قبل بضعة أشهر فقط، كان المسؤولون الروس يتوعدون أوروبا بشتاء قاسٍ، وكانت القارة تتجهز لأزمة طاقة غير مسبوقة، يتوقع فيها أن يموت فيها العديد من الأوروبيين بسبب البرد القارس، ولكن هذا لم يحدث، وكانت نجاة أوروبا من أزمة الطاقة واحدة من مفارقات حرب أوكرانيا، فكيف تحقق ذلك ومن ساهم في إنقاذ القارة، وهل ما زال الخطر قائماً؟
قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت دول الاتحاد الأوروبي تعتمد في وارداتها على الغاز الروسي بنسبة 40%، بينما بلغت النسبة في ألمانيا 55 %.
وبعد فترة وجيزة من الغزو الروسي في فبراير/شباط 2022، فرضت الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات اقتصادية ومالية صارمة على روسيا، مما أدى إلى مناوشات حول العملة التي ستستخدمها دول الاتحاد الأوروبي لدفع ثمن الغاز الروسي، حيث أصرت موسكو على أن تكون الروبل.
لكن الصراع الحقيقي اندلع في الصيف، عندما أوقفت روسيا إمدادات الغاز عبر خط الأنابيب الرئيسي المباشر إلى ألمانيا، مما أدى إلى أزمة طاقة في جميع أنحاء القارة.
البعض كان يتوقع تجمد أوروبا بينما آخرون يرون أن العقوبات تضر القارة وليس روسيا
كان البعض يتوقع أن تتجمد أوروبا من البرد أو يموت بعض المواطنين الفقراء وفي المناطق النائية قبل أن يتم إنقاذهم.
ولقد أدت العقوبات بالفعل إلى خفض إنتاج روسيا أكبر منتج للنفط والغاز في العالم بحوالي 2 مليون برميل نفط يومياَ.
كما قيدت روسيا إمدادات الغاز إلى 12 دولة أوروبية، مما أدى في بعض الحالات إلى قفزة في الأسعار بنسبة 565٪ على أساس سنوي.
مع المخاوف من نقص الإمدادات خلال فصل الشتاء، وتحذيرات صندوق النقد الدولي من الانكماش الاقتصادي العميق الذي حدث أثناء أزمة كوفيد في بعض دول أوروبا الشرقية، ارتفع سعر الغاز الطبيعي الأوروبي بشكل صادم، حيث قفزت تكلفة ميغاوات ساعة من الغاز من 25 يورو إلى ما يزيد قليلاً عن 340 يورو في أغسطس/آب 2022، أي أكثر من 11 مرة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
إن اعتماد أوروبا على الغاز المستورد يعني أنه مقابل كل زيادة مستمرة في السعر بمقدار 100 يورو / ميغاوات / ساعة، سيحتاج أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى دفع 380 مليار يورو إضافية سنوياً لمصدري الغاز – ما يعادل 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا أو 4.5% من استهلاك الأسرة، وفقاً لبنك Berenberg.
وكان يبدو أن عقوبات أوروبا تلحق الضرر بشعبها أكثر من تلك الموجودة في روسيا.
مخازن الغاز الأوروبية متخمة
ولكن هذا لم يحدث، بل على العكس مع بداية عام 2023، باتت مرافق تخزين الغاز الأوروبية ممتلئة بنسبة 85% تقريباً مقارنة بمتوسط 70% في نفس الوقت من العام خلال السنوات الخمس الماضية.
وانخفض السعر الأوروبي للغاز الطبيعي بأكثر من 75% من ذروته وحلق عند حوالي 75 يورو لكل ميغاوات في الساعة في الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني، كان هذا لا يزال ثلاثة أضعاف المستويات العادية وأعلى بكثير مما هو عليه في الولايات المتحدة، لكنه سعر يمكن للعديد من الأسر والصناعات أن تديره.
وانخفض عقد TTF القياسي إلى أقل من 70 يورو لكل ميغاوات ساعة في مطلع يناير/كانون الثاني الجاري وعاد إلى المستويات التي سبقت غزو أوكرانيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Telegraph البريطانية.
