سعى صدام حسين إلى تجفيفها وتهجير أهلها قبل نحو 3 عقود، والآن تكاد أن تحتضر بفعل التغير المناخي، فما قصة أهوار العراق التي أعلنتها اليونسكو أحد مواقع التراث العالمي؟
تناول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية قصة المأساة البيئية التي تضرب الأراضي الرطبة المميزة في العراق، التي أنشأت المجتمعات الزراعية منذ فجر الحضارة وباتت الآن تحتضر حرفياً.
إذ يعتبر تدمير ما يقرب من 3 آلاف كيلومتر مربع من هذا النظام البيئي الفريد من نوعه مثالاً صغيراً على الكارثة البيئية غير المسبوقة التي يشهدها العراق. وباتت الأنهار والبحيرات آخذة في الجفاف وتراجع احتياطي المياه في البلاد بمقدار النصف، بينما تُقدّر وزارة الموارد المائية العراقية أنَّ البلاد ستفقد ربع مياهها العذبة خلال العقد المقبل.
البحيرات والأنهار تتحول إلى بِرك ومستنقعات
تسبَّب موسمان جفاف متتاليان في محافظة الموصل والمناطق المحيطة بها، التي تعتبر سلة غذاء العراق، في تحويل مساحات كبيرة من حقول القمح والشعير إلى أراضٍ قاحلة، وهو ما أدَّى إلى خسارة ما يقرب من 90% من محصول آخر موسم حصاد. يعتقد مسؤولون عراقيون أنَّ هذا الوضع سيستمر حتى الموسم المقبل.
بدأ المزارعون في حفر الآبار بعد جفاف القنوات والأنهار، لكن الاستخدام غير المُنظّم للمياه الجوفية أدَّى إلى انخفاض حاد في جودة ومستويات المياه. على سبيل المثال، تسبَّب الحفر غير القانوني للآبار في اختفاء بحيرة "ساوة" بالكامل الواقعة في مدينة "السماوة" جنوبي العراق.
في الوقت نفسه، باتت العواصف الرملية، التي تضرب المدن وتؤدي إلى تآكل التربة، حدثاً متكرراً نتيجة الجفاف وتقلّص الغطاء النباتي –تفقد العراق سنوياً 40 ألف هكتار (100 ألف فدان) بسبب التصحر.
أدَّى الجفاف إلى نزوح عشرات الآلاف من المواطنين ودفع المزارعين إلى هجر أراضيهم والانتقال إلى أطراف المدن الكبرى، وهو ما أجهد البنية التحتية المتداعية بالفعل وأحدث مزيداً من الدمار للأراضي الزراعية وفاقم مشكلة التصحر. يخلق التنافس على المياه والحفر غير المنظم للآبار نزاعات محلية قابلة للتحول إلى صراعات أكبر، في بلد يعاني من وضع أمني هش وتنتشر فيه الأسلحة والميليشيات المسلحة.
ورصد تقرير الصحيفة البريطانية كيف جلست مجموعات صغيرة من الجاموس مغمورة بالمياه الموحلة وارتفعت ظهورها على سطح المياه مثل سلسلة من الجزر الصغيرة السوداء تمتد على نهر "أم الطوس"، أحد روافد نهر دجلة الذي يصب في هور الحويزة في جنوب العراق.
حدقت مجموعة الجاموس بأعينها السوداء في قارب يتحرك باتجاهها، رافضة التزحزح قيد أنملة. صاح فيها سائق القارب، فابتعدت واحدة أو اثنتان بضع خطوات أتاحت بالكاد مساحة كافية للتحرّك بالقارب وسط تلك المجموعات من جاموس الأهوار.
كان هناك مركز ثقافي على الضفة اليمنى للنهر مبنيّ على الطراز التقليدي لجنوب العراق ويستضيف السائحين العراقيين ومجموعات الأجانب، الذين توافدوا لزيارة منطقة الأهوار منذ إدراجها في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو عام 2016.
تباطأ محرك القارب على بُعد بضع مئات من الأمتار من المركز الثقافي وتعثَّر قاع القارب في الوحل، حيث تضاءل النهر إلى مستنقع ضحل.
اختفت أيضاً خضرة أوراق الشجر على ضفتَي النهر ليظهر مشهد مدمر؛ حيث ما كان قبل عامين مساحة كبيرة من المياه الزرقاء -التي تعج بالحياة البرية والأسماك- وموطناً لقطعان كبيرة من جاموس الماء تحوَّل إلى صحراء خاوية تتناثر فيها فقط بعض الشجيرات الشائكة.
