في عصر الطائرات الآلية المسيّرة والصواريخ الموجهة بالليزر، ناهيك عن أقمار التجسس الصناعية، قد تبدو مناطيد التجسس أداة بدائية لاستخدامها في التجسس والحروب، لكن الخبراء يشيرون إلى أن لهذه المناطيد تاريخاً طويلاً ونبيلاً، وهناك أسباب قوية للاستمرار في استخدامها حتى مع ظهور قدرات تجسس جوية أكثر تقدماً، كيف ذلك؟
ما حاجة بعض الدول لاستخدام مناطيد التجسس رغم امتلاك أقمار اصطناعية؟
يقول توماس باون، الخبير في المتحف الوطني للطيران والفضاء في واشنطن العاصمة، إنه "لطالما اعتُبرت المناطيد وسيلة تكنولوجية سهلة، إذ يسهل تصنيعها ويسهل تعبئتها بالغاز- سواء كان الهيليوم أو الهيدروجين- ويسهل إطلاقها".
وبحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية، يعود استخدام المناطيد في الحروب والتجسس إلى الثورة الفرنسية، وأقدم استخدام مسجل لها كان عام 1794 من جانب سلاح الطيران الفرنسي. وظهرت لأول مرة في الجيش الأمريكي خلال الحرب الأهلية، وأسهمت قفزة تكنولوجية خلال الحرب العالمية الأولى في ربط خطوط الهاتف بالمناطيد، لنقل المعلومات فور وصولها.
وأسهمت المناطيد أيضاً بدور في الحرب العالمية الثانية، حين كانت الولايات المتحدة تستخدم المناطيد القابلة للتوجيه لمراقبة تحركات العدو، ونشرت اليابان لفترة قصيرة (ودون نجاح يُذكر) آلاف المناطيد لإسقاط القنابل على الأراضي الأمريكية.
وظهرت أولى محاولات الولايات المتحدة لاستخدام المناطيد في التجسس خلال الحرب الباردة، في برنامجين متتاليين معروفين باسم مشروع موبي ديك ومشروع جينيتريكس، اللذين اعتمدا على نشر مئات المناطيد المرفقة بكاميرات فوق الاتحاد السوفييتي.
وقال باون لمجلة فورين بوليسي: "لم تكن فعالة كثيراً"، وأضاف أن معظم هذه المناطيد التي يزيد عددها عن 500 منطاد لم تُسترد، وافتضح أمر كثير منها، ما تسبب في مشكلات دبلوماسية. وقال: "وأُلغي المشروع سريعاً".
لكن ما الحاجة لها في زمن الأقمار الاصطناعية فائقة التطور؟
مع ظهور الطائرات الشبحية مثل طائرات لوكهيد U-2 وSR-71، وتطور الأقمار الصناعية، تراجع تركيز واشنطن على المناطيد (رغم أن الجيش الأمريكي نشر نسخة مرتبطة بالأرض خلال حرب العراق أوائل الألفينات، واختبرت وزارة الدفاع مناطيد الستراتوسفير عدة مرات في السنوات الأخيرة).
ولكن الأسابيع القليلة الماضية أثبتت أن المناطيد لا تزال تستخدم على نطاق واسع من جانب بلدان العالم. وقالت أوكرانيا الأسبوع الماضي إنها أسقطت مناطيد استطلاع روسية رصدتها فوق كييف.
يقول ويليام كيم، المستشار في مركز أبحاث مبادرة ماراثون Marathon Initiative، الذي يبحث في مناطيد التجسس: "الصينيون يستخدمون المناطيد كثيراً، لكن الولايات المتحدة تميل أكثر إلى استخدام الأقمار الصناعية".
مناطيد التجسس في الحرب الباردة بين الصين وأمريكا
تشير التقديرات الأولية التي أجراها المسؤولون الأمريكيون إلى أن منطاد التجسس الصيني، الذي أُسقط في أوائل فبراير/شباط، كان بغرض التجسس على الاتصالات الإلكترونية، والمعروفة باسم استخبارات الإشارات.
