يرجح أن يصبح زلزال تركيا وسوريا الذي بلغت قوته 7.8 ريختر من أكثر الزلازل دموية في القرن الحالي، فلماذا جاء مدمراً بهذا الشكل رغم أن تركيا يفترض أنها مستعدة لمواجهة الزلازل؟ كما أن زلازل بقوة أعلى لا تحدث تدميراً مماثلاً في دولة مثل اليابان، ولكن الأسباب تبدو معقدة، وقوة الزلزال ليست السبب الوحيد لمدى تدميره.
وتجاوز عدد الوفيات جراء الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا، 36 ألفاً حتى صباح الإثنين 13 فبراير/شباط 2022.
فبعد مرور نحو أسبوع على الكارثة، تبين أن حجمها وعدد الضحايا أكبر من أسوأ توقعات العلماء الغربيين، خاصة في تركيا، بالنظر لأنها تعتبر إلى حد كبير دولة متقدمة (هي عضو في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية "OECD" التي تمثل نسبياً نادي الدول المتقدمة)، ولديها تاريخ طويل من الزلازل وهيئة مخصصة للتعامل مع الكوارث "أفاد".
ولكن من الواضح أن لهذا الزلزال سمات مختلفة نادرة، كما أن طبقات الأرض والطبيعية الجيولوجية لتركيا، وأسباباً سياسية وتاريخية واجتماعية فاقمت من التدمير الذي سببه الزلزال.
فمقياس ريختر لا يستطيع أن يقدم وحده تفسيراً للتدمير الذي تحدثه الزلازل، فالأمر أعقد من ذلك بكثير، حسب الخبراء.
ووقع الزلزال جراء تمزق بين طبقتي الأناضول والصفيحة العربية، وكان مركز الزلزال على بعد 26 كيلومتراً شرقي مدينة نورداجي التركية، على عمق أقل من 18 كيلومتراً عند صدع شرق الأناضول. وتحركت موجات الزلزال باتجاه الشمال الشرقي، ما تسبب في دمار وسط تركيا وسوريا.
ما مدى سوء الزلزال مقارنة بما حدث في مناطق قريبة؟
في المتوسط، كان هناك أقل من 20 زلزالاً بقوة 7.0 درجات في أي عام، ما يجعل زلزال يوم الإثنين شديداً، حسب ما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
مقارنة بالزلزال 6.2 الذي ضرب وسط إيطاليا في عام 2016 وأودى بحياة حوالي 300 شخص، أطلق زلزال تركيا وسوريا 250 ضعف الطاقة، وفقاً لجوانا فور والكر، رئيس معهد لندن الجامعي للحد من المخاطر والكوارث.
كان زلزالان فقط من أكثر الزلازل فتكاً في الفترة من 2013 إلى 2022 بنفس قوة زلزال تركيا وسوريا الأخير.
وقالت البروفيسور جوانا فور ووكر، رئيس معهد UCL البلجيكي للحد من المخاطر والكوارث: "إنه لأمر جدير بالثناء أن الحكومة التركية وجهت نداءً للحصول على المساعدة الدولية؛ لأن الخطأ في كثير من الأحيان هو عدم الاعتراف بالحاجة في وقت مبكر بما فيه الكفاية، ويمكن أن يعاني السكان المحليون والمجتمعات المحلية أكثر نتيجة لذلك.
ولكن هناك أسباب متعددة جعلت زلزال تركيا وسوريا أشد تدميراً إضافة لقوته الكبيرة المسجلة بمقياس ريختر.
إليك الظواهر النادرة التي شهدتها طبقات الأرض أثناء زلزال تركيا وسوريا
1- قرب الزلزال من السطح جعله أشد تدميراً
بدأ التمزق الأولي للزلزال التركي السوري على عمق ضحل نسبياً، حسب ما ورد في تقرير لوكالة Reuters.
وقال ديفيد روثيري، عالم جيولوجيا الكواكب في الجامعة المفتوحة في بريطانيا: إن "الاهتزاز على سطح الأرض يكون أشد مقارنة بحالة حدوث لزلزال على عمق أكبر بنفس القوة عند ذات الموقع.
ويعد العمق الضحل لمركز الزلزال، والذي تم الإبلاغ عن أنه يبلغ حوالي 17.9 كيلومتر، عاملاً رئيسياً آخر في فتكه. عادة ما يكون مدى وصول الموجات الزلزالية الناشئة من أعماق ضحلة تقل عن 60 كم بعيداً، حسب ما يقول العلماء.