أسباب نجاة أوروبا من أزمة الطاقة
كان هناك أسباب عديدة هي التي تقف وراء نجاة أوروبا من أزمة الطاقة وخاصة في مجال الغاز.
ولكن إحدى المفارقات أنه بعد أن قيدت روسيا الإمدادات رداً على العقوبات الأوروبية، قابل التوترات المتصاعدة في أوروبا انخفاض في الهجمات المسجلة على منشآت النفط وخطوط الأنابيب والناقلات في الشرق الأوسط أحد أبرز مصادر الطاقة المنافسة لروسيا، حسبما أظهر بحث S&P Global Energy Security Sentinel.
حملات التوعية تؤتي أكلها وارتفاع الأسعار يقلل الاستهلاك
كما ساهمت الجهود التي بذلتها أوروبا لتوفير الطاقة والطقس المعتدل في تجنيبها أزمة طاقة مؤلمة خافها كثيرون حين قطعت روسيا إمدادات غازها الطبيعي عن القارة العام الماضي، حسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
والآن تستهلك المنازل والشركات على مستوى أوروبا طاقة أقل بكثير مما كان متوقعاً، حتى مع الطقس الدافئ الذي عم المنطقة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. وكانت الأسعار المرتفعة حافزاً قوياً لتقليل استهلاك الغاز والكهرباء، وإيجاد بدائل للإمداد الروسي بتكاليف منخفضة نسبياً.
ويقول مسؤولون ومحللون إن حملات التوعية العامة التي أطلقتها الحكومات لتشجيع توفير الطاقة نجحت على ما يبدو.
وقال بريان ماذرواي، رئيس قسم الكفاءة في وكالة الطاقة الدولية: "الوعي باستهلاك الطاقة ومدى تكلفتها أكبر من أي وقت مضى. الاستجابة مذهلة".
أبرز الدول التي قدمت لأوروبا بديلاً للغاز الروسي
وهذا التراجع في الطلب شكل ما يشبه حاجز حماية لإمدادات الغاز في أوروبا.
وفي الوقت ذاته تحولت القارة عن روسيا واتجهت إلى منتجين آخرين بعد غزو أوكرانيا، أبرزهم الولايات المتحدة والنرويج.
وكان أكبر مصدر للإمداد الجديد الغاز الطبيعي المسال المستورد، بشكل رئيسي من الولايات المتحدة؛ وتتسابق دول القارة على بناء محطات جديدة للغاز الطبيعي المسال، التي افتتح آخرها يوم الجمعة 13 يناير/كانون الثاني في لوبمين على الساحل الشمالي لألمانيا. ومخزون الغاز في أوروبا ممتلئ بحوالي 82%، وهذه النسبة أعلى بكثير من المستويات العادية التي تبلغ عادة 65% في هذا الوقت من الشتاء.
وسلمت قطر 16٪ من إمداداتها من الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي في الأشهر العشرة الأولى من عام 2022. وهي ثاني أكبر مورد للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة وقبل روسيا ولكنها تشهد منافسة كبيرة من الغاز الأمريكي، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Le Monde الفرنسية.
والآن يمكن لجنوب أوروبا استقبال الغاز الأذربيجاني عبر خط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي إلى إيطاليا وخط أنابيب الغاز الطبيعي العابر للأناضول (TANAP) عبر تركيا.
وهذه الإمدادات غير المتوقعة تحفز خبراء الاقتصاد على رفع توقعاتهم الاقتصادية للمنطقة، والتقليل من خطورة الورقة التي يستخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإثناء أوروبا عن دعم أوكرانيا.
الطقس المعتدل خذل بوتين
كان الطقس جزءاً من قصة نجاة أوروبا من أزمة الطاقة.
فشتاء 2022، حتى الآن هو رابع شتاء معتدل في أوروبا منذ عام 1970. كما أنه معتدل في آسيا وهذا مهم للغاية لأن الصين واليابان هما أكبر مستوردي الغاز الطبيعي المسال في العالم، حيث يتنافسان مباشرة مع أوروبا على التوريد.