ما أسباب الكارثة التي حاقت بأهوار العراق؟
تعود تلك الكوارث البيئية إلى أسباب متعددة ومترابطة تشمل ارتفاع درجات الحرارة وانخفاضاً قياسياً في هطول الأمطار بسبب أزمة المناخ والتراجع الكبير في كمية المياه المتدفقة إلى العراق من دول المنبع، التي تقلصت بنسبة 60%.
ووفقاً للتقرير السادس لتوقعات البيئة العالمية (GEO-6) الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يُصنّف العراق على أنَّه خامس دولة في العالم معرضة لخطر مواجهة أزمة غذاء وفقدان الوصول إلى المياه بسبب الانخفاض القياسي في مستويات المياه وارتفاع درجات الحرارة. يُقدّر البنك الدولي أنَّ متوسط درجات الحرارة سيرتفع بمقدار درجتين مئويتين وسينخفض هطول الأمطار بنسبة 9% بحلول عام 2050.
تضاعف خلال العقدين الماضيين عدد سكان العراق، الذين يعتمدون كلياً على نهري دجلة والفرات جنباً إلى جنب مع أنهار أخرى أصغر لأغراض الري والشرب والصرف الصحي. لكن في بلد يستطيع فيه الفساد وسوء الإدارة تحويل الوضع المأساوي إلى كارثي، تتسبب أساليب الري البالية والبنية التحتية المتهالكة في إهدار وتلويث أي مياه متبقية.
كتب الرحّالة البريطاني، ويلفريد ثيسيجر، الذي عاش وسط عرب الأهوار (المعروفين باللهجة العراقية باسم "المعدان") في خمسينيات القرن الماضي، "لقد بدأ التاريخ البشري في العراق على حافة منطقة الأهوار". كان المرء يستطيع في ذلك الوقت الإبحار في شبكة الأنهار والقنوات والبحيرات عبر أهوار جنوب العراق، التي كانت موطناً لتنوع بيولوجي استثنائي.
طوال هذه العقود، رأى المسؤولون الحكوميون -من الضابط الاستعماري البريطاني إلى الحرس الجمهوري لصدام حسين- في تلك الأهوار الكثيفة وشبكة القنوات المذهلة الشبيهة بالمتاهة ملاذاً للخارجين عن القانون والمعارضين للسلطة المركزية، بدايةً من العبيد الأفارقة المتمردين في القرن الـ9 إلى المعارضين في العصر الحديث، إلى جانب مجموعات الفارين من التجنيد الإجباري.
قال الدكتور حسن الجنابي، الخبير البيئي ووزير الموارد المائية السابق، إنَّ "تأثير تغير المناخ يضاعف حجم التهديد. لكن الوضع، في جوهره، هو كارثة من صنع الإنسان كانت فيها الأهوار ضحية واضحة بسبب سوء فهم الأهمية الثقافية للمنطقة ومناخها الفريد".
وأضاف: "يُعد تدمير الأهوار جزءاً من الانحياز التقليدي للمدينة على حساب الريف -لاسيما منطقة الأهوار، التي كان سكانها ضحايا دائمين للتمييز والنظرة الدونية بسبب عملهم في تربية الجاموس".
ثمة مئات الأنهار غير القانونية التي يتحول مسار مياهها إلى أراضٍ تابعة لأصحاب نفوذ؛ لكي يستخدمونها في ري أراضيهم أو مزارع الأسماك الخاصة بهم.
تُحدّد وزارة في بغداد حصص المياه المُخصّصة لاحتياجات الري لكل محافظة، حيث تستهلك الزراعة الحصة الأكبر من المياه -ما يقرب من 65%. أدَّى الجفاف الشديد إلى زيادة المنافسة على حصص المياه، ومن ثمَّ يتقرَّر التضحية بمصالح المجتمعات الأضعف -مثل سكان الأهوار- لصالح المجتمعات الأقوى.
قال الجنابي: "هذه جريمة تحدث أمام أعيننا. سكان الأهوار هم السلالة التاريخية الحقيقية لبلاد ما بين النهرين، لكن تلك المجموعات التي عاشت هنا منذ آلاف السنين ترى ممارسات طمس أسلوب حياتها لصالح مزارعي الأرز، الذي في الواقع ليس له أي تأثير اقتصادي؛ لأنَّنا نستورد 95% من استهلاكنا من الأرز".
لماذا تَبدَّد أمل إحياء الأهوار؟
تتكرر مشاهد الجفاف والدمار في أهوار الجبايش -الأهوار الوسطى في حوض نهر الفرات- حيث ما كان في يوم من الأيام شبكة ممتدة من الأهوار قد تقلّص اليوم إلى عدد قليل من البرك المعزولة ذات المياه الراكدة والرائحة الكريهة الناجمة عن التلوث الشديد والأسماك الميتة. باتت القوارب الطويلة الأنيقة، التي كانت ذات يوم تغوص في المياه، ملقاة الآن على جوانبها مغطاة بالطين الجاف.
على حافة إحدى هذه البرك، احتمى عبد الستار ونجلاه من الحرارة الشديدة في غرفة طينية صغيرة. قدَّم الابن الأكبر، وهو شاب نحيف في العشرينات من عمره، الشاي بينما يتحدث والده عبد الستار عن تأثير الجفاف. قال عبد الستار إنَّ "العشرات من جاموسه قد نفقت خلال الأشهر القليلة الماضية وما تبقى صار نحيلاً للغاية إلى درجة لا يمكن بيعه".
وأضاف: "اعتاد الجاموس على الخروج في مساحات الرعي ليتغذى على القصب الأخضر والنباتات الأخرى ولا يعود إلا للحلب. لكن الآن يتعيَّن عليَّ إطعامها. تحتاج كل واحدة منها نصف طن من العلف أسبوعياً، لكنني بالكاد أستطيع تحمُّل تكلفة نصف تلك الكمية".
يرفض الجاموس شرب المياه شديدة التلوث حتى عندما يجد بِركاً طينية صغيرة لكي ينغمس فيها. أشار عبد الستار نحو زير ماء أمامه، قائلاً إنَّه اضطر إلى القيادة إلى البلدة المجاورة لشراء مياه للشرب تقاسمها بين عائلته وجواميسه.
جفت الأهوار، التي كان يعيش فيها عبد الستار وعشيرته ويربون الجاموس، في عام 1994 بعد حملة صدام حسين لتجفيف الأهوار. كان شاباً آنذاك ورافق عائلته في توجههم شمالاً ليجدوا مأوى على ضفاف نهر دجلة جنوب بغداد، ثم عاد بعد سقوط النظام وأصبح إحياء الأهوار أولوية سياسية.
قال عبد الستار: "كان أمل إحياء الأهوار هو فقط ما حلمنا به بعد تغيير النظام، لكن هذا الأمل قد تبدَّد الآن"، مضيفاً أنَّ عشيرته عاشت جيلاً بعد جيل مع هذه الجواميس العزيزة جداً على قلوبنا".
وأضاف: "هذه الجواميس تعني الكثير بالنسبة لنا. نتألم عندما نراها تمرض وتحتضر أمام أعيننا. أقسم أنَّني إذا كنت أتقن أي عمل آخر، لكنت مارسته؛ لكن أنا ووالدي وأجدادي لم نعرف شيئاً سوى كيفية تربية الجاموس".
كارثة تضرب الزراعة
توظف الزراعة، التي تسهم بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي للعراق، ما يقرب من خُمس القوة العاملة في البلاد وتربط الناس بأراضيهم وتساهم في الحفاظ على الغطاء النباتي اللازم لتقليل تأثير العواصف الرملية وتآكل التربة والاحترار العالمي.
ومع ذلك، يدفع الجفاف وما تلاه من تدهور المحاصيل آلاف الأسر إلى هجر أراضيها. وفقاً لتقديرات منظمة الهجرة الدولية، تخلَّت 20 ألف أسرة عن أراضيها واتجهت إلى المدن الكبرى منذ عام 2021.
أشار كرار، الذي يسكن في حي صغير شمالي مدينة البصرة، إلى أنَّه أدرك قبل سنوات قليلة أنَّ الزراعة تحتضر في قريته الواقعة شمال هور الحويزة؛ حيث كانت مستويات المياه تتناقص واضطر إلى استخدام مضخة ديزل لري حقوله.
وأضاف كرار، الذي يعيش مع عائلته في كوخ صغير مبنيّ من كتل إسمنتية وسقفه –مثل بقية منازل جيرانه- مصنوع من صفائح معدنية وبلاستيكية مثبتة بكتل أحجار كبيرة: "دفعنا الأموال على الغاز من أجل تشغيل مضخات المياه.. أصبحنا نتضور جوعاً".