وينتج عن الزلزال الذي يحدث في أعماق ضحلة (قريبة من السطح) عادةً موجات زلزالية تنتقل بسرعة عالية، وهي الأكثر تدميراً بسبب الحركة الأفقية للموجات الزلزالية عبر الأرض، ما يؤدي إلى اهتزاز أكثر كثافة.
كما أن العمق الضحل يعني أن الزلزال أحدث هزة عنيفة أثرت على مسافة أكبر بلغت مئات الكيلومترات من مركز الزلزال، ولذا تأثرت في هذا الزلزال سبع محافظات في تركيا ومنطقة شاسعة في شمال سوريا.
وقال إريك فيلدنج، عالم الجيوفيزياء في مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة NASA الأمريكية: "كان هذا الزلزال وتوابعه كبيرة جداً وقوية، وأدى إلى تمزق حتى السطح على مدى سلسلة طويلة من الصدوع". وقد أدى ذلك إلى حدوث هزات قوية للغاية على مساحة كبيرة جداً أصابت العديد من المدن والبلدات المليئة بالسكان. كان طول الصدع وضخامة الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجة مشابهاً لزلزال 1906 الذي دمر سان فرانسيسكو، والذي يعد أكثر الزلازل دموية وتدميراً في تاريخ الولايات المتحدة.
2- يبدو أنهما زلزالان بل ثلاثة لأن الهزات الارتدادية حدثت بصدع مختلف
بعد 11 دقيقة من الزلزال الأول، تعرضت المنطقة لهزة ارتدادية بلغت قوتها 6.7 درجة. ووقع زلزال ثالث بقوة 7.5 درجة على مقياس ريختر بعد ساعات، تلاه تشنج آخر بقوة 6.0 درجات في فترة ما بعد الظهر.
"بالنظر إلى موقع الزلزال الأكبر الأول والثالث الكبير أيضاً الذي ضرب المنطقة، يقول العلماء إن هزة ارتدادية كان حجمها مرتفعاً، حيث عادة تكون الهزات الارتدادية أقل بكثير، ولكن الزلازل الرئيسي أعقبه هزة بقوة 6.7، أي تقارب الحد الأقصى للزلازل المتوسطة ثم هزة ثالثة بمقياس 7.5، أي أنها تعد في حد ذاتها زلزالاً قوياً.
وبالنظر إلى وقوع الهزة الارتدادية الكبيرة على بعد أكثر من 60 ميلاً من مركز الزلزال الأول الكبير الذي يقع بالقرب من مدينة غازي عنتاب، فمن المحتمل أن يكون قد حدث على خط صدع مختلف عن أول زلزال كبير، رغم أنه حدث بسببه وتُعد قوة الزلزال الثاني أمراً لافتاً ونادراً.
3- حركات أفقية ورأسية بوقت واحد والجيولوجيا بالمنطقة تجعلها أكثر عرضة للهزات التابعة
تجدر الإشارة إلى أنه تم أيضاً تسجيل أكثر من 120 هزة ارتدادية بعد أول زلزال كبير في 6 فبراير/شباط في تركيا وسوريا.
وتتميز المنطقة المتأثرة (جنوب تركيا وشمال سوريا) بتكوين تكتوني معقد نظراً لوقوعها بالقرب من ثلاثة حدود صفائح أو مناطق صدع واسعة النطاق. هذه هي الحدود بين الصفيحة الأوراسية والصفيحة الإفريقية والصفيحة العربية وصفيحة الأناضول.
نادراً ما تحدث كل من الحركات الرأسية والأفقية معاً، ولكن عندما تحدث، يكون قوة الزلزال عادةً أكبر.
بينما لا يزال يتعين على الجيولوجيين وعلماء الزلازل تحديد الأصل الفعلي لزلزال السادس من فبراير/شباط 2023 في تركيا وسوريا بدقة، فمن المتصور أن الجيولوجيا المعقدة في المنطقة هي المسؤولة عن تعدد الهزات التابعة وقوتها وجعل الزلزال أكثر تدميراً، حسب ما نقله موقع Science Media Centre عن مجموعة من علماء الزلازل.