الشتاء أصبح معتدلاً في الولايات المتحدة أيضاً بعد الإعصار القطبي العنيف الذي شهدته أمريكا الشمالية قبل بضعة أسابيع.
ويقول بنك غولدمان ساكس إن الموجة الدافئة عبر نصف الكرة الشمالي في يناير/كانون الثاني كان لها ضعف التأثير سوق الغاز مقارنة بالبرودة العميقة الي حدثت في شهر ديسمبر/كانون الأول الذي سبقه.
وما لم تتعرض أوروبا لشتاء شديد في الأشهر المقبلة، فإن خطر حدوث أزمة في إمدادات الطاقة يصبح منخفضاً للغاية"، وفقاً لما نقلته صحيفة Financial Times عن لكارستن برزيسكي، الرئيس العالمي للاقتصاد الكلي في بنك ING"
الطاقة الصديقة للبيئة تزدهر
وعادت طاقة الرياح مرة أخرى لتزدهر.
وصلت طاقة الرياح في المملكة المتحدة إلى رقم قياسي جديد بلغ 20.9 غيغاوات في 30 ديسمبر/كانون الأول 2022، وقد أنتجت وحدها 49٪ من إجمالي الكهرباء في هذا البلد خلال الأسبوع الماضي.
وضربت الطاقة الخالية من الكربون لفترة وجيزة 88% من إمدادات الشبكة في المملكة المتحدة يوم الأربعاء الماضي.
والنتيجة أن أوروبا كانت قادرة على إعادة تعبئة مخزونها من الغاز في بعض الأحيان حتى في منتصف الشتاء.
وتبلغ نسب مستويات الملء 91% في ألمانيا، و89% في بلجيكا، و82% في فرنسا، و81% في إيطاليا.
يعتقد أن مستويات التخزين قد تظل أعلى من 50% في نهاية فصل الشتاء في أواخر مارس/آذار 2022، مقارنة بـ 24% العام الماضي و 32% في العام المعتاد.
الولايات المتحدة هي المستفيد الأكبر، فهل استغنت أوروبا عن الغاز الروسي؟
وتعتقد مؤسسة مورغان ستانلي أن أوروبا ربما لم تعد بحاجة إلى أي إمدادات روسية لإعادة ملء المخزونات قبل شتاء 2023/2024. يمكنها الحصول على 37 مليار متر مكعب إضافية مطلوبة من أي مكان آخر: الولايات المتحدة وقطر وشمال إفريقيا وأذربيجان وما إلى ذلك.
يبلغ استهلاك الغاز العالمي 4100 مليار متر مكعب. تبلغ الواردات الأوروبية التي كانت تأتي من روسيا وتوقفت حوالي 130 مليار متر مكعب. اتضح أن هذه الفجوة يمكن سدها بسهولة أكبر مما هو مفترض مع زيادة إمداد الغاز الطبيعي المسال.
أدى ظهور الولايات المتحدة كقوة غاز عالمية عظمى إلى تحول في ميزان القوى الاستراتيجي. كان من الممكن أن تكون قصة مختلفة إذا كان بوتين قد هاجم أوكرانيا قبل بضع سنوات، عندما كان الغاز الصخري الأمريكي الرخيص محاصراً في الغالب داخل البلاد بسبب نقص محطات التصدير.
الأزمة لها تداعياتها التي قد تؤدي لهجرة بعض الصناعات من أوروبا
على أن مشكلات الطاقة في أوروبا لم تنته بعد. إذ يقول المحللون إن السؤال الجوهري المطروح حالياً هو مدى الأضرار الاقتصادية التي نجمت عن جهود توفير الطاقة. إذ تهدد عمليات الإغلاق واسعة النطاق للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة بتقويض القاعدة الصناعية في أوروبا.
وبعض المنازل تستقبل فواتير كهرباء وغاز مرتفعة جداً رغم جهدها لتقليل الاستهلاك.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بالطقس. لقد أثبتت أوروبا أنها قادرة على خفض الطلب على الغاز دون إثارة احتجاجات اجتماعية جماهيرية أو التسبب في ركود عميق.
وذلك من خلال التضحية ببعض الصناعات.
فرغم نجاة أوروبا من أزمة الطاقة، فقد لا يتم إعادة فتح بعض مصاهر المعادن مطلقاً، وقد تهاجر بعض أشكال إنتاج المواد الكيميائية بشكل دائم إلى الولايات المتحدة أو الشرق الأوسط.
يقول Martijn Rats من Morgan Stanley إن استخدام الغاز الصناعي في قلب الاتحاد الأوروبي انخفض بنسبة 27٪ في ديسمبر/كانون الأول 2022. يبلغ إجمالي الطلب على الغاز في المنطقة 19٪ أقل من متوسط الخمس سنوات الماضية.
ولا تزال أسعار الغاز الأوروبية مرتفعة بالمعايير التاريخية، وهذا يشكل تهديداً طويل الأجل لقاعدة التصنيع في القارة. وقطع الإمدادات الروسية جعل أوروبا أشد اعتماداً على الغاز الطبيعي المسال، الذي يُنقل عن طريق السفن وهذا أغلى بكثير من الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب.
وكتب خبراء اقتصاد بنك أمريكا في مذكرة يوم الجمعة: "المنطقة تعاني صدمة قوية ستحد من النشاط الاقتصادي لبعض الوقت".
وفي الوقت الحالي، تخفض أوروبا استهلاكها للطاقة دون إحداث ضرر كبير على النمو الاقتصادي. إذ انخفض الطلب على الغاز في الاتحاد الأوروبي بنسبة 20% في الربع الرابع مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية.
وفي فرنسا، انخفض استهلاك الكهرباء خلال الشهر الماضي بنسبة 10% تقريباً بعد تغير درجات الحرارة. وتراجع استهلاك الغاز في ألمانيا منذ بداية ديسمبر/كانون الأول بنسبة 15%، أي أقل مما كان متوقعاً بعد تغيرات الطقس، وفقاً لهيئة تنظيم الطاقة في ألمانيا.
ويغلق الناس منظمات الحرارة على مستوى القارة، ويركبون مضخات حرارية ويجددون منازلهم لتحسين كفاءتها. وخفضت شركات التصنيع استهلاكها للغاز عن طريق التحول إلى زيت الوقود متى أمكن وتقليل نفايات عمليات التصنيع قدر الإمكان. وتعمل شركات أخرى على تقليص التصنيع الذي يعتمد على الغاز واستيراد مواد أولية بديلة من الولايات المتحدة والشرق الأوسط ومناطق أخرى بأسعار أرخص بكثير من أوروبا.
ويقول سفين تور هولسيذر، الرئيس التنفيذي لشركة Yara International المنتجة للأسمدة التي تعد واحدة من أكبر مستهلكي الغاز في أوروبا: "القدرة على التكيف ورفع الكفاءة تجاوزت ما ظننته ممكناً في الصيف الماضي".
ومنذ ارتفعت أسعار الغاز عام 2021، رفعت شركة Yara وخفضت إنتاجها الأوروبي من الأمونيا، المادة الأولية التي تُصنع منها الأسمدة وتعتمد على الغاز كمادة وسيطة، حسب سعر الوقود. وهذا مكّن الشركة من مواصلة إنتاج الأسمدة في أوروبا والاستعانة بمصانع خارجية في الخطوة الأكثر استهلاكاً للغاز- إنتاج الأمونيا- حين ترتفع أسعار الغاز.
ويقول محللون إن نجاح أوروبا في خفض استهلاك الطاقة هذا الشتاء يؤكد قدرتها على حماية اقتصادها من صدمات الطاقة الخارجية.
يقول ماذرواي من وكالة الطاقة الدولية: "في منتصف السبعينيات حين شهدنا أول أزمة نفطية، كانت ثورة حقيقية في كفاءة الطاقة. وقد نشهد بداية فترة أخرى مشابهة".