بعد تراجع نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة بصورة لا تقبل الجدل، يتوجه إيمانويل ماكرون إلى قارة إفريقيا، معلناً "توجهاً جديداً"، فما الذي يسعى الرئيس الفرنسي لتحقيقه هذه المرة؟ وما فرص نجاحه؟
يقوم الرئيس ماكرون هذا الأسبوع بجولة إفريقية تشمل 4 دول، واستبق هذه الزيارة بإعلان عن تخفيض أعداد القوات الفرنسية في القارة السمراء، إضافة إلى ما وصفها بالاستراتيجية الجديدة التي ستتبعها باريس خلال السنوات الأربع المقبلة تجاه مستعمراتها السابقة.
كيف يرى ماكرون قواعد فرنسا في إفريقيا؟
قال الرئيس الفرنسي إن بلاده ستقوم تدريجياً بإدارة قواعدها العسكرية في القارة الإفريقية بالاشتراك مع الدول التي تستضيف تلك القواعد، وأضاف ماكرون خلال كلمة قبل جولة تشمل أربع دول إفريقية هذا الأسبوع أنه سيتم تقليص وجود الجيش الفرنسي وخفض عدد الجنود.
وأضاف للصحفيين في قصر الإليزيه في باريس، الإثنين 27 فبراير/شباط، قبل يومين من توجهه إلى الغابون، وهي أول دولة في جولة سيزور خلالها أيضاً دولاً لم تكن مستعمرات فرنسية من بينها أنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، "القواعد كما هي الآن تراث من الماضي".
"هذه القواعد لن تغلق، بل سيعاد تنظيمها"، وأضاف أن القواعد أو "الأكاديميات" الجديدة ستبدأ تدريجياً في التحول إلى "إفريقية"، وتُدار بالتعاون مع شركاء أفارقة وأوروبيين.
وأضاف ماكرون أنه "فخور" بالسجل العسكري الفرنسي في مالي، ولن يسمح بأن تصبح فرنسا كبش فداء لتدهور الوضع الأمني في منطقة الساحل، مؤكداً أن "دور فرنسا ليس إصلاح كل المشاكل في إفريقيا".
وفي خطابه حول السياسة الفرنسية الجديدة في إفريقيا، دعا الرئيس الفرنسي إلى التحلي بـ"التواضع" و"المسؤولية"، رافضاً "المنافسة" الاستراتيجية التي يفرضها من يستقرون هناك مع "جيوشهم ومرتزقتهم"، بحسب تقرير لموقع فرانس برس.
تصريحات ماكرون تُناقض ما كان يصرّح به خلال السنوات الست الماضية، حيث كان يصف قواعد بلاده في الدول الإفريقية بأنها أهم عنصر من عناصر الاستقرار في تلك الدول، والإشارة هنا إلى روسيا بطبيعة الحال.
وقال ماكرون إنه رفض الانجرار إلى منافسة عفى عليها الزمن بين قوى عدوانية ويشعر بأنه "لا حنين للفرانكفريقية"، التي تمثل العلاقات الغامضة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة التي شهدت في بعض الأحيان دعم باريس لأنظمة استبدادية.
وأردف ماكرون قائلاً "ولكني لا أريد أن أترك فراغاً بعد ذلك"، وحث الشركات الفرنسية على تقديم عطاءات للحصول على عقود هناك، وأن تكون أكثر احتراماً للدول الإفريقية من خلال إرسال كبار المسؤولين التنفيذيين للتفاوض معهم وليس مديرين يشغلون مناصب أدنى.
وأكد الرئيس الفرنسي على ضرورة بناء علاقة جديدة ومتوازنة قائلاً: "يجب أن نبني علاقة جديدة متوازنة ومتبادلة ومسؤولة مع دول القارة الإفريقية"، كما أعلن "قانوناً إطارياً" من أجل "تنفيذ عمليات إعادة جديدة" لأعمال فنية "للدول الإفريقية التي تطلب ذلك".
أما على الصعيد العسكري، فأوضح ماكرون أن "التحول سيبدأ في الأشهر المقبلة، عبر خفض ملموس لعددنا، وحضور أكبر في القواعد (العسكرية) لشركائنا الأفارقة"، واعداً بأن "تبذل فرنسا مزيداً من الجهد على صعيد التدريب والتجهيز".