4- قرب المدن المنكوبة من مركز الزلزال فاقم الخسائر
المسافة إلى مركز الزلزال أو نقطة نشوء الزلزال عامل أساسي في قوة تدميره، حيث تقل قوة الموجات مع المسافة من مركز الزلزال. وهذا يفسر سبب كون المناطق الأكثر تضرراً في هذا الزلزال هي الأقرب إلى مركز الزلزال وفقاً لتحليلي.
كان مركز الزلزال بالقرب من مدينة غازي عنتاب، وهي مدينة يفوق عدد سكانها مليون نسمة كذلك مدينة كهرمان مرعش، وهذا هو السبب في أن المدينتين تعرضتا لأكبر قدر من الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية، حيث استغرقت موجات الزلزال مسافة قصيرة نسبياً للوصول إلى المنطقة المبنية.
5- مرور قرنين دون زلازل كبيرة كبت طاقة الأرض وجعلها أكثر عنفاً
أدى صدع شرق الأناضول إلى زلازل مدمرة عبر القرون، فلقد شهدت مدينة أنطاكيا التي تقع في نفس المنطقة عام 115 ميلادية ثالث أكبر الزلازل في التاريخ من حيث عدد القتلى على مدار التاريخ؛ حيث توفي نحو 260.000 شخص جراء الزلزال الذي بلغت قوته 7.5 درجة بمقياس ريختر، حسب تقرير لموقع Our World Data.
وفي عام 1822، ضرب زلزال بقوة 7.0 درجات المنطقة، ما أسفر عن مقتل ما يقدر بنحو 20 ألف شخص.
ولكن خلال القرن العشرين، أدى صدع شرق الأناضول إلى القليل من النشاط الزلزالي الكبير، حسب ما نقل تقرير وكالة Reuters عن روجر موسو، الباحث الفخري المساعد في هيئة المسح الجيولوجي.
إذ تم تسجيل ثلاثة زلازل فقط فوق 6.0 على مقياس ريختر منذ عام 1970 في المنطقة، وفقاً لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.
لكن في أعماق الأرض كان يحدث الكثير، فالصفائح في نظام الصفائح التكتونية تتحرك طوال الوقت بمعدل ثابت، وليس فقط عندما يكون هناك زلزال.
والجزء الداخلي من صفيحة الأناضول يتحرك باتجاه الغرب بمعدل 22 ملم في السنة، كما تم تصويره بواسطة الأقمار الصناعية، حسب ما ينقل موقع Science Media Centre عن عدد من العلماء.
وفي زلزال تركيا وسوريا الأخير، أدى نحو قرنين من الانزلاق المتراكم دون حدوث زلزال كبرى لإطلاق الطاقة المكبوتة طوال تلك الفترة، ما تسبب في موجات واسعة وحركة أرضية قوية. لذلك تحركت صفيحة الأناضول بمقدار كبير فقط بالقرب من حدودها مع صدع شرق الأناضول. لم تتحرك تركيا كلها، حسب الموقع.
6- الموعد والطقس ساعدا في زيادة أعداد الضحايا
طقس الشتاء البارد في المنطقة المرتفعة على سطح البحر، يعني أن الأشخاص المحاصرين تحت الأنقاض لديهم فرص أقل في البقاء على قيد الحياة.
كما أن "وقت وقوع الزلزال هو المسؤول عن ارتفاع عدد القتلى حيث وقع في الساعات الأولى من الصباح عندما كان معظم الناس نائمين في المنازل، حسب الخبراء، لأنه يعرّض المزيد من الناس لخطر انهيار المباني ويمنحهم وقتاً أقل للرد منذ أن كانوا نائمين. لو حدث الزلزال في فترة ما بعد الظهر، لكان عدد أقل من الناس في المنازل، وكان من الممكن أن يؤدي ذلك إلى وفيات أقل، لكن الضرر الذي لحق بالبنية التحتية، مع ذلك، سيكون هو نفسه.
إسطنبول مستعدة للزلازل، ولكن ما وضع أكواد البناء في جنوب تركيا؟
تقع تركيا في منطقة تشهد نشاطاً زلزالياً هو من بين الأعلى في العالم؛ إذ تمثل نقطة التقاء عدة أحزمة زلزالية أخطرها حزام ألبايد (الحزام الألبي) الممتد من أقصى غرب البحر المتوسط حتى إندونيسيا، والذي يعد ثاني أخطر أحزمة الزلازل بعد حلقة النار الممتدة حول المحيط الهادئ الذي يشمل اليابان وغرب الأمريكيتين.