وقال مسؤولون الأسبوع الماضي إنهم اكتشفوا أجهزة استشعار إلكترونية ضمن الحطام الذي انتشل قبالة سواحل كارولينا الجنوبية. وهذه المناطيد تُصنع عادة من البولي إيثيلين، ويتفاوت سمكها حسب درجة ضغط الهواء الداخلي، وتعمل باستخدام لوحة شمسية كبيرة مزودة بمصفوفة هوائيات وأنظمة أخرى لتوجيه المنطاد نفسه.
على أن الحجم الهائل للمنطاد الصيني يجعله مختلفاً بعض الشيء عن مناطيد التجسس الأخرى، وقالت ميليسا دالتون، المسؤولة في البنتاغون، إنه بطول 200 قدم وجسمه بحجم طائرة نفاثة.
وقال كيم: "هذا المنطاد هائل الحجم"، وأضاف أن تحليقه على ارتفاع 60 ألف قدم (18,200 متر) أقل من النطاق الاعتيادي. وقال: "هذا ما يثير دهشتي بعض الشيء، أن يرسلوا شيئاً كهذا فوق الولايات المتحدة، يسهل جداً اكتشافه".
التكلفة البسيطة والقدرة على الإفلات من الرادار
يقول كيم إن استخدام المنطاد لمروحة توجيه "لا يبدو تكنولوجيا متقدمة أيضاً"، ويُحتمل أن يحد من قدرته على المناورة، رغم التقدم الكبير في منظومات الذكاء الاصطناعي التي ترفع قدرة المناطيد على اكتشاف أنماط الرياح ومتابعتها.
وقال كيم إنه رغم المشكلات الدبلوماسية الأخيرة التي تسبب فيها هذا المنطاد، فإن التجسس بالمناطيد له مزايا كبيرة، تجعله مفضلاً عن التكنولوجيا العادية. وأول هذه الميزات وأوضحها التكلفة، فصنع منطاد وتعبئته بالهيليوم أرخص بكثير من إطلاق صاروخ لإرسال قمر صناعي إلى الفضاء. والقرب النسبي للمنطاد من الأهداف وسرعته البطيئة تجعلانه أكثر فاعلية في التقاط البيانات.
قال كيم: "أداء المستشعر يكون أفضل إذا كنت على ارتفاع 10 أو 20 كيلومتراً مقابل 300 أو 250 كيلومتراً. والمناطيد تتحرك تقريباً بسرعة 50 ميلاً (80 كم) في الساعة، مقابل الأقمار الصناعية التي تتحرك بسرعة 15 ألف ميل (24140 كم) في الساعة في مدار الأرض".
ومن المفارقات أن الحركات المعروفة للأقمار الصناعية تزيد من سهولة التصدي لها، والمناطيد عادة فعالة في الإفلات من الرادار. ولم يطور المسؤولون الأمريكيون طريقة لتتبع مناطيد التجسس الصينية إلا العام الماضي، حسبما ذكرت شبكة CNN، ويُحتمل أن عمليات الإسقاط الثلاث المتتابعة مطلع الأسبوع الماضي كانت نتيجة لتعديل الولايات المتحدة لآليتها في اكتشاف الأجسام الجوية بطيئة السرعة بعد المنطاد الأول.
وقال بايدن يوم الخميس، 16 فبراير/شباط 2023: "ليس لدينا أي دليل على حدوث زيادة مفاجئة في عدد الأجسام في السماء"، وأضاف أن واشنطن تعمل على آلية لتحسين الكشف عن الأجسام الطائرة غير القانونية، دون الإضرار بالأجسام المسالمة في مرمى النيران. وقال: "نتمكن الآن من رصدها أكثر من ذي قبل، وهذا جزئياً بفضل الخطوات التي اتخذناها لزيادة دقة الرادارات".
والإفلات من الرادار بسهولة جزء كبير من المشكلة. قال كيم: "نعلم حين تكون الأقمار الصناعية الصينية فوقنا، لكن المنطاد نفسه لن يطلق الرادار. فهو لن يطلق حرارة هائلة إذا لم يكن مزوداً بمحرك أو أي شيء يطلق حرارة. لذلك يكون من الصعب نسبياً اكتشافها، رغم أنه ليس مستحيلاً بطبيعة الحال".