قررت مصر إصدار شهادات إدخار بفائدة 25%، وهو معدل فائدة قياسي في تاريخ البلاد، وذلك في محاولة للسيطرة على سعر الدولار في السوق الموازية، والذي كان قد وصل في بعض الحالات لـ38 جنيهاً، فكيف سيؤثر هذا القرار على الاقتصاد، وهل يكون بداية لتعافي الجنيه المصري ونهاية محنته، أم يؤدي لضغوط على الاقتصاد ويدفعها لنموذج الأرجنتين؟
في ظل ارتفاع لافت للتضخم قد تكون معدلاته الواقعية في الأغلب أعلى من المعدلات المعلنة رسمياً، ولجوء المصريين لشراء الدولار، والذهب للحفاظ على قيمة ثرواتهم، مما ضاعف الضغوط على الجنيه، أعلن بنكا الأهلي ومصر، وهما أكبر بنكين حكوميين في مصر، عن شهادة ادخار جديدة بفائدة 25% لمدة عام، وهي الأعلى على مستوى القطاع المصرفي المصري.
ويُعد هذا القرار بديلاً عن رفع سعر الأساس للفائدة، والذي يؤثر على النظام المصرفي بأكمله، ويؤدي عادة لارتفاع كبير لفائدة الإيداع بالمصارف، وبالتالي رفع الفائدة من قبل المصارف على القروض التي تقدمها للعملاء، مما يزيد الصعوبات على الشركات المقترضة، خاصة أن مصر كانت قد رفعت سعر الفائدة في الأصل عدة مرات وبشكل كبير.
ولكن في مثل هذا النموذج، يعطي أكبر مصرفين في مصر فائدة أعلى من السعر السائد بشكل كبير للمودعين دون، أن يرفعا في المقابل الفائدة على المقرضين بنفس المعدل (نظرياً على الأقل)، ولكن هذا يعني أن المصرف يخسر الفرق بين سعر الفائدة الذي يقدمه للمودعين، وبين سعر الفائدة على القروض التي يقدمها، وعادة يتحمل البنك المركزي هذه الخسارة أو يتحملