوتها العسكرية، وهو ما لم يحدث حتى اليوم.
فعلى سبيل المثال، عندما شنت المملكة المتحدة وفرنسا هجوماً على مصر عام 1956 بهدف تأكيد السيطرة على قناة السويس المصرية وفشلت تلك الحرب في تحقيق أهدافها، ومنها التخلص من حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، اعتبرت تلك الحرب بمثابة "جرس إنذار" لبريطانيا، التي اضطرت إلى مراجعة سياساتها الخارجية بشكل جذري.
اضطرت تلك الخيبة الكبرى رئيس وزراء بريطانيا وقتها، أنطوني إيدن، إلى الاستقالة من منصبه، ووصف رئيس حزب العمال، هيو غيتسكيل، عملية السويس بأنها "فعل طائش وكارثي تسبب في ضرر يستحيل إصلاحه لسمعة وصورة بريطانيا حول العالم"، وهو التقييم الذي حظي بالإجماع تقريباً. وهكذا أُجبرت بريطانيا على الاعتراف بأن مشروعها الإمبريالي قد انتهى وأن سياسة فرض القوة على الشعوب الأضعف قد انتهت إلى غير رجعة.
لكن الأمر نفسه لم يحدث مع الولايات المتحدة، رغم حروبها الفاشلة في العراق وأفغانستان وباقي فصول "الحرب على الإرهاب"، وجميعها كانت مغامرات عسكرية لم تحقق شيئاً من أهدافها لا عسكرياً ولا سياسياً ولا حتى اقتصادياً في كثير من الأحيان، حيث لم تتوقف واشنطن عند مراجعة سياساتها الخارجية على ما يبدو.
لماذا أحلام هيمنة أمريكا غير واقعية في عالم متغير؟
كان يفترض بالعقدين الماضيين أن يمثلا "فشل السويس" بالنسبة للولايات المتحدة، لكن ما حدث هو أن صناع السياسة الخارجية في واشنطن رفضوا إجراء عمليات المراجعة الواجبة وظلوا متمسكين بالأسطورة نفسها القائمة على فكرة أن العالم يحتاج لمزيد من قوة أمريكا العسكرية كي يكون أفضل.
فالفشل الذريع في غزو العراق أتى بنتائج عكسية جعلت صناع السياسة الأمريكية يندفعون أكثر فيما وصفوها بأنها "حرب الخير" في أفغانستان، وهي الحرب التي استمرت 20 عاماً وتسببت في خسائر هائلة بشرية ومادية، في أفغانستان ولأمريكا أيضاً، وفي النهاية أجبرت واشنطن على انسحاب مهين في أغسطس/آب 2021.
وعلى الرغم من أن هذه الأحداث المتلاحقة، من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الباردة وما تخللها من حرب فيتنام ثم غزو العراق وأفغانستان، كان يفترض بها أن تؤدي إلى انتهاء أوهام السيطرة والهيمنة الأمريكية على العالم بشكل كامل واتباع سياسة خارجية أكثر اتزاناً وأقل تدخلاً في شؤون الدول الأخرى، فإن الواضح أن شيئاً من هذا لم يحدث حتى الآن.
وعلى الرغم من أن فترة رئاسة دونالد ترامب (2017-2021) قد شهدت تغييراً واضحاً في نهج السياسة الخارجية الأمريكية، تراجع خلاله نسبياً التدخل الأمريكي في شؤون العالم بعد أن انتهج الرئيس السابق سياسة انعزالية عنوانها "أمريكا أولاً"، فإن الرئيس نفسه شن حرباً تجارية ضد الصين لتبدأ مرحلة جديدة من صراع القوى الكبرى، وهو مؤشر واضح على استمرار النهج الأمريكي نفسه الساعي إلى الهيمنة على العالم.
ومع مجيء بايدن تلاشت الشكوك تماماً وعادت الرغبة الأمريكية الواضحة في "قيادة العالم" إلى الواجهة، رغم التغييرات الكبرى التي طرأت على المشهد العالمي والتي تجعل من تلك الرغبة الأمريكية أحلاماً أو بالأحرى أوهاماً من الصعب للغاية أن تتحقق على أرض الواقع.
وربما تكون الحرب في أوكرانيا، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو عدواني غير مبرر"، فرصة سانحة لإدارة الرئيس جو بايدن كي "تراجع حساباتها فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وأدواتها" كما فعلت بريطانيا في أعقاب "حرب السويس الفاشلة"، ودون حتى أن تتعرض واشنطن للهزيمة.
ويرى كثير من المراقبين الغربيين أن موقف واشنطن حتى الآن من حرب أوكرانيا يعتبر براغماتياً إلى حد ما، حيث تم تفادي "استفزاز" موسكو لدرجة تحوُّل المواجهة الجيوسياسية إلى مواجهة عسكرية مباشرة، إلا أن حديث بايدن وكبار مسؤولي إدارته بشأن تلك الحرب يثير القلق، لأنه حديث يرفع شعارات "أخلاقية فوقية تنبع من إحساس التفوق الأمريكي العسكري"، بحسب تحليل "فورين أفيرز".
إذ إن خطورة هذه التصريحات الصادرة عن واشنطن تتمثل في أن إصرار بايدن على أن حرب أوكرانيا هي مواجهة "الخير ضد الشر" أو هي "معركة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان"، يجعل من شبه المستحيل عليه أن يتراجع أو أن يقبل بأقل من انتصار عسكري أوكراني على روسيا، وهو أمر يدرك بايدن ومسؤولوه أنه مستحيل من الناحية العملية.
الخلاصة هنا هي أنه ما لم تتخلص واشنطن من أحلام الهيمنة على العالم قبل فوات الأوان فقد تجد نفسها تستيقظ على واقع جديد تفقد فيه ربما قدرتها على المشاركة الفعالة في تشكيل النظام الجديد، الذي يبدو أن العالم المتغير بشدة حالياً في طريقه إلى الاستقرار عليه في وقت ما.