تعاونتا بتطوير طائرة مشتركة، وأسستا عدم الانحياز.. لماذا نجحت الهند وتعثرت مصر، رغم تشابه البدايات؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/01/26 الساعة 12:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/26 الساعة 12:16 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يصافح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في نيودلهي عام 2016/رويترز، أرشيفية

 تشابه البدايات واختلافات النهايات بين مصر والهند يبدو لافتا، بل كان مستقبل مصر يبدو واعداً أكثر بعد استقلال البلدين، حتى إنها قدّمت لنيودلهي محركاً لأول طائرة هندية، ولكن اليوم الهند تقف على أعتاب نادي القوى العظمى، بينما القاهرة تتلقى قرضها الثالث من صندوق النقد، فما سر اختلاف المآلات بين البلدين؟

يمكن رصد الفارق بين تجربتي مصر والهند، من الوقوف عند حقيقة أن مصر قد تكون أول زبون خارجي للمقاتلة الهندية المتطورة هيل تيجاس ذات الرادار الإسرائيلي، وقد تكون هذه الصفقة إحدى محاور زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الأخيرة للهند، رغم أن القاهرة سبقت نيودلهي بعقود في إنتاج أول طائرة أسرع من الصوت، وأن أول طائرة هندية نفاثة طارت بمحرك مصري.

كاريزما عبد الناصر طغت على حكمة نهرو عند تأسيس حركة عدم الانحياز

عندما وقف الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع رئيس الوزراء الهندي جولال نهروا، والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو، واليوغسلافي جوزيف تيتو، في مؤتمر باندونغ (المؤتمر الآسيوي– الإفريقي)، في إندونيسيا في أبريل/نيسان 1955، الذي دشن تأسيس حركة عدم الانحياز، الداعية للحياد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كانت مصر تبدو دولة صغيرة بجوار الهند، وكان عدد سكانها أقل من العديد من ولاياتها.

ولكن كاريزما عبد الناصر كانت أقوى، وكلماته وتأثيره كانا أكثر دويّاً في العالم العربي وإفريقيا، وحتى آسيا وأمريكا اللاتينية، وأكثر إثارة لغضب الغرب، ولفتاً لانتباه الاتحاد السوفييتي.

مقارنة بين تجربتي مصر والهند
القادة المؤسسون لحركة دول عدم الانحياز، في مؤتمر باندونغ 1955/ wikimedia commons

وبينما جسّد نهرو حكمة الهند، المتواضعة المرتبكة بفقر البلاد وتنوعها الإثني، جسّد عبد الناصر حيوية مصر العربية الفرعونية الثرية، بنيلها وأرضها الخصبة، ومجتمعها الفريد في تجانسه، ودورها العربي الإفريقي الإسلامي، الذي لا يضاهيه أحد.

فبدت مصر بعاصمتها القاهرة، التي كانت أقرب في جمالها للمدن الغربية، أنها تمثل مستقبل العرب الواعد، بالتفوق على نظرائهم من شعوب آسيا وإفريقيا، بما فيها الهند.

مصر سبقت الهند في نيل الاستقلال حتى لو كان جزئياً

لم يبدأ الاقتران بين تجربتي مصر والهند في عهد عبد الناصر ونهرو، بل بدأ قبل ذلك بعقود، خلال كفاح البلدين المُلهم ضد الاستعمار البريطاني، الذي جثم على البلدين، فقاد المهاتما غاندي في الهند نضالاً يقوم على اللاعنف، لا يختلف كثيراً عن نضال سعد زغلول، قائد ثورة 1919، القائم على السياسة ذات التوجهات الليبرالية ذات النزعة القانونية.

حققت مصر تفوقاً على الهند في ذلك الوقت، حيث منحتها بريطانيا عبر تصريح 22 فبراير/شباط 1922، قدراً من الاستقلال النسبي، الذي جعلها سلطنة ومملكة مستقلة من الناحية الرسمية، حتى لو استمر وجود الاحتلال، خاصةً في منطقة القناة، واستمرار التدخل البريطاني في الشؤون المصرية.