وتأخذ الحكومة التركية بحسبانها المخاطر المتعلقة بالزلازل، ودفعها زلزال 1999 المدمر إلى تأسيس "هيئة الكوارث والطوارئ" (آفاد)، كما عملت على إصدار قوانين خاصة بالبناء.
وتم نشر أكواد تصميم الزلازل لأول مرة في تركيا حوالي عام 1975؛ وحدث تغيير تدريجي في قوانين البناء عقب زلزال كوجالي عام 1999. يتم الآن تحديث قوانين البناء بانتظام وهي متوافقة مع أفضل الأكواد الأوروبية واليابانية والأمريكية، حسب ما نقل موقع Science Media Centre عن عدد من العلماء.
وبين الفترة والأخرى تخرج تحذيراتٌ ودراساتٌ وتوقعات إلى الواجهة، لتؤكد أن زلزالاً سيقع في إسطنبول وفي حال وقوعه سيكون مدمراً، وقد تنتج عنه كارثة لم يسبق أن شهدتها تركيا، منذ عقود، حسبما ورد في تقرير لموقع قناة "الحرة" الأمريكية.
وأصبحت إسطنبول واحدة من أكثر المدن نشاطاً في العالم من حيث التخفيف من مخاطر الزلازل، حسب البنك الدولي، الذي يقول في تقرير له إنه تم تحديث أكثر من 700 مبنى عام لمساعدتها على تحمل الصدمات الزلزالية، وتم تقديم تدريب على التأهب للكوارث لأكثر من 450.000 شخص.
"يمكن أن تكون ممارسات التصميم هي الأفضل في العالم لتحمل الزلزال، ولكن من المهم ملاحظة أنه يجب أن يقترن ذلك بممارسات بناء جيدة تتماشى مع هذا التصميم، بالإضافة إلى الإشراف على هذه العملية لضمان تلبية المعايير. لكي يوفر النظام تصميماً جيداً بشكل كافٍ، يجب الالتزام بممارسات البناء والإشراف.
لم يتم تحليل أداء المبنى في هذا الزلزال بعد – وستحدث هذه العملية في الأشهر المقبلة؛ حين يقوم المهندسون بفحص آثار الزلزال لتحديد كيفية التعلم منه. ومع ذلك، فمن المحتمل أن أداء المباني القديمة كان أسوأ من أداء المباني الأحدث، حسب موقع Science Mediacentre.
ومن المعروف أن تركيا بها عدة صدوع، ولكن الصدع الأكثر نشاطاً خلال السنوات الماضية هو الموجود في منطقة بحر مرمرة؛ حيث توجد مدينة إسطنبول، ويبدو أن التركيز على التأهب من الزلازل كان في هذه المنطقة الثرية، خاصة بعد زلزال عام 1999 الذي ألحق تدميراً كبيراً بها، خاصة أن منطقة جنوب تركيا لم يحدث فيها زلزال قوي منذ فترة طويلة كما سبقت الإشارة.
كما أن منطقة جنوب تركيا التي وقع فيه الزلزال الأخير هي تاريخياً كانت منطقة فقيرة وعانت في السابق من التهميش النسبي، خاصة أن تركيا دولة مركزية تحتل فيها العاصمة أنقرة وبالأكثر مدينة إسطنبول مكانة كبيرة سياسياً وشعبياً، ويمثل حلم الهجرة إليها هدفاً لسكان الأقاليم.
وقد شهدت الأقاليم التركية بما فيها مناطق جنوب وجنوب شرق تركيا نهضة كبيرة، في عهد حزب العدالة والتنمية؛ حيث تعد من معاقله الانتخابية والموطن الأصلي لكثير من أعضائه وقيادته، كما سعى الحزب لتعزيز التنمية المحلية الإقليمية وهو ما ظهر في إنشاء أكبر منطقة صناعية منظمة في تركيا في ولاية غازي عنتاب.
ولكن يبدو أن الزلزال كان أسرع من آثار عملية التنمية، ومن الواضح أنه ما زال فيها مبانٍ قديمة غير مواكبة لأكواد الزلازل، خاصة أن هذه الأكواد تنطبق على المباني الجديدة وليست القديمة، (يصعب على دولة استبدال كل المباني القديمة فيها)، مع ظهور تقارير عن شكوك من قِبل السلطات التركية في أن بعض المقاولين لم يلتزموا بدقة بأكواد الزلازل في المباني الجديدة.
