بعد عودته لسدة الحكم في إسرائيل مجدداً، لم يقدم بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة، الأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال، موقفاً واضحاً حول الحرب الروسية الأوكرانية، خاصة أنه كانت تجمعه علاقة "ودية" مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لطالما تفاخر بها نتنياهو حتى في حملاته الانتخابية. فكيف سيتعامل نتنياهو الآن مع هذا الملف، خاصة مع وجود الضغوط الأمريكية على حلفاء واشنطن لدعم كييف ومقاطعة وحصار بوتين؟
ماذا يمثل بوتين بالنسبة لنتنياهو؟
في الصفحة الأخيرة من السيرة الذاتية التي نشرها بنيامين نتنياهو مؤخراً، تُوجد تفصيلة مثيرة للاهتمام في نهاية الفهرس المطول، بعنوان: "زيلينسكي، فولوديمير، صفحة 620".
لكن بمجرد أن تقلب الصفحات، وصولاً إلى الصفحة 620، ستعثر على توصيفات ودية للاجتماعات بين نتنياهو وبين فلاديمير بوتين، دون أي ذكرٍ للرئيس الأوكراني. ولم يُذكَر زيلينسكي في تلك الصفحة مطلقاً أو في أي صفحة أخرى من الكتاب في الواقع.
ويتمثل التفسير المنطقي الوحيد في أن زيلينسكي كان جزءاً من مسودة الكتاب التي استُخدِمَت لإعداد الفهرس، لكنه حُذِفَ على عجلٍ من النسخة النهائية قبل طباعتها، كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
ولا نعلم لماذا ظهر زيلينسكي في مذكرات نتنياهو، ثم حُذِفَ منها. لكن المؤكد هو أن رئيس وزراء الاحتلال الذي أُعيد انتخابه حديثاً لا يشعر بالارتياح تجاه الرئيس الأوكراني.
إذ تباهى نتنياهو طيلة سنوات بعلاقته المقربة والفريدة مع بوتين على حد وصفه. ولم يقتصر الأمر على كتابه فقط. إذ تفاخر مراراً بتلك الصداقة، وبخدمتها لمصالح دولة الاحتلال على حد زعمه في العديد من خطاباته.
وتنص رواية نتنياهو على أن بوتين صديق وحليف عظيم لدولة الاحتلال ولشخصه على حدٍ سواء. وحدث ذلك عندما كان نتنياهو رئيساً للوزراء في المرة الماضية. لكن العالم تغير كثيراً على مدار الـ18 شهراً الأخيرة.
كيف سيتعامل نتنياهو مع الملف الأوكراني دون خسارة بوتين؟
تقول الصحيفة الإسرائيلية إن نتنياهو يفهم لعبة العلاقات العامة السياسية جيداً. وربما كان يتحدث علناً عن كل القضايا تقريباً أثناء فترته كزعيم للمعارضة، لكن القضية التي التزم الصمت تجاهها بصورةٍ ملحوظة كانت قضية الهجوم الروسي على أوكرانيا.
إذ تحدث عن تلك القضية بتواضع لا يناسب شخصيته المعروفة بمواقفها المثيرة للجدل كما تقول هآرتس، خلال مقابلة أجراها مع برنامج "Meet The Press" في شبكة NBC الأمريكية. حيث قال إنه خطط في حال استعادة منصبه "لإجراء نقاش مفصل مع خبرائنا الذين يتابعون القضية، حتى يصبح على اطلاع بتطوراتها". وعند سؤاله عن تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، لم يستبعد نتنياهو الفكرة وقال: "هذه واحدة من القضايا التي سأتناولها، ولن أكون سريعاً وطائشاً في هذه القضية. بل أعتقد أنها تحتاج لمداولات متأنية".
وتبنت دولة الاحتلال موقفاً محايداً وحذراً في عهد رئيسي الوزراء السابقين نفتالي بينيت ويائير لبيد، اللذين رفضا توسلات أوكرانيا لإمدادها بأي شكل من أشكال الأسلحة، لكنهما أرسلا المساعدات الإنسانية بدلاً من ذلك. وأدان لابيد من جهته جرائم الحرب الروسية داخل أوكرانيا بوضوحٍ في أكثر من مناسبة. كما وجّه نتنياهو إشادةً نادرة لسياسة الثنائي في التعامل مع أوكرانيا، ووصفها بالبراغماتية.
وتحدث زيلينسكي إلى نتنياهو عدة مرات منذ فوزه بالانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني. وخلال المكالمة الثانية يوم الجمعة، 30 ديسمبر/كانون الأول 2022، طلب نتنياهو من أوكرانيا التصويت ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بإحالة قضية احتلال الضفة الغربية إلى محكمة العدل الدولية. لكن أوكرانيا لم تحضر التصويت.