 ولكن وطأة الاحتلال المباشر، وما يصاحبه من عنصرية كما كان في الهند التي كان يحكمها ضباط بريطانوين، تراجعت في مصر إلى حد كبير.

سبقت الهند مصر في الاستقلال الكامل، عام 1946، ولكنه استقلال بدا قاتماً مع انفصال باكستان (باكستان وبنغلاديش الآن)، وما صاحبه من فتن طائفية بين الأقلية المسلمة الكبيرة وبين الأغلبية الهندوسية.

كان البلدان لديهما نظامان متشابهان، نظام دستوري برلماني في الهند، يعاني من مخلفات الاستعمار والانفصال والتخلف والفقر والتنوع الإثني، ونظام دستوري برلماني شبه ديمقراطي، يُقلل من استقلاله سلطة ملكية تحاول أن تكون مستبدة، واحتلال إنجليزي يدّعي أنه ليس احتلالاً.

لم يكن قد ظهر لمصر بعدُ إسرائيل، العدو الذي أرّق مضاجعها ومضاجع العرب جميعاً في عام 1948، واستعمار القناة ظل موجوداً حتى 1956.

البداية من النكبة

كانت حرب 1948 بداية الافتراق، أدت الحرب لغضب شعبي تركز في أوساط العسكريين، الذين ساءهم الأداء العسكري المترهل للجيوش التي قادوها أمام ما كان يُعرف بالعصابات الصهيونية، ولكن هذه العصابات هزمت جيش أكبر دولة عربية، ومعها جيوش أربع دول عربية أخرى، والمقاومة الفلسطينية التي كانت قد وُلدت على عجل.

غضبة صغار العسكريين المصريين من سوء الإدارة الملكية، وارتباك الأحزاب، جعلهم ينظمون بقيادة الضابط الشاب جمال عبد الناصر حركة الضباط الأحرار، للإطاحة بالملكية وفوضى النظام شبه الديمقراطي، وأيدت طوائف كثيرة من الشعب الحركة، خاصةً بعد ظهور وجهها الثوري القومي، وإصلاحاتها الرامية لإنهاء الفروق الطبقية الشاسعة في المجتمع، وبناء مجتمع حديث.

عبد الناصر أدخل تغييرات ردايكالية رغم أن مشكلات مصر كانت أقل من الهند

بدا عبد الناصر بقراراته الحاسمة أكثر فاعلية من النموذج الهندي المتباطئ بقيادة نهرو، الذي رغم أيديولوجيته المتجهة نحو اليسار فضل التعامل بحذر مع الفروقات الطبقية والمالية والاجتماعية الهائلة في الهند، والتي تفوق مصر بمراحل، خاصة أنها فروق لها طابع ديني.

فالطبقية في الهند ليست فجة فقط في ضخامة الفجوة بين المهراجات والإقطاعيين ورجال الأعمال وبين الفلاحين الفقراء، الذين كانوا أفقر كثيراً من أقرانهم المصريين (بل كانوا من الأفقر في العالم).

بل كانت الطبقية في الهند مرتبطة بين اختلاف الأعراق التي تشكلت عبر الهجرات المتنوعة في البلاد، وتحولت لطابع ديني عبر الديانة الهندوسية، التي تكرس في شمال الهند سيادة الطبقات الراقية (مثل البراهمة)، الفاتحة البشرة، المنحدرة من الهجرات الآرية (الأندوإيرانية)، على الطبقات المهمشة مثل طبقة المنبوذين، التي يعتقد أنها منحدرة من الشعوب الأصلية الدرافيدية داكنة البشرة.

كان التناقضات في الهند لا مثيل لها، شمال يغلب عليه شعوب فاتحة البشرة، وجنوب من الدرافيديين داكني البشرة، عشرات اللغات القوية، كل منها لها تراثها الخاص، ولغة إنجليزية نخبوية طاغية، ولغة سميت هندية أريد لها الانتشار، رغم أن قاعدتها تقتصر على جزء من الشمال.

أغلبية هندوسية متطلعة، وأقلية مسلمة كبيرة كانت تحكم البلاد يوماً، وشاركت في نضال من أجل الاستقلال، وأقلية سيخية أصغر ترى نفسها مميزة، ويريد بعض أفرادها الاستقلال.

قلة ضئيلة فاحشة الثراء، وأغلبية هائلة تعيش فقراً لا مثيل له.

وضع مصر كان أفضل

كانت التناقضات في مصر أقل من ذلك بكثير، طبقة التجار والرأسمالين الأجانب التي تراجعت امتيازاتهم كثيراً قبل ثورة يوليو (تموز)، وأخرى أهم من الإقطاعيين، ينحدر كثير منهم من أصول تركية ومملوكية، مع قطاع كبير من أبناء زعامات القبائل العربية، والعمد، ولكنها هذه الطبقة تمصرت تماماً، وشكّلت ثقافة عربية مصرية متأثرة بالغرب، وبقليل من الجذور التركية التي تخبو رويداً رويداً.

وطبقة وسطى صاعدة نسبتها أكبر من طبقة الهند الوسطى، والفجوة بينها وبين طبقة الإقطاعيين أقل كثيراً من الهند، ولكن طموحاتها وغضبها أكبر أيضاً، وهو الغضب الذي جسده عبد الناصر.

بمشرط جراح، حطّم عبد الناصر النظام الإقطاعي القديم، الذي كان قد بدأ قبل ثورة يوليو، يتحول ليصبح رأسمالياً حديثاً، وأسس ناصر مجتمعاً اشتراكياً يخلو من طبقة الأثرياء، قوامه طبقة وسطى صاعدة، ويقوده ضباط شباب مفعمون بالحيوية، يحاولون أن يلبوا احتياجات الفلاحين بقرارات ثورية جذرية، رغم أنهم بدأو للتو يتبنون نمط حياة شبه أرستقراطي.

الهند لجأت لإصلاحات تدريجية وحافظت على الديمقراطية

ولكن خيار الهند كان مختلفاً، رغم تأثر حزب المؤتمر الحاكم بالأيديولوجيا اليسارية والشيوعية التي ألهمت عبد الناصر، كما يظهر في رسائل نهرو لابنته في الثلاثينيات، التي يبدو فيها معجباً بالاتحاد السوفييتي وزعيمه المستبد جوزيف ستالين، ولكن لم يطبق سياسته، بل حافظ على الإرث الليبرالي البريطاني، مطعم بالاشتراكية الديمقراطية.

فظلت الهند ديمقراطية نادرة في العالم الثالث، المستقل حديثاً للتو عن الاستعمار، ديمقراطية راسخة رغم أنها تبدو متعثرة أحياناً أمام تناقضاتها الاقتصادية والطبقية والدينية.

كما لم تنفذ الهند عملية تغيير اجتماعي واسعة النطاق، رغم أن إرثها الاجتماعي وفجواتها الطبقية كانت أسوأ كثيراً.

وتمسكت بحيادها، بينما قررت مصر أو أُجبرت على التحالف مع السوفييت

 الهند رغم مناهضتها للاستعمار لم ترفع بوجهه خطاباً عنترياً حاداً كأغلب قيادات العالم الثالثة، ورغم أنها كانت حليفاً للاتحاد السوفييتي، فإنها لم تدخل في عداء مع الغرب والولايات المتحدة (رغم أنها دعمت باكستان إلى حد ما)، لتجسد واقعياً مفهوم عدم الانحياز. 

أما مصر، فقد ظل الغرب يحاربها، حتى بعد جلاء استعماره العسكري كما بدا واضحاً في تآمر بريطانيا وفرنسا مع إسرائيل في العدوان الثلاثي عام 1956، وكما سيظهر لاحقاً في دور الأمريكيين في حرب عام 1967.

إصلاحات حذرة ولكن عميقة في الهند، مقابل أخرى سريعة وحماسية بمصر

لجأت الهند، عكس مصر، لإصلاحات محافظة وغير رنانة، ولكنها أصيلة، وعميقة، وأقل مركزية من التجربة المصرية والعربية.

بموجب الدستور الهندي لعام 1949، مُنحت الولايات صلاحيات سن (وتنفيذ) إصلاحات ملكية الأراضي، الرامية لتوزيع ممتلكات الإقطاعيين على الفلاحين. يضمن هذا الاستقلال الذاتي وجود تباين كبير عبر الولايات، والوقت من حيث عدد وأنواع إصلاحات الأراضي التي تم سنها، نقوم بتصنيف أعمال الإصلاح.

 كان التشريع والتنفيذ يعتمدان على الإرادة السياسية لحكومات الولايات، وبالتالي فإن العملية خضعت لنتائج الانتخابات المحلية، ورغم حدتها أحياناً تجاه كبار الملاك، ولكنها تمت في إطار تمثيل سياسي سمح بوجود صوت لطبقة الملاك.

وفي الصناعة، رغم صعود دور الحكومة الهندية، وشركات القطاع العام، ولكن النظام الديمقراطي كان معناه استمرار وجود شركات القطاع الخاص الكبرى (التي كان كثير منها قد نشأ في عهد الاستعمار البريطاني)، واستمرار مساهمتها في الاقتصاد.

الحكومة المصرية سيطرت على الصناعة عبر القطاع العام

عكس مصر، التي أممت شركات القطاع الخاص الأجنبي والوطني بالكامل، وتحولت الصناعة برمتها لملكية حكومية بشكل سريع، مع زيادة دور العسكريين وسياسات تسعى لإنصاف العمال.

ولكن مع التوسع الضخم في الصناعة، في عهد ثورة يوليو، ظهر أن الإدارة الجديدة لم تكن ذات كفاءة، والخلط بين ميزانية الدولة والشركات وغياب طرق المحاسبة والتقييم السليمة، ودفع الشركات للتخلي عن الربحية لصالح المستهلك، جعل أزمة شركات القطاع العام تظهر بسرعة.

كانت الإصلاحات المصرية تعاني من عيوب هيكلية في أساسها النظري، وتقليلها من شأن الإدارة المحترفة غير المسيسة، وتحميل الشركات لدور اجتماعي عبر توظيف عدد عمال أكثر من الحاجة، وتسعير قسري للمنتجات، يفقدها القدرة على تحقيق الأرباح، والقدرة على الصيانة والتوسع وقياس الجدوى والأداء.

في كل مجال توسعت مصر بسرعة وبروح متفائلة، فتوسع التعليم كمياً بشكل يفوق الهند الفقيرة، ولكن الكم جاء على حساب الكيف.

بينما الهند الأفقر بشعبها الكبير كانت أكثر حذراً، فالتوسع في التعليم كان يعتمد على الكيف أكثر من الكم.

فالنخبة الهندية الحاكمة كانت تعلم أنها يصعب عليها تعليم هذا الشعب الضخم الفقير دفعة واحدة، فركزت على خلق نخبة عالية المستوى من العلماء والباحثين، التي ستتألق سريعاً على مستوى العالم، كما ستقود نهضة الهند في المجالات الصناعية، وبأكثر الزراعية، فيما يُعرف باسم الثورة الزراعية التي ستنقذ البلاد من المجاعات التي كانت تهددها دوماً.

وهي النخبة التي ستمنح الهند بعد عقود قليلة من استقلالها لقب بلد الطاعون والعلماء، لتتحول حالياً إلى "بلد العلماء بلا طاعون".