قصة الأتراك البيض والأتراك السود تفسر تاريخ المنطقة المنكوبة
وتركز المعارضة التركية على مشكلات البناء والإغاثة في انتقادها لأداء الحزب الحاكم بشأن الكارثة، علماً بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اعترف بوجود بعض التقصير.
تجدر الإشارة إلى أن منطقة جنوب تركيا هي من المناطق المحافظة في البلاد، التي كانت تعاني من إهمال تاريخي من الحكومات السابقة، وعلاقة متوترة بين قطاع كبير من سكانها وحزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) تحديداً وهي علاقة حساسيتها تتعدى السياسة، لأنها مرتبطة بالطبيعة النخبوية لحزب الشعب وطريقة نظرته لمجمل السكان المحافظين في البلاد الذين يشكلون نسبة كبيرة من أبناء هذه المناطق.
فالتغير الاجتماعي والاقتصادي الأكبر الذي شهدته تركيا في عهد حزب العدالة شعرت به هذه المناطق والطبقات التي كانت تقليدياً مهمشة في البلاد، حيث اعتبر بعض علماء الاجتماع والسياسة مثل الخبيرة الاجتماعية السياسية، نيلوفار غولا، أن المجتمع التركي كان منقسماً حتى وصول حزب العدالة للحكم، إلى الأتراك البيض الأثرياء العلمانيين (الذين يتركزون في أحياء إسطبنول وأنقرة وإزمير الثرية)، والأتراك السود المحافظين (في الأحياء الشعبية للمدن وباقي الأقاليم)، وذلك بسبب تعرض الشريحة المحافظة من الأتراك للإقصاء والإجراءات الاستئصالية بحقهم.
لقد رسمت غولا نظريتها في التسعينيات، وبدا واضحاً، بعد تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا، تلاشي سيطرة "الأتراك البيض" رويداً رويداً على مفاصل الإعلام ومراكز القوى في البلاد، بما في ذلك توجيه التنمية للأقاليم التي أغلبها سكانها محافظون ورفع المستوى الثقافي والحقوقي للمواطنين عبر دورات وبرامج التوعية، والقضاء على حالة "التجهيل" التي اتبعها "الأتراك البيض"، وفقاً لما تشير إليه غولا، من خلال تأسيس جامعة في كل مدينة تركية، وفتح الباب أمام جميع المواطنين الأتراك بلا استثناء للظفر بفرصة الدراسة في الخارج على نفقة الدولة.
قد تمثل كارثة الزلزال فجوة في مشروع حزب العدالة؛ لأنها أصابت المناطق التي يفترض أنه جاء لينصفها، ولكن المسألة أعقد من ذلك، وهي درس للحزب ولتركيا ولبقية العالم.
فبالإضافة إلى إرث التهميش الطويل الذي سبق حكم الحزب وما زالت آثاره متبقية على الأرجح، فإن الميل للتركيز على المناطق المركزية مثل العواصم والمدن الكبرى هو مشكلة شائعة في العالم المتقدم والنامي على حد سواء، وخاصة الدول ذات الطبيعة المركزية مثل تركيا وفرنسا ومصر.
كما أن إسطنبول التي نالت اهتماماً كبيراً من قِبل مجمل الأتراك وحكومة حزب العدالة في مسألة التأهب للزلازل لديها وضع خاص، سواء بسبب الخوف الدائم عليها من زلزال إسطنبول الكبير الذي يجرى الحديث عنه، وأيضاً بسبب مكانتها المركزية في تاريخ وحاضر تركيا، وبصفة خاصة للإسلاميين الأتراك باعتبارها عاصمة الدولة العثمانية، ويرون أنها كانت مدينة عالمية إسلامية ومشروعهم إعادتها لهذه المكانة، وقد حققوا ذلك بشكل كبير.
ولكن تجربة زلزال تركيا تثبت أن المناطق المهمشة حتى لو تمت إزالة أسباب تهميشها تحتاج إلى اهتمام مضاعف، عبر ما يعرف بسياسة "التمييز الإيجابي".
ورغم ذلك، فحتى لو كان المنكوبون من الزلزال في مناطق جنوب تركيا يطالبون حكومتهم بمزيد من الاهتمام بمناطقهم وينتقدون بعض أوجه القصور، فمن المؤكد أنهم غير سعداء بمزايدات بعض القوى المعارضة، التي هم أول من يعلمون تاريخها المثير للجدل مع مناطقهم.