هل تتحول سياسة حكومة نتنياهو نحو روسيا على حساب أوكرانيا؟
ثم جاء دور وزير خارجية نتنياهو الجديد، إيلي كوهين. حيث أجرى اجتماعه الأول مع دبلوماسيي الاحتلال يوم الإثنين، 2 يناير/كانون الثاني، وأخبرهم خلاله أنه يختلف عن سلفه لبيد. وقال كوهين: "هناك شيء من المؤكد أننا سنفعله في ما يتعلق بقضية روسيا وأوكرانيا، ألا وهو تقليل الحديث في العلن". وأردف كذلك أنه ينتوي الحديث عبر الهاتف إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي لم يتحدث إليه لبيد منذ بداية الهجوم في فبراير/شباط الماضي.
ونظر الكثيرون إلى تصريحات كوهين باعتبارها تحولاً في سياسة الاحتلال لتميل تجاه روسيا. وشملت القائمة وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، الذي رفض الحديث هاتفياً مع كوهين، وكذلك السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي يُعَدُّ واحداً من أقوى حلفاء الاحتلال في واشنطن.
فهل تغيّرت سياسة الاحتلال تجاه أوكرانيا في عهد حكومة نتنياهو الجديدة؟ الأمر المؤكد الوحيد هنا هو أنه في حال تغيير تلك السياسة؛ فلن يأتي ذلك التغيير من جانب إيلي كوهين.
إذ يحتل كوهين المرتبة الرابعة في تسلسل السياسة الخارجية للحكومة الجديدة بعد نتنياهو، ووزير الشؤون الاستراتيجية الجديد رون ديرمر، ورئيس مجلس الأمن القومي الجديد تساحي هنغبي. بينما تعتمد وظيفة كوهين على البقاء صامتاً بينما يتولى نتنياهو وبقية المسؤولين الكبار شؤون السياسة الخارجية.
وليس نتنياهو في عجلةٍ من أمره عندما يتعلق الحديث بأوكرانيا. ويدرك أن كل الأمور تغيرت وأنه لا يستطيع التواصل مع بوتين بصورةٍ ودية اليوم كما تقول صحيفة هآرتس. ولا يقتصر السبب على كون الرئيس الروسي بعيد المنال اليوم، بل يمتد الأمر إلى تعزيز التحالف بين روسيا وإيران التي تُعد ألد أعداء نتنياهو. ولهذا لم يعد في مقدور نتنياهو أن يزعم على الملأ أن علاقته مع بوتين تساعد الاحتلال في احتواء إيران، كما كان يفعل من قبل.
أمريكا تريد من إسرائيل دوراً نشطاً حول أوكرانيا
مع ذلك، لن يسارع نتنياهو إلى الانحياز لأحد الطرفين أيضاً. إذ لا يزال نتنياهو محاصَراً بالخوف "غير المبرر" من بوتين، كما كان حال غالبية زعماء الاحتلال على مدار الـ22 عاماً الماضية -باستثناء أرئيل شارون. ويبدو أن إخفاق روسيا الذريع في ساحات الحرب الأوكرانية لم يغير ذلك الخوف.
وتقول هآرتس إن "الزعيمين يتعاملان معاً منذ سنوات، ويُدرك نتنياهو على الأرجح أن بوتين يستطيع نشر معلومات يمكنها أن تضر صورته الشخصية والسياسية على حد السواء. وحتى لو تغلب نتنياهو على تلك المخاوف، فلن يشرع في تغيير سياسة الاحتلال لتصب في صالح أوكرانيا إلا عندما يشعر أنه سيستفيد من ذلك".
حيث ينظر نتنياهو إلى السياسة الخارجية في عالمه باعتبارها معاملةً تبادلية، ولن يمانع استغلال ميله إلى أوكرانيا في مقابل مقايضةٍ مع جو بايدن، الزعيم الأكثر حماساً لرؤية إسرائيل تلعب دوراً نشطاً في دعم أوكرانيا.
ويتمتع نتنياهو بعلاقةٍ طويلة مع بايدن، وهي علاقة أطول من تلك التي تجمعه ببوتين، كما يدرك نتنياهو أنه ليس عند حسن ظن بايدن في الوقت الحالي. إذ ليست إدارة بايدن راضيةً على الإطلاق عن شركاء نتنياهو من اليمين المتطرف في التحالف الجديد، كما تراقب أفعال حكومته عن قرب.
وإذا اختار نتنياهو تقديم لفتات أكثر إيجابية تجاه الأوكرانيين، فسوف يتعين على واشنطن أن تدفع المقابل. وربما يستغل نتنياهو خطوةً كهذه لإقناع بايدن بالتجاوز عن بعض الأفعال المشينة لأحد وزرائه، أو لزيادة الضغط على إيران بصورةٍ أكبر، أو لمجرد الحصول على دعوة البيت الأبيض التي ينتظرها منذ زمن.
وحتى ذلك الحين، سيواصل نتنياهو محاولة كسب الوقت. ولهذا أمر كوهين بالتزام الصمت حيال أوكرانيا الآن، لكنه سيخبره عندما يصبح بإمكانه الحديث عن القضية، وفي الوقت المناسب لذلك. وبهذا يمكن القول إن سياسة حكومة نتنياهو للتعامل مع أوكرانيا الآن تتمحور حول عدم وجود سياسة من الأساس، كما تقول هآرتس.