ماذا تخبرنا معادلة بدلات حكام ومثقفي العرب الأنيقة مقابل أردية قادة الهند البسيطة؟

كان التركيز على التحديث النوعي وليس الكمي سمة رئيسية في النهضة الهندية المتثاقلة الخطوات، بينما كان التركيز على التطوير الشكلي والكمي سمة للنهضة العربية.

حافظت الهند على خليط من إرثها التقليدي القديم، بما فيه الهندوسي، بعيوبه ومميزاته، مع محاولة جذب أفضل ما في الحضارة الغربية.

كانت القاهرة منذ الخمسينيات أكثر حداثة من الناحية الشكلية، من نيودلهي، فبينما كانت نخبة القاهرة وحكامها يرتدون ملابس أنيقة على النمط الغربي، كان كثير من أفراد النخب الهندية يرتدون ملابس بلادهم التقليدية البسيطة، وكان رفض النمط الشكلي للحداثة الغربية سمة رئيسية لثفاقة الهند الحديثة، بما تحمله من تعالٍ وتقليد حضاري وترف اقتصادي، وأدى ذلك إلى عدم إسراف هندي يمثل نقيضاً للبذخ العربي الحديث.

فكان تقليد الغربيين في الملابس والسلوك في الهند، رغم وجوده، أمراً يثير الانتقاد، ويُنظر له على أنه ابتعاد عن روح الهند، كما أحيت البلاد اللغة الهندية شبه الميتة على حساب الإنجليزية الشائعة الاستخدام، بينما أدخل العرب لغتهم العظيمة في نوم عميق، وعشقت نخبهم حداثة شكلية، تقوم على علمانية غير عملية ظنوها الطريق السهل للتقدم.

بينما كان لدى الهنود الصبر والتواضع على الحفاظ على سمات حضارتهم، مع الأخذ بما يرونه أفضل مما لدى للغرب، مثل التقاليد البرلمانية والقضائية البريطانية، والاهتمام بالبحث العلمي بما يلائم احتياجاتهم، حيث حافظوا على الإرث الإيجابي الذي ورثوه عن البريطانيين، مع التخلي عن الشكل الغربي أحياناً.

وأدت اللامركزية والحرية والجدل السياسي لبعض الفوضى في الهند، ولكنها منعت الخطوات المتسرعة الحماسية العربية. 

كما كانت مثابرة النخبة الهندية ورؤيتها العميقة لها تأثير إيجابي، مقارنةً بحماسية النخبة المصرية والعربية المندفعة.

أول طائرة هندية طارت بمحرك مصري الصنع، ولكن مصير المقاتلة المصرية الفوق صوتية؟

تظهر مشروعات تطوير الأسلحة فارقاً كبيراً بين نموذجي مصر والهند.

فمنذ استقلال البلدين شعر النظامان بالحاجة للاستقلال في مجال تصنيع الأسلحة، ولاسيما المقاتلات.

تخبرنا قصة المقاتلة المصرية حلوان 300 (Helwan HA-300) بالكثير.

تقدمت مصر بسرعة عن الهند في إنتاج المقاتلات، عبر مشروع الطائرة حلوان 300، الاعتراضية الخفيفة، الأسرع من الصوت، التي تم تطويرها خلال الستينيات.

اعتمدت الطائرة على مصمم الطائرات الألماني ويلي ميسرشميت، الذي انتقل في نهاية الحرب العالمية الثانية بعد هزيمة ألمانيا، هرباً من الحلفاء، إلى إسبانيا، ثم إلى مصر، ومعه فريقه وتصميم الطائرة الذي وضعه للإسبان، كما تمت دعوة فرديناند براندنر، خبير المحركات النفاثة النمساوي، لتطوير محرك نفاث للمقاتلة الجديدة.

أول نموذج أولي من حلون-300، كان يعمل بمحرك بقوة 2200 كجم (22 كيلو نيوتن، 4900 رطل في الثانية)، وطارت الطائرة لأول مرة في 7 مارس/آذار 1964، وحققت سرعة مبهرة قدرها 1.13ماخ (سرعة الصوت)، تبعها نموذج أولي ثانٍ يعمل بمحرك أكثر تطوراً، طار لأول مرة في 22 يوليو/تموز 1965.