ماذا حدث للنفوذ الفرنسي في إفريقيا؟
تصريحات ماكرون تأتي في وقت وصلت فيه المشاعر المعادية لفرنسا إلى مستويات غير مسبوقة، ونتج عنها مواجهة باريس سلسلة من الانتكاسات في دائرة نفوذها السابقة، حيث تأتي جولة الرئيس الفرنسي بعد ما يزيد قليلاً عن أسبوع من قيام بوركينافاسو بإنهاء اتفاق عسكري، سمح لفرنسا بقتال المسلحين في الدولة الواقعة في غرب إفريقيا، لتصبح أحدث دولة إفريقية ترفض مساعدة فرنسا.
وكانت فرنسا قد سحبت قواتها من مالي خلال العام الماضي، بعد أن بدأ المجلس العسكري هناك العمل مع متعاقدين عسكريين روس. كما انتشرت مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة في جمهورية إفريقيا الوسطى، ما أثار مخاوف في باريس من استعانة دول أخرى بهذه المجموعة، التي باتت تمثل رمزاً لانتشار النفوذ الروسي في القارة السمراء.
ويرى ماكرون أن الدول الإفريقية ستتوقف في النهاية عن اللجوء إلى مجموعة فاغنر، لأنها ستعرف أنها لا تنشر سوى الشقاء فقط، وقال "إنها مجموعة من المرتزقة المجرمين، والتأمين على حياة أنظمة فاشلة وانقلابيين". كما اتهم ماكرون روسيا بتغذية دعاية مناهضة لباريس في إفريقيا لخدمة طموحات "عدوانية".
وتنشر فرنسا حالياً نحو ثلاثة آلاف عسكري في المنطقة، خصوصاً في النيجر وتشاد، بينما كان عددهم 5500 عنصر قبل فترة قصيرة، لكنها تريد إعادة نشر جنودها، متوجهة نحو دول خليج غينيا التي انتشرت فيها موجة تمرد مسلح.
ففي تلك المنطقة وفي مجمل القارة، يلقى نفوذ فرنسا والدول الغربية منافسة كبيرة من الصين وروسيا. إذ إن ثلاث دول من الأربع التي سيزورها الرئيس الفرنسي وهي الغابون والكونغو وأنغولا امتنعت، الخميس الماضي، عن التصويت على مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.
وقال الرئيس الفرنسي أيضاً إن إفريقيا ليست "منطقة نفوذ"، ويجب أن ننتقل من "منطق" المساعدة إلى منطق الاستثمار.
لكن ما قدمه ماكرون في خطابه لم يكن سوى صدى لخطاب كان الرئيس الفرنسي نفسه قد ألقاه في واغادوغو في 2017، حين أكد عزمه على طي صفحة سياسة باريس الإفريقية، في مرحلة ما بعد الاستعمار التي شهدت تواطؤاً سياسياً وعلاقات متوترة، ومد اليد للشباب الإفريقي، الذي يعتمد موقفاً مشككاً جداً حيال فرنسا.
وكان الرئيس الفرنسي قدم نفسه حينها على أنه قائد جيل جديد، مندداً أمام 800 طالب بـ"الجرائم الأكيدة" للاستعمار، داعياً إلى "علاقة جديدة" مع إفريقيا، وهو ميثاق ينوي توسيعه ليشمل أوروبا.
كما قام ماكرون، في يوليو/تموز، بجولة شملت الكاميرون وبنين وغينيا بيساو. وينوي مواصلة زياراته للقارة الإفريقية "كل ستة أشهر تقريباً لا بل أقل".
ما فرص نجاح ماكرون في استعادة النفوذ المفقود؟
أكد الرئيس الفرنسي في خطابه أيضاً أنه سيواصل "المضي قدماً" لتعزيز علاقة فرنسا بكل من الجزائر والمغرب، بعيداً عن "الجدل" الراهن، وقال "سنمضي قدماً. المرحلة ليست الأفضل، لكن هذا الأمر لن يوقفني"، منتقداً من "يحاولون المضي في مغامراتهم"، ولديهم "مصلحة بألاّ يتم التوصل" إلى مصالحة مع الجزائر.
