"ماما بشرى" تريد إنقاذ هاتفها لتطمئن على ابنها، وأم وابنتها تنقذهما خزانة الملابس، وعشرات القصص الأخرى بينما تتواصل جهود البحث عن ناجين تحت أنقاض زلزال تركيا وسوريا المدمر.
وتمكن منقذون، الأحد 12 فبراير/شباط، من انتشال أحد الناجين من تحت الركام بعد ستة أيام من وقوع واحدة من أسوأ الكوارث الطبيعية بمناطق في تركيا وسوريا، حيث تخطى عدد قتلى الزلزال 28 ألف شخص ولا يزال العدد مرشحاً للزيادة.
وفي إقليم هاتاي بجنوب شرقي تركيا، حمل فريق إنقاذ روماني مصطفى، البالغ من العمر 35 عاماً، بعد انتشاله من كومة من الأنقاض بعد 149 ساعة من الزلزال، الذي بلغت قوته 7.8 ريختر، وقال أحد المنقذين: "صحته جيدة وتكلم… قال: أخرجوني من هنا بسرعة لديّ رهاب الأماكن المغلقة". ووضع أفراد الفريق الرجل الممدد على محفة في سيارة إسعاف منتظرة قبل أن يتبادلوا العناق فرحاً بإنقاذه.
سيدة تركية تسمع صوت ابنها لأول مرة منذ الزلزال
صعد جندي تركي إلى رافعة أحد الحفارات، السبت 11 فبراير/شباط؛ للبحث في أحد المنازل المتضررة من الزلزال بمدينة أنطاكية عن هاتف محمول يخص امرأة عجوزاً (75 عاماً)، اعترتها مخاوف من وفاة ابنها بعد خمسة أيام من فقدان الاتصال به.
وطلبت المرأة، التي قالت إن اسمها ماما بشرى، من عمال الإغاثة العثور على هاتفها من أجل الاتصال بابنها، حيث كانت تنتظر في حديقة قريبة نُصبت فيها الخيام للمشردين من الزلزال المدمر الذي وقع فجر الإثنين 6 فبراير/شباط.
واستجاب مرتان عادل، وهو جندي في العمليات الخاصة جاء إلى أنطاكية قادماً من أنقرة للمساعدة في عمليات الإنقاذ، لمناشدة السيدة العجوز وصعد إلى شرفة الطابق الثاني من المنزل المتضرر، بحسب رويترز.
وفي شارع ضيق تحول إلى طريق مسدود بسبب الزلزال المدمر، انهار الطابق السفلي للمبنى وتدمرت واجهته جزئياً، وتحطمت النوافذ وظهرت الشقوق في المنزل المتصدع. وبمجرد وصول عادل إلى شرفة المنزل، سلمه منقذ آخَر حقيبة حمراء تحتوي على متعلقات ماما بشرى، وضمنها هاتفها المحمول، قبل أن ينزله الحفار مرة أخرى.
وتوقف عادل قليلاً للمساعدة في وضع جثامين الأشخاص الذين لقوا حتفهم داخل المباني المجاورة على سيارة نقل الموتى، قبل أن يتوجه إلى الحديقة حيث كانت تنتظر ماما بشرى بقلق.
لكن بطارية هاتف ماما بشرى نفدت قبل أن تتمكن من الاتصال بابنها، فإذا بشخص آخر في الحديقة كان قد سمع اسم ابنها قال إنه يعرفه وإنه لا يزال على قيد الحياة وبصحة جيدة. واتصل الشخص برقم الابن من هاتفه، قبل أن تلتقط ماما بشرى منه الهاتف وتنفجر في البكاء وهي تسمع صوت ابنها لأول مرة منذ وقوع الزلزال قبل خمسة أيام. وقالت ماما بشرى عن اللحظة التي سمعت فيها صوت ابنها: "وكأنك منحتني العالم".