أرسلت مصر طيارين مصريين إلى الهند في عام 1964 للتحضير لتطوير الطائرة، التي أصبحت نيودلهي شريكاً ثانوياً بها. 

مقارنة بين تجربتي مصر والهند
أول نموذج أولي للمقاتلة المصرية حلوان HA-300 في المتحف الألماني Flugwerft Schleissheim بالقرب من ميونيخ بجنوب ألمانيا/ويكيبيديا

قرب نهاية البرنامج، بدأت الهند في تمويل تطوير محرك الطائرة المصرية E-300، لاستخدامه في المقاتلة الهندية HF-24 Marut النفاثة.

تم إلغاء مشروع حلوان 300 في مايو/أيار 1969. 

لم يتم الإعلان عن السبب، ولكن من المحتمل أن العوامل المالية والسياسية لعبت دوراً، في ظل الأزمة المالية للبلاد بعد هزيمة 1967.

وأُجبر المهندسون الألمان الذين يعملون على التصميم على مغادرة مصر بعد تلقيهم تهديدات متعددة بالقتل من الموساد الإسرائيلي، كما يردد البعض أن الاتحاد السوفييتي لم يكن مرتاحاً للمشروع لأنه سينافس طائراته.

بصرف النظر عن السبب، توقفت مصر تماماً عن المشروع، الأمر الذي يُظهر قِصر نظر النخبة العسكرية الحاكمة، التي تلغي مشروعاً عسكرياً، بينما أرضها محتلة.

بينما استفادت الهند من المحرك في مقاتلتها HF-24 Marut (لم تكن أسرع من الصوت)، التي شاركت لاحقاً في الحرب ضد باكستان.

واستفادت نيودلهي من الخبرات التي حصلت عليها من المشروع، ورغم أن مشاريع تطوير مقاتلة محلية هندية تأخرت، وتعثرت لعقود، في ظل البيروقراطية الهندية والفساد والخوف من الفساد، والمزايدات الوطنية والشعبية، ولكنها لم تتوقف رغم توالي حكم أحزاب مختلفة.

وها هي الهند تنضم لنادي الطائرات المقاتلة عبر الطائرة هيل تيجاس، التي تطير بضعف سرعة الصوت (حتى لو كان محركها ورادارها أجنبيين)، بينما مصر تعد الآن من أبرز أعضاء نادي مستوردي الطائرات، وهي تفكر في شراء المقاتلة الهندية، وهناك حديث عن إمكانية تجميعها محلياً.

وكأن بضاعة مصر رُدت إليها بعد عقود، ولكن بثمن باهظ.

الديمقراطية هي الفرق الرئيسي بين تجربتي مصر والهند

كانت الديمقراطية الهندية على عيوبها هي إحدى النقاط الفارقة بين البلدين.

ولكن لم تكن وحدها، كان من حسن حظ الهند أن عدوها الأساسي باكستان أصغر وأضعف منها، بينما عدو مصر أكثر مكراً وقوة، وهو حليف قوي للغرب.

كما حافظت الهند على جمع نادر للعلاقة مع الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، ولكن تقلبت مصر بين تحالف وثيق مع الاتحاد السوفييتي أغضب الغرب، إلى علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة شارفت أحياناً على التبعية.

ولكن كان هناك فارق آخر بين مصر والهند، كانت نخبة الهند طموحة، ولكن صبورة، ولكن نخبة مصر بدأت حالمة، ولكن متعجلة خطابياً، وأحياناً متهورة، في عهد عبد الناصر، ثم تحولت إلى نخبة غير حاسمة وبلا رؤية وبعضها فاسد بعد رحيله.