لذا، قرَّر بيع ما يملكه من رؤوس ماشية وانتقل إلى هذا الحي، في محاولة لكسب لقمة العيش. يعمل كرار الآن عاملاً بأجرة يومية. أكَّد كرار للصحيفة البريطانية أنَّه كان محظوظاً، لأنَّه استطاع بيع ماشيته والانتقال قبل أن تضرب المنطقة أسوأ موجة جفاف، قائلاً: "يتصل إخوتي بي الآن ويقولون إنَّهم يتمنون لو كانوا قد غادروا وانتقلوا معي عندما قررت الرحيل، لأنَّه لا أحد الآن يريد شراء جواميسهم النحيفة للغاية".
أشجار النخيل الذابلة والجاموس
تتخذ الكارثة البيئية شكلاً مختلفاً في "السيبة"، أقصى جنوب العراق على الضفة الغربية لشط العرب -الممر المائي الذي شكَّله التقاء نهري دجلة والفرات وكانت بساتينه وحقوله الخصبة موطناً لمزارع أشجار النخيل الكثيفة لعدة قرون.
أصبحت "السيبة" ساحة قتال خلال حرب العراق مع إيران. حُفرت الخنادق وامتدت حقول الأسلاك الشائكة ودمر القصف المدفعي والدبابات مزارع النخيل ومات الآلاف من الجنود العراقيين والإيرانيين. ومع ذلك، بعد نهاية الحرب، عاد الناس وبدأوا في إعادة زراعة أراضيهم ونجحوا في إحياء العديد من بساتين النخيل.
قال مزارع من المنطقة يُدعى رضا، وهو يشير إلى مصفاة النفط "عبادان" عبر الممر المائي: "لن تستطيع رؤية تلك المصفاة إذا كنت قد أتيت إلى هنا في التسعينيات".
بدأت الأمور تتغير بعد عام 2004 عندما انخفضت مستويات المياه المتدفقة من نهري دجلة والفرات. قال أحد مسؤولي الناحية: "كانت السيبة منطقة منكوبة منذ عام 2009 واختفت معظم أراضينا الزراعية بسبب الارتفاع الكارثي في ملوحة المياه".
تتسبب الملوحة العالية في المياه المتدفقة بشكل طبيعي عبر قنوات الري في ذبول أشجار النخيل. قال المسؤول: "خصَّصت الدولة تعويضات للمزارعين في عام 2012، لكن لم يحصلوا عليها حتى الآن".
توقف مشروع ضخم مقترح لتحلية المياه منذ سنوات، حيث اتهم السياسيون في بغداد والبصرة بعضهم البعض بتلقي عمولات ورشاوى. أشار المزارع رضا إلى مجموعة من أشجار النخيل في بستانه، قائلاً: "ذبلت العديد من أشجار النخيل الثمينة بسبب المياه الملوثة وفقدت أغصانها الطويلة".
وأضاف: "لم يتبقَّ لدينا في المنطقة الآن سوى أقل من 10 آلاف نخلة، من أصل مليون نخلة في سبعينيات القرن الماضي".
تحدث رضا عن كارثة بيئية أخرى تضرب المنطقة مُتمثّلة في تدفق قطعان كبيرة من الجاموس. عندما دمر الجفاف العديد من مناطق الأهوار، نقل عرب الأهوار قطعان ماشيتهم إلى هنا لتستقر وسط الحقول وتغوص في المستنقعات وقنوات الري الراكدة الآن. باتت تلك الجواميس تُشكّل خطراً حقيقياً على المزارعين.
قال رضا: "إنَّها أسوأ من الطاعون.. إنَّها تدمر الأرض.. لقد سمح لها أصحابها بالتجول بحرية. تقتحم تلك الجواميس بساتيننا وتتغذى على شجيرات النخيل الصغيرة ولا يمكن لأي سياج الوقوف في وجهها بسبب كثرة أعدادها وضخامتها".
يؤدي الانهيار البيئي إلى تفاقم التوترات القديمة بين عرب الأهوار المدججين بالسلاح والمزارعين. قال رضا: "إذا قتل المزارعون جاموساً تابعاً لهم، فإنَّهم سيأتون مسلحين لقتالنا ونحن لا نستطيع التصدي لهم.. لا يوجد مَن يستطيع إنقاذنا الآن سوى الجيش".