يبدو أن التصدّع طويل الأمد بين مصر وتركيا بات يُظهر بوادر انحسار في الآونة الأخيرة، ففي زيارة هي الأولى من نوعها منذ 10 سنوات، زار وزير الخارجية المصري سامح شكري، يوم الإثنين 27 فبراير/شباط مدينة أضنة جنوبي تركيا، في زيارة "تضامنية" مع الشعب التركي عقب الزلزال الذي ضرب جنوبي البلاد.
وأكد شكري على أهمية إعادة العلاقات بين مصر وتركيا إلى مستواها السابق والمضي بها بما يتوافق مع المصلحة المشتركة للبلدين، بينما قال نظيره التركي مولود جاويش أوغلو إن تطور العلاقات بين أنقرة والقاهرة يصب بمصلحتهما وينعكس إيجاباً على استقرار ورخاء المنطقة.
وخلال الفترة التي استغرقت ما يقرب من 10 سنوات من القطيعة، شارك شكري عام 2016 في قمة منظمة التعاون الإسلامي بإسطنبول، لكنه لم يلتقِ أي مسؤول تركي.
مصر وتركيا.. هل تصلح الكوارث ما أفسدته السياسة؟
قبل زيارة سامح شكري بنحو 3 أشهر، وتحديداً خلال افتتاحية كأس العالم في دولة قطر، التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وبعد الزلزال الكارثي الأخير، قام السيسي بخطوة نادرة متمثلة بالاتصال بالرئيس التركي، وتقديم التعازي له، ووعده بمساعدات تم تسليمها بعد ذلك بوقت قصير.
بعد ذلك، استضاف رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي مجموعة من رجال الأعمال الأتراك في القاهرة في 15 شباط/فبراير 2023 لمناقشة الاستثمارات المخطط لها البالغة 500 مليون دولار، وهو الاجتماع الأول من نوعه منذ نحو عقد أيضاً. وتجدر الإشارة إلى أن مصر بصدد خصخصة العديد من الشركات التي تديرها الدولة، ويمكن أن تلعب تركيا دوراً في هذه العملية إلى جانب الاستثمارات الضخمة من قبل دول الخليج.
تقول القاهرة إن حراكها الأخير نحو أنقرة هو من باب إظهار التضامن بعد الزلازل المدمرة؛ حيث أمدت القاهرة أنقرة بـ6 قوافل من المساعدات الإنسانية، لكن لا شك أن هذه الكارثة تحوّلت لفرصة بين الطرفين لإذابة الجمود ضمن ما يُعرف بـ"دبلوماسية الزلازل"، والمُضي قُدماً في إصلاح العلاقات فيما بينهما.
"من مصلحتنا أن تكون مصر قوية، وأردوغان والسيسي سيجتمعان قريباً"
خلال زيارته لمدينة أضنة ومن ثم ميناء مرسين، قال شكري، في مؤتمر صحفي مع نظيره التركي: "زيارتنا لتركيا هي رسالة صداقة وتضامن"، وأضاف: "نؤمن أن تركيا ستتغلب على هذا في أسرع وقت ممكن.. إنها كارثة كبيرة، لكننا سنواصل بذل قصارى جهدنا للمساعدة".
من جهته، قال جاويش أوغلو إن مصر كانت من أوائل الدول التي بادرت إلى إرسال مساعدات إنسانية إلى المتضررين من الزلزال في تركيا، وأضاف: "السفينة المصرية الأولى جلبت كمية كبيرة من المساعدات، وكذلك وصلتنا مساعدات عبر الطائرات، والآن وصلت السفينة المصرية الثانية التي تحمل مساعدات تقدر بـ 520 طناً وتتضمن مواد غذائية وألبسة ومستلزمات طبية ومواد سكنية".
وقال جاويش أوغلو للصحفيين في ميناء مرسين إن أردوغان والسيسي قد يجتمعان مرة أخرى قريباً، وأضاف: "تبادلنا خلال محادثاتنا اليوم وجهات النظر حول الزيارات المتبادلة في الفترة المقبلة. التقى نائبا وزيري الخارجية مرتين من قبل، وسيكون من المفيد أن يجتمعا مرة أخرى. وبعد محادثاتنا يمكن أن يجتمع الرئيسان في تركيا أو مصر".
وقال أوغلو إننا "نفتح صفحات جديدة في علاقاتنا مع مصر"، واصفاً زيارة شكري بأنها "مهمة للغاية وتعني الكثير". وأوضح أنهما ناقشا "الخطوات التي سنتخذها لتحسين وتطوير العلاقات بين مصر وتركيا بما يصب في مصلحة الطرفين، ويخدم تحقيق السلام والتنمية والاستقرار في منطقتنا".
وأكد الوزير التركي أن "الصداقة والأخوة تظهران في الأوقات الحرجة، ومصر حكومة وشعباً أظهرت بأنها صديقة وشقيقة لتركيا في هذه المحنة"، وتابع: "نفتح صفحات جديدة في علاقاتنا مع مصر، واللقاء الذي جمع الرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي في الدوحة كان مثمراً للغاية، وخلال لقائي مع الوزير شكري في مطار أضنة قبل قليل، تناولنا الخطوات الواجب الإقدام عليها لتعزيز علاقات البلدين".
مؤكداً أن "مصر بلد مهم بالنسبة لمنطقة البحر المتوسط وللعالم العربي وللعالم الإسلامي ولفلسطين ولإفريقيا، من مصلحتنا جميعاً أن تكون مصر قوية، أنا على ثقة بأننا سنعمل سوياً لتعزيز علاقاتنا نحو الأفضل".
قطيعة دامت 10 سنوات بين مصر وتركيا
انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا في عام 2013 بعد إطاحة وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي، بالرئيس الأسبق المنتخب، الراحل محمد مرسي، الذي حظي بدعم أردوغان وحزبه العدالة والتنمية.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد الانقلاب العسكري، قد أعلن حينها مراراً أنه لن يتواصل "أبداً" مع شخص مثل السيسي. لكن أردوغان أعرب في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 لدى مغادرته قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا، عن استعداده لإعادة بناء العلاقات مع القاهرة "من الصفر".
وكان جاويش أوغلو قد قال في نوفمبر/تشرين الثاني إن تركيا قد تعيّن سفيراً لها في مصر "خلال الأشهر المقبلة".
وعُقد اجتماعان على مستوى نواب وزيري الخارجية في البلدين، أحدهما بالقاهرة والآخر في أنقرة في 2021، أعقبا اتصالات على مستوى أجهزة الاستخبارات في البلدين.
"دفعة قوية" لمسار تطبيع العلاقات بين مصر وتركيا
تشير زيارة شكري الأخيرة لتركيا إلى إعطاء كل من أنقرة والقاهرة دفعة قوية لمسار تطبيع العلاقات بينهما، ووجود رغبة مشتركة من الطرفين بذلك لطيّ الخلافات حول العديد من الملفات؛ مثل استضافة تركيا لرموز المعارضة المصرية، والخلافات حول ترسيم الحدود البحرية واتفاق تركيا وليبيا حيال ذلك، وغيرها من القضايا الأخرى.
وطوال العام الماضي، لعبت الدوحة دور الوسيط لإعادة تطبيع العلاقات بين القاهرة وأنقرة، ولا تخفي رغبتها الواضحة في تحسين العلاقات مع مصر في سياق مسار دبلوماسي أوسع يهدف إلى العودة لسياسة "صفر مشاكل"، التي نجحت من خلالها في إنهاء الخلافات مع السعودية والإمارات ودول أخرى تُعتبر حليفة للقاهرة.
وعقب قرابة العامين من تراجع التصعيد في الملف الليبي وتراجع الخلافات الإقليمية، خاصة بين مصر وتركيا، بدأت تركيا بالتوازي مع قطر مساراً لإعادة تطبيع العلاقات مع دول المنطقة، ونجحت تدريجياً في إعادة تطبيع العلاقات مع الإمارات والسعودية و"إسرائيل"، إلا أن المسار المتواصل مع مصر واجه صعوبات ولم يجرِ حتى اليوم تحقيق اختراق حقيقي يتمثل في إعادة تبادل السفراء أو عقد لقاءات سياسية على مستوى متقدم؛ حيث بقيت الاتصالات على مستوى الاستخبارات والدبلوماسية المنخفضة.
وتتمتع مصر وتركيا بموقع استراتيجي مميز يطلّ على نوافذ مائية وبرية مهمة، فبينما تربط تركيا آسيا بأوروبا وتتحكم بمضيق إسطنبول الذي يربط البحرين الأسود والأبيض. فيما تربط مصر إفريقيا بآسيا وتسيطر على قناة السويس التي تربط البحرين الأبيض والأحمر؛ مما يعني أن البلدين يسيطران على خطوط التجارة الدولية بشكل أو بآخر؛ بما يجعل منهما لاعبين مُهيمنين على ساحة التجارة الدولية، ولا شك أن إحداث تقارب بينهما خصيصاً في ملف ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط سيصب في مصلحتهما بشكل كبير اقتصادياً واستراتيجياً.
وعلى الرغم من التوترات السياسية بين مصر وتركيا، نمت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين بشكل كبير على مدى السنوات العديدة الماضية. ويتوقع بعض الاقتصاديين أن تزيد تركيا من استثماراتها في مصر إلى 15 مليار دولار، وأن ترفع حجم التبادل التجاري إلى 20 مليار دولار سنوياً.
جدير بالذكر أن تركيا ومصر وقعتا اتفاقية تجارة حرة في عام 2005 نتج عنها، عند دخولها حيز التنفيذ في عام 2007، تضاعف إجمالي حجم التجارة بين البلدين ما يقرب من ثلاثة أضعاف بين عامي 2007 و 2020، من 4.42 مليار دولار إلى 11.14 مليار دولار. ونجت الاتفاقية الحرة من الأزمة السياسية التي أعقبت عام 2013 بين القاهرة وأنقرة؛ مما يشير بحسب خبراء إلى قدرة البلدين على فصل الاقتصاد عن السياسة، أو إصلاح السياسة من بوابة الاقتصاد، أو حتى من باب "دبلوماسية الكوارث".