مقارنة بين تجربتي مصر والهند
الطائرة الهندية هيل تيجاس/رويترز

كانت الديمقراطية الهندية على عيوبها، ديمقراطية قوية، سمحت لحكومات حزب المؤتمر الهندي باتخاذ قرارات صارمة، بدت أحياناً حمقاء، مثل قرار تعقيم الرجال المتزوجين قسراً، في عهد رئيسة الوزراء الراحلة أنديرا غاندي، لتحديد النسل في البلد المكتظ، والذي نفذ ضد رجال غير متزوجين بالخطأ أحياناً.

ولكن ظلت النخبة الهندية حكاماً ومعارضة متمسكة بالديمقراطية وحكم القانون، حتى لو حدث تماد في الشدة بشكل يقارب القمع من قبل الحكام، والتمادي في الفوضى من قبل المعارضة.

لم تتخل الهند عن ديمقراطيتها رغم الفجوات الطبقية الحادة، والفتن الطائفية بين الهندوس والمسلمين، والنزعات الانفصالية العنيفة في ولايات آسام والبنجاب (ذات الأغلبية السيخية)، وولاية تاميل نادو الجنوبية.

لم تتخل الهند عن ديمقراطيتها بسبب حروبها المتعددة مع باكستان، وهزيمتها المذلة في الصراع المحدود مع الصين في الستينيات، مثلما فعل العسكريون العرب بعد نكبة 1948.

النخبة الهندية لم تتذرع بالتطرف الهندوسي لوأد الديمقراطية

ولم تتخل الهند عن ديمقراطيتها في مواجهة صعود حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي، شديد التطرف، الذي هدد إرث البلاد شبه المتسامح منذ عهد غاندي، عكس حجج الأنظمة المصرية والعربية لمنع الديمقراطية بسبب الحركات الإسلامية التي لا يمكن مقارنتها بالحزب الهندوسي.

وعندما صعد حزب بهاراتيا جاناتا، ووصل للحكم في التسعينيات (وصل قبل ذلك فترة محدودة في السبعينيات)، بعد أن أشعل فتنة هدم مسجد بابر التي أدت لمقتل آلاف من المسلمين، ورغم تورط قادته في مذابح ضد المسلمين، ومهاجمة بعضهم إرث غاندي، لم يحدث انقلاب ضد نتيجة الانتخابات مثلما حدث في دول عربية.

ولم يحرض حزب المؤتمر الهندي العلماني العسكريين على الإطاحة بحكم الحزب الديني، أو رفض نتائج الانتخابات مثلما فعل كثير من العلمانيين العرب.

واليوم يحكم هذا الحزب المتطرف الهند، وهو ينفذ سياسات تمييزية حادة ضد المسلمين، ولكن يظل المسلمون يستطيعون الدفاع عن أنفسهم في ظل النظام القانوني في البلاد، ولم يتوقف المسلمون على النضال نظراً لاستمرار النظام الديمقراطي، وليس بسبب تسامح الحزب.

ومازال وضع المسلمين الهنود على سوئه الشديد، في ظل الهند الديمقراطية، التي يحكمها حزب متطرف أفضل من الصين الاستبدادية التي يحكمها حزب شيوعي علماني، أو وضع الأغلبية السنية العربية في سوريا، التي يحكمها نظام طائفي، تحت لافتة حزب البعث القومي العلماني.

على الجانب الآخر، في ظل الديمقراطية الهندية، استطاع حزب بهاراتيا جاناتا تحت قيادة رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي، تحقيق نهضة اقتصادية وعسكرية لا يمكن إنكارها، نهضة تجعلها المنافس القادم للصين سياسياً واقتصادياً، ومرشحة لأن تصبح القوة العظمى الثالثة في العالم، باقتصاد أصبح الخامس، متقدماً على بريطانيا، ويقترب من المرتبة الرابعة التي تحتلها ألمانيا، وبعد سنوات سيتفوق على اليابان الثالثة.