وأضاف: "هناك دائماً أشخاص يحاولون أن يستغلوا الظروف، مثل فضائح التنصت في البرلمان الأوروبي التي كشفتها الصحافة". ويشير ماكرون هنا إلى التوصية التي أقرت بغالبية كبيرة، نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، حين حض البرلمان الأوروبي السلطات المغربية على "احترام حرية التعبير وحرية الإعلام"، ووضع حد لـ"المضايقة التي يتعرض لها الصحفيون".
كما أعرب ماكرون عن "قلقه العميق" من "الادعاءات التي تفيد بأن السلطات المغربية أفسدت أعضاء في البرلمان الأوروبي"، لكن بعض الأصوات في المغرب ترى أن فرنسا تقف وراء توصية البرلمان الأوروبي، فيما كانت العلاقات متوترة أصلاً بين باريس والرباط، خصوصاً فيما يتعلق بوضع الصحراء الغربية.
وقال الرئيس الفرنسي: "هل كان ذلك صنيعة حكومة فرنسا؟ كلا، هل صبّت فرنسا الزيت على النار؟ كلا، يجب أن نمضي قدماً رغم هذه الخلافات".
ومن جهتها، كانت الجزائر قد استدعت سفيرها لدى فرنسا "للتشاور"، في 8 فبراير/شباط، للاحتجاج على "الدخول غير القانوني" عبر تونس للناشطة الفرنسية-الجزائرية أميرة بوراوي. وتابع ماكرون: "أعلم أنه يمكنني الاعتماد على صداقة والتزام الرئيس (الجزائري عبد المجيد) تبون، سنحرز تقدماً معه أيضاً".
السؤال هنا يتعلق بمدى قدرة الرئيس الفرنسي على إنقاذ ما تبقى من نفوذ لبلاده في القارة الإفريقية بشكل عام، وفي مستعمراتها السابقة بشكل خاص، خصوصاً أن ماكرون نفسه يعتبر شاهداً على فقدان أغلب ذلك النفوذ خلال فترته الرئاسية الأولى والعام الأول من فترته الرئاسية الثانية.
وبطبيعة الحال يظل الاقتصاد والموارد الطبيعية التي تتمتع بها الدول الإفريقية هي مربط الفرس، ولب الصراع الذي لا يتوقف بين الدول الكبرى للاستفادة من تلك الثروات، بحسب غالبية المراقبين والمحللين، رغم حديث الرئيس الفرنسي عن "زهد" بلاده في الصراع على خيرات القارة.
ويبدو أن سياسة الانقلابات في الدول الإفريقية لم تعد تصب في صالح فرنسا، رغم أن غينيا وتشاد ومالي، وجميعها مستعمرات فرنسية سابقة، قد شهدت عدداً من الانقلابات خلال العامين الماضيين، حيث انتهت الأمور إلى فقدان باريس نفوذها، وحلت محلها موسكو في أغلب تلك الدول، كما أن بكين هي الأخرى أصبحت رقماً صعباً في القارة.
وكانت غينيا هي الدولة الإفريقية الثالثة التي تشهد انقلاباً عسكرياً خلال أشهر قليلة، بعد تشاد ومالي، وجميعها مستعمرات فرنسية سابقة، ما أثار تساؤلات عميقة حول ما يحدث في تلك الدول وأسبابه وتداعياته، وسط أحاديث عن صراعات بين الدول الكبرى للاستيلاء على الثروات الطبيعية الهائلة في تلك الدول.
ولأن فرنسا هي المستعمر السابق لتلك الدول، وكانت تهيمن على شؤونها السياسية بشكل كبير، فمن الطبيعي أن يكون موقف باريس من تلك الانقلابات تحت المجهر. واللافت هنا هو التباينات الصارخة في رد فعل فرنسا تجاه تلك الانقلابات، ما بين التأييد كما في حالة تشاد والتنديد بشدة كما في حالة انقلاب مالي، ثم تأييد انقلاب غينيا.