سجل عدد سكان الصين تراجعاً في العام 2022 للمرة الأولى منذ نحو 60 عاماً، وفق ما أظهرته بيانات رسمية يوم الثلاثاء 17 يناير/كانون الثاني 2023؛ حيث تلوح في الأفق أزمة ديموغرافية تهدد أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وتهدد معها نموها الاقتصادي وتؤثر أيضاً على الاقتصاد العالمي. كيف ذلك؟
عدد سكان الصين يتراجع ونموها الاقتصادي مهدد
شهدت الصين التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليار نسمة انخفاضاً في معدلات الولادات إلى مستويات قياسية ترافق مع تقدم قوتها العاملة في العمر، وهو انخفاض سريع يحذر محللون من أنه قد يعيق النمو الاقتصادي ويراكم الضغوط على الخزينة العامة المنهكة.
وأفاد المكتب الوطني للإحصاءات في الصين أنه "بحلول نهاية عام 2022، بلغ عدد سكان البلاد 1.411.750.000 نسمة"، مشيراً الى "انخفاض بلغ 0.85 مليون نسمة مقارنة بعام 2021". وسجلت البلاد 9.56 مليون ولادة و10.41 مليون وفاة عام 2022، بحسب مكتب الإحصاء.
كانت المرة الأخيرة التي سُجّل فيها انخفاض عدد السكان في الصين عام 1960، حيث واجهت البلاد أسوأ مجاعة في تاريخها الحديث بسبب السياسة الزراعية الكارثية لماو تسي تونغ المعروفة باسم "الوثبة الكبرى للأمام".
ويعتقد خبراء الأمم المتحدة أنه على المدى الطويل، يمكن أن ينخفض عدد سكان الصين بمقدار 109 ملايين بحلول عام 2050 أي أكثر من ثلاثة أضعاف انخفاض توقعاتهم السابقة في عام 2019.
ويبدو أن جائحة كورونا كانت عاملاً مهماً في وصول عدد السكان لهذه المستويات؛ حيث خرجت الصين للتو من سياسة صارمة مدتها ثلاث سنوات "خالية من كوفيد" تضمنت حالة من عدم اليقين وتعطيل حياة الناس، وهي حالة دفعت الناس لعدم الإنجاب أو توسيع أسرهم.
تأثير عميق على اقتصاد الصين والعالم
لطالما كانت الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم مصدراً مهماً للعمالة والطلب، مما أدى إلى تعزيز النمو في الصين والعالم.
ويعد التأثير الاقتصادي لانخفاض عدد السكان مصدر قلق رئيسي للصين وحتى للاقتصاد العالمي، حيث كان عدد السكان الكبير في سن العمل في البلاد -ما يقرب من 70% من السكان في عام 2010- على مدى عقود هو المحرك وراء النمو في الاقتصاد .
بالتالي، الآن بعد أن بدأت سن العمل تتقلص وعدد كبار السن في الصين، وهذا يعني في النهاية أن الصين قد فشلت في أن تصبح غنية قبل أن تتقدم في السن، وهو ما يمثل حالة قلق شديدة للدولة الصينية، كما تقول صحيفة فاينانشيال تايمز الأمريكية.
وتضيف الصحيفة أن بعض الاقتصاديين يجادلون بأن صعود الأتمتة والذكاء الاصطناعي سيواجه ارتفاع تكاليف العمالة مع تقلص عدد العمال، وأن انخفاض عدد سكان الصين لا ينبغي أن يكون مدعاة للقلق، لأن المعروض من العمالة لا يزال يتجاوز الطلب وسيتم تعويض الانخفاض طويل الأجل في العمال مع "تحسن جودة العمالة" وارتفاع مستويات التعليم.
لكن المحللين متفقون إلى حد كبير على أن الرعاية الاجتماعية والبنية التحتية الطبية في البلاد غير مهيأة بشكل جيد لمواجهة شيخوخة السكان، وهذا يجب أن يكون بمثابة دعوة لاستيقاظ للصين لتسريع إصلاحات نظام الرعاية الصحية الذي لا يزال غير فعال للغاية وغير متساوٍ في البلاد.
وأعلنت الحكومة الصينية يوم الثلاثاء أن الناتج المحلي الإجمالي قد نما بنسبة 3٪ في عام 2022، حيث يمثل هذا الرقم إحدى أبطأ فترات النمو منذ عقود، لكنه كان لا يزال أعلى من المتوقع، مما أثار بعض الشكوك بين المحللين نظراً للقيود الصارمة في حالة كورونا المطبقة خلال الربع الرابع.
من جهتها، تقول شو جيان بينغ، الباحثة في مركز الدراسات السياسية بجامعة فيكتوريا الأسترالية، لوكالة الأنباء الفرنسية، إن معدل الخصوبة في الصين الآن أقل بكثير من دول مثل الولايات المتحدة وأستراليا وحتى أقل من اليابان.
وأضافت بينغ أن "الصينيين باتوا يعتادون أيضاً على الأسرة الصغيرة بسبب سياسة الطفل الواحد المستمرة منذ عقود". مشيرة إلى أنه "يتعين على الحكومة الصينية أن تجد الآن سياسات فعالة لتشجيع الولادة، وإلا فإن الخصوبة ستنخفض أكثر وأكثر، وسيكون لها تأثير عميق على اقتصاد الصين من الوقت الحاضر وحتى عام 2100".
ويعتقد جيمس ليانغ، الخبير الاقتصادي بجامعة بكين، أن التركيبة السكانية المشوهة في الصين ستحد من حجم سوقها، وبالتالي ستعيق صعودها الاقتصادي. يقول ليانغ لمجلة "إيكونومست" البريطانية، إن الصين لن تقبل أبداً أعداداً كبيرة من المهاجرين، لذلك سيكون لأمريكا ميزة كبيرة. في السنوات العشر أو العشرين المقبلة، ستستمر الصين في الأداء الجيد، ولكن بعد ذلك "ستستعيد أمريكا القيادة ولن تلحق الصين بالركب أبداً"، حسب تعبيره.
وسيؤدي انخفاض معدل المواليد إلى معركة أخرى. تتضمن خطة جديدة مدتها خمس سنوات مقترحات غامضة لزيادة سن التقاعد في الصين، والتي تبلغ حالياً 60 عاماً للرجال و 55 أو 50 عاماً للنساء، وهو أقل بكثير من متوسط الدولة الغنية البالغ 64 عاماً. وهذا لن يحظى بشعبية كبيرة. كما أن إطالة عمر العمل يهدد بتدهور الخصوبة أكثر، لأن العديد من العائلات تعتمد على الأجداد في رعاية الأطفال، لذلك لا توجد طرق سهلة بالنسبة لبكين بالخروج من هذه المشكلة.
كيف أدت سياسة "الطفل الواحد" إلى تقلص عدد سكان الصين؟
عام 2016 أنهت الصين "سياسة الطفل الواحد" التي فرضتها في الثمانينيات بسبب مخاوف من زيادة سكانية هائلة، وعام 2021 بدأت السماح للأزواج بإنجاب ثلاثة أطفال. لكن هذا الإجراء لم ينجح في عكس مسار التدهور الديموغرافي.
وحاولت الصين عبر العديد من المبادرات تجنب "أزمة ديموغرافية"، بما في ذلك التخلي عن سياسة الطفل الواحد وزيادة الإجازة الوالدية بالإضافة إلى الإعانات المالية. ومع ذلك لا يبدو أن أياً من هذه الجهود قد نجحت.
وإذا تعمّقنا أكثر في الأرقام، فسنجد أن معدل المواليد في الصين كان 6.77 مولود لكل 1000 شخص، وارتفع معدل الوفيات إلى أعلى مستوى له على الإطلاق.
وبينما كانت السلطات الصحية تتساءل عن سبب إنجاب الناس لعدد أقل من الأطفال، يبدو أن أسباب ذلك تتعلق بارتفاع تكاليف المعيشة في المدن الصينية والاستجابة لوباء COVID-19 في الأعوام الأخيرة.
ويقول خبراء صينيون إن ارتفاع تكلفة المعيشة في الصين، خاصة في المدن الكبرى حيث تكاليف الإسكان والتعليم، يدفع الناس لتأخير الزواج أو حتى عدم الزواج، وحتى إذا حدث زواج فهناك توجه كبير لعدم الإنجاب على الإطلاق.
وأطلقت العديد من السلطات المحلية في الصين بالفعل تدابير لتشجيع الأزواج على إنجاب الأطفال. في مدينة شنتشن، على سبيل المثال، تقدّم السلطات الآن علاوة ولادة وبدلات تُدفع حتى يبلغ الطفل سن الثالثة؛ إذ يحصل الزوجان اللذان ينجبان طفلهما الأول تلقائياً على 3000 يوان (444 دولاراً أمريكياً)، وهو مبلغ يرتفع إلى 10000 يوان (1480 دولاراً) لثالثهما. وفي شرق البلاد، تدفع مدينة جينان منذ الأول من يناير 2023 راتباً شهرياً قدره 600 يوان (89 دولاراً) للأزواج الذين لديهم طفل ثانٍ.
هل تتفوق الهند على الصين قريباً بعد؛ السكان؟
لطالما كانت الصين أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، ولكن من المتوقع أن تتفوق عليها الهند قريباً، إذا لم تكن كذلك بالفعل. حيث تشير التقديرات إلى أن عدد سكان الهند يزيد على 1.4 مليار نسمة.
وكشف تقرير من الأمم المتحدة، نشر يوم 11 يوليو/تموز 2022، أن الهند من المتوقع أن تصبح الدولة الأكثر تعداداً للسكان في العالم عام 2023، متجاوزة الصين التي تحتل هذا الموقع حالياً، حسبما ذكر موقع Axios الأمريكي.
وعلى الرغم من التوقعات التي تتحدث عن هذا القرن وتصفه بأنه "القرن الصيني"، فإن هذه التوقعات السكانية تشير إلى أن التأثير قد ينتقل إلى أماكن أخرى، من بينها الهند المجاورة والتي تسعى لمنافستها اقتصادياً.
في السياق، تشير دراسة أجراها مركز دراسات السياسة في جامعة فيكتوريا في أستراليا إلى أنه بدون تغيير نظام المعاشات التقاعدية في الصين، فإن مدفوعات المعاشات سوف تزيد خمسة أضعاف من معدل 4% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2020 إلى 20% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2100.
ومن المرجح، بالنسبة للدول المصدرة للموارد مثل أستراليا، أن تتطلب هذه التغييرات إعادة توجيه الصادرات نحو الشركات المصنعة خارج الصين. وبالنسبة لمستوردي السلع، بما في ذلك الولايات المتحدة، من المقرر أن يتحول مصدر السلع تدريجياً نحو مراكز تصنيع جديدة وناشئة.
ومن المتوقع أن تدفع تكاليف العمالة المرتفعة، المدفوعة بالتراجع السريع للقوى العاملة، الصناعات التحويلية ذات الهامش المنخفض والتي تحتاج إلى عمالة كثيفة، إلى نقل نشاطها من الصين إلى دول تتمتع بوفرة في العمالة مثل فيتنام وبنغلاديش والهند؛ حيث تقدر تكاليف العمالة في مجالات التصنيع في الصين بضعف ما هي عليه في فيتنام أو الهند.