نهضة حققت تنمية صناعية لا تُضاهي الصين، ولكن تمثل بديلاً محتملاً لها، وهي أفضل بمراحل من كل الدول العربية، وزراعة تجعلها مصدراً صافياً للغذاء، بعد أن كان الشعب الهندي دوماً على شفا المجاعة.

نهضة تشوبها نزعات شبه استبدادية وعنصرية فاضحة ضد المسلمين، ولكن البديل لها سيكون أسوأ، فلم يمكن لانقلاب عسكري ضد هذا النظام، كما حدث في الدول العربية، إلا أن يؤدي لإقامة دولة استبدادية تظلم المسلمين أكثر من ظلمهم الحالي، وتظلم معهم الهندوس، بل قد تعرّض البلاد المتنوعة لخطر التفتت.

ولكن الديمقراطية الهندية على عيوبها، ضمنت عدم سقوط البلاد في السياسات العنترية، التي ما قتلت ذبابة مثلما وصف الشاعر نزار قباني سياسات مرحلة الستينيات التي أدت لهزيمة 1967. 

كما ضمنت الديمقراطية الانتقال السلس من حزب المؤتمر الهندي ذي الإرث العلماني المعتدل، بعد أن فقد القدرة على تقديم جديد، إلى حزب متطرف، ولكنها كبحت تطرفه، وأجبرته على أن يقدم أفضل ما لديه من سياسات اقتصادية رأسمالية فعالة، لصالح النمو والإنتاج المحلي بعد التخلص من الإرث الاشتراكي المتعثر لحزب المؤتمر، مع مراعاة الفقراء، الذين يقدم حزب بهاراتيا جاناتا نفسه باعتباره ممثلهم، بالنظر لأن قاعدته الاجتماعية الهندوسية هي بالأساس من طبقة الفقراء.

كان العالم العربي، وعلى رأسه مصر، مرشحاً لو تمسك بالديمقراطية، لنموذج أفضل من النموذج الهندي، لأن العالم أغنى وأقل تعقيداً في تركيبته الاجتماعية والإثنية من الهند.

مقارنة بين تجربتي مصر والهند
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يصافح رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قبل اجتماعهما في في نيودلهي في 25 يناير/كانون الثاني 2022-رويترز

فالفجوة بين الإسلاميين والقوميين والعلمانيين في العالم العربي أقل منها في الهند، والاختلاف بين مسلميه ومسيحيه أقل مما بين الهندوس والمسلمين والسيخ، والفرق السلالي بين أبنائه في مشرقه ومغربه وشماله وجنوبه، أقل مما بين شمال الهند وجنوبها الأسمر، والفروق الثفاقية والتاريخية بين عربه وأمازيغه وكرده أقل كثيراً مما بين قوميات الهند المتعددة اللغات والتاريخ والألوان.

خسر العالم العربي، وفي قلبه مصر، رهان النهضة لأن نخبته كانت متعجلة، فتخلصت من شبه ديمقراطية ملكية لصالح جمهوريات ضباط استبدادية قومية التوجه، ثم تخلصت من القومية وأبقت على الاستبداد، واكتفت بالنفط والقروض الخارجية، ولم تستطع الصبر على وطأة التنمية المعتمدة على القدرات الذاتية.

وتعجلت في شراء المقاتلات والمفاعلات النووية من الغرب وروسيا، لأنها لم تصبر لكي تكتمل مشروعات تصنيع الطائرات والبرامج النووية.

والنتيجة اليوم، الهند تعرض على مصر، أكبر دولة عربية، الدولة التي قدمت لها أول محرك لطائراتها، لتكون أول زبون خارجي لمقاتلتها من الجيل الرابع، مثلما وعدتها من قبل، ولم تفِ بأن تعطيها الأولوية في شراء القمح الهندي بعد الأزمة الأوكرانية.

ظلمت تجربة الهند مسلمي البلاد لصالح الأغلبية الهندوسية، ولكن التجارب العربية ظلمت الجميع مسلمين وغير مسلمين، أغلبيات وأقليات.

تحميل المزيد