أنقذتهما خزانة الملابس
في منتصف ليل الأحد 5 فبراير/شباط، قفزت يوردانور دوران وشقيقتها زينب آدا على سرير والديهما لتقديم هدية لوالدهما بمناسبة عيد ميلاده التاسع والأربعين. كانت الفتيات متحمسات بعد يوم طويل: فقد ذهبن في نزهة على الثلج المتساقط حديثاً، ثم خرجت العائلة لتناول العشاء، بحسب تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
بعد أربع ساعات، لقت يوردانور (15 عاماً)، مصرعها إثر انهيار سقف منزلهم في مدينة أنطاكية خلال أحد أقوى الزلازل التي تضرب المنطقة منذ 100 عام. وبعد مرور ما يقرب من أسبوع، كان لا يزال جسدها يرقد تحت الأنقاض، بينما جلس والداها ليلاً ونهاراً، مثل آلاف العائلات الأخرى، ينتظران المساعدة.
في نحو الساعة الرابعة من صباح يوم الإثنين 6 فبراير/شباط، بدأ المنزل يهتز. واستيقظت يوردانور، الابنة الكبرى، أولاً وصرخت. وأمسكت الأم نزهات ابنتها الصغرى زينب آدا وسحبتها من السرير، بينما ركض الأب، ميتي، إلى غرفة المعيشة وطلب من يوردانور، التي كانت تقف في الممر، أن تذهب إلى والدتها. وما كادت تخطو نحو غرفة نوم والديها حتى انهار السقف.
وقالت نزهات، التي أُنقِذَت هي وابنتها الصغرى بفضل خزانة ملابس سقطت عليهما وحمتهما من الحطام: "لو قطعت خطوات قليلة أخرى لكانت نجت". وعبر الظلام، كان بإمكان نزهات رؤية الخطوط العريضة الباهتة لرأس يوردانور وذراعيها، وهي ممتدة في الردهة، وقد انسحقت تحت الأنقاض.
وقالت: "كنت أمسك في إحدى يدي ابنتي، وكانت على قيد الحياة، وعلى الجانب الآخر كانت ابنتي الأخرى ميتة تحت الأنقاض. حاولت الوصول إليها وإخراجها، لكنني لم أستطِع تحريكها".
وباستخدام الهاتف الذي كان يُشحَن بجانب سريرها، أرسلت نزهات رسالة إلى الأصدقاء في إسطنبول، والذين اتصلوا بعائلتها في أنطاكية. وبعد ظهر يوم الإثنين 6 فبراير/شباط، أي بعد 12 ساعة من وقوع الزلزال، أخرجها شقيق زوجها أحمد كانلي وزينب آدا بيديه.
وعقب 6 ساعات، وجدوا الأب ميتي مصاباً في رأسه وبالكاد واعياً، وسحبوه للخارج أيضاً. وقالت نزهات: "كانت لدينا حياة مختلفة للغاية. ثم تغير كل شيء". وانتظرت هي وزوجها أمام المنزل المُدمَّر لليوم الخامس؛ لاستعادة جثة يوردانور.
وقالا إنهما بمجرد انتشال جثمانها، سوف يغادرون إلى أي مكان آخر غير هذه المدينة التي لم يعُد لها وجود. وسيخبرون زينب آدا، التي لا تزال تعتقد أنَّ أختها في المستشفى، بأنَّ يوردانور ماتت.
أنطاكية التي دمرها الزلزال
في أنطاكية، وهي واحدة من أجمل مدن تركيا، لم يعُد هناك مبنى واحد صالحاً للسُّكنى؛ حيث صار بعضها يقف على زوايا عبثية، والبعض الآخر متدلٍّ في الشوارع أو مستلقٍ على جوانبه، وبخلاف ذلك، هناك مبانٍ سقطت تماماً مثل اللبنات اللعبة. وفي أماكن أخرى، حيث كانت منازل تقف قبل بضعة أيام، لم يبقَ منها سوى قضبان فولاذية ملتوية وصخور وغبار وكومة من الأنقاض بارتفاع الرأس.
وولّت أنطاكية، التي يبلغ عدد سكانها 200000 نسمة، حيث كان الناس قبل أسبوع يتزاحمون في المطاعم. لكن الآن لا يوجد حمام واحد يعمل، ولا ماء ولا تدفئة في الشتاء القارس. ويجلس الناجون في حالة ذهول في مجموعات صغيرة بالقرب من أنقاض منازلهم، ويدفئون أنفسهم بالنيران المصنوعة من الأبواب المكسورة والزجاجات البلاستيكية.
وقد تخلوا عن الأمل في حدوث معجزات، وكل ما يريدونه الآن هو دفن موتاهم. لكن لا يزال هناك آلاف غير معروفة من الجثامين تحت الأنقاض، ولا أحد يعرف متى قد تأتي المساعدة. ومن حين لآخر تُسمَع صرخات الثكلى وهي تعلو فوق صوت الجرافات وصفارات الإنذار.
في كثير من الأحيان، يسحب رجال الإنقاذ الجثث من تحت الأنقاض، ويلفونها في أكياس أو بطانيات سوداء، ويأخذونها بعيداً في شاحنات صغيرة تمر على الطرق المُدمَّرة. وصارت المدافن في البلدة إما مدمرة وإما ممتلئة، ويُدفَن الموتى في حقل خارج المدينة، في قبور عليها أرقام مكتوبة على ألواح من الخشب.
وفي حظيرة مجاورة للمقبرة المؤقتة، يضع العاملون الطبيون توصيفاً للجثث؛ حتى يمكن التعرف عليها لاحقاً: امرأة حامل شعرها البني مغطى بالغبار، وفتاة صغيرة لا تزال ترتدي بيجامتها الوردية، وصبي يرتدي جوارب مخططة يبدو كأنه نائم.
وقد دُفِن بعضهم أحياء عندما ضرب الزلزال. تحكي سيدة عن شقيقة زوجها التي حوصرت في منزلها مع ابنتها البالغة من العمر عشرة أشهر، بين ذراعيها. وفي الليلة الأولى، تمكنت عائلتها من التحدث إليها عبر الأنقاض. وكانوا ينتظرون وصول المساعدة، حتى يتمكن أحدهم من إخراجهم. واتصلوا بالجميع وفعلوا كل ما يخطر ببالهم.
لكن لم يأتِ أحد. وانخفضت درجات الحرارة إلى أقل من درجة التجمد، وبدأ المطر في الهطول. وبعد 24 ساعة، صرخت الأم بأنَّ طفلها لا يفيق. وفي النهاية، انتُشِلَت الأم وهي على قيد الحياة بينما لا تزال تحمل طفلها الميت.
دُفِن 21 شخصاً تحت الزجاج المهشم وقطع الخرسانة من منزل يوردانور المُحطَّم، لكن رجال الإنقاذ لم يَصلوا إلى هناك بعد. لذا استأجر أحد السكان والذي سُحِق أطفاله الثلاثة تحت المبنى المنهار، حفاراً لإخراجهم هم وجيرانهم. وقالت والدة يوردانور، نزهات: "هي هناك، لن أرحل حتى نُخرِجها".
الأب أنقذ ولديه وزوجته بجسده
كان حسن ونجوى حبيبين يعيشان في سوريا، وبعد لجوئهما إلى تركيا، بنيا حياةً بعيدة عن الخطر. ثم في ظلام 6 فبراير/شباط انهار كل شيء، حين بدت الأرض كأنها تزأر والجدران والسقف انهارت فوقهما. تتذكر نجوى (27 عاماً)، الاستيقاظ لتجد جثة حسن (37 عاماً)، ملفوفة حولها. وحتى في الموت، أنقذها هي وطفلهما الأصغر، ماجد، الذي كان لا يزال نائماً بين ذراعيها.
ويوم الجمعة 10 فبراير/شباط، استلقت نجوى، الملتفة تحت بطانية من الصوف، وظهر عليها الارتباك، وعيناها داكنتان من التعب. وقالت بصوت خافت: "لقد مرت خمسة أيام. من الصعب تصديق ذلك".
أسفرت الزلازل التي وقعت يوم الإثنين 6 فبراير/شباط، عن مقتل أكثر من 28 ألف شخص، وهو رقم يكاد يكون من المستحيل فهمه. ومع تلاشي الصدمة الفورية، بدأ حجم المأساة الإنسانية يتضح. لا أحد يعرف عدد الجثث التي ما زالت تحت الأنقاض. والعديد من الناجين لا يعرفون الحقيقة الكاملة عن مدى خسارتهم.
وفي الوقت الذي تحزن فيه نجوى على زوجها، لم يكن لدى عائلتها الشجاعة لإخبارها عن ابنها الأوسط محمد البالغ من العمر 10 سنوات. فعندما بدأت الأرض تهتز في بلدة الإصلاحية الجبلية، قفز ابنها الأكبر، منير البالغ من العمر 12 عاماً، من النافذة وهرع في الشوارع لنشر الأخبار إلى والد نجوى وإخوتها، الذين هرعوا إلى مكان الحادث.
لكن تحت ستار الظلام، وبدون سيارات الإنقاذ، كان أقاربها عاجزين عن رفع كتل البناء عمّا تبقى من غرفة النوم. ومع حلول النهار، رأوا جثة حسن محطمة بجانب نجوى. وعندما تمكنوا من الوصول إلى يدها من خلال حفرة في الأنقاض، وجدوها في حالة حزن شديد.
ويسترجع ابن عمومتها مصطفى شيخ، حسبما نقلت صحيفة The Washington Post: "كنت متأكداً أنها لن تنجو. كانت في حالة هيستيرية، وظلت تصرخ بأنَّ حسن وولديها قد ماتوا. أرادت أن نتركها هناك، وأن تدفنها الحجارة أيضاً".
واستغرق وصول سيارات الإنقاذ ساعات، وعلماً بأنه يتعين عليهم إبقاء نجوى واعية، جلس أقاربها معها في نوبات، وأخذوا يفركون يدها ويحاولون تشتيت انتباهها بقصص عن سوريا. لكن بعد ذلك قاطعهم صوت من مكان ما، أعمق تحت الأنقاض. كان محمد، يقول لهم إنَّ ظهره يؤلمه.
اتساع نطاق الدمار وعدم وجود معدات حفر كافية للتنقل فاقما حجم المأساة. ففي كل من تركيا وسوريا، لقي أشخاصٌ حتفهم أثناء إزالة معدات بدائيةٍ الخرسانات والركام من على الناجين. وبدون الأدوات المناسبة، استغرق الأمر ساعات لإنقاذ نجوى أولاً، ثم محمد.
وأصيبت ساق نجوى بجروح بالغة ونُقلَت إلى المستشفى. بينما خرج محمد من تحت الأنقاض مبتسماً. وقال عمه مصطفى إيبش: "نعتقد أنه كان في حالة صدمة. لم ندرك حينها أنَّ هناك خطأً ما".
ولم ترغب أسرة نجوى، التي كانت بالمستشفى على مدى أيام، في إثارة قلقها. لكنها كانت تزداد توتراً بالفعل؛ فقد بدأت ساقها المتضررة تتحول إلى اللون الأسود. ونُقِل محمد إلى المستشفى دون إخبارها، وفحصه طبيب تلو آخر قبل تشخيصه بأنه أصيب بفشل كلوي.
وبحلول يوم الجمعة 10 فبراير/شباط، وُضِع على أجهزة الإنعاش. ويقول الأطباء إنه يعاني من تلف شديد في الدماغ ولا يتوقعون أن يتعافى. وتسأل نجوى عنه كثيراً من سريرها في المستشفى، لكن لم يخبرها أحد بالحقيقة، ولا أحد يعرف كيف يفعل ذلك.
وهي معضلة تواجه عدداً لا يُحصَى من العائلات في جميع أنحاء جنوب تركيا وشمال سوريا، حيث يحاول الأقارب حماية أحبائهم المفجوعين من مزيد من الألم. ففي بلدة جندريس السورية، أجرت صحيفة The Washington Post مقابلة مع أبوين فقدا أبناءهما تحت الأنقاض. كلاهما كانا لا يزالان يبحثان عن الكلمات ليقولاها لبناتهما.
وفي بلدة الإصلاحية التركية، لم يرَ ابنا نجوى الآخران والدتهما منذ أن غادرت إلى المستشفى. وعندما سأل ابنها منير أقاربه عن مكان والده، قالوا له إنه في رحلة عمل. والآن توقف الولد عن السؤال.
قال عمه مصطفى للصحيفة الأمريكية: "نحاول فقط إحاطتهما بأقاربهما طوال الوقت، ومعاملتهما مثل الملوك الصغار، لكن هذا ليس بالأمر السهل". وبسبب الدمار الذي لحق بمنازلهم، يعيش أفراد الأسرة معاً تحت القماش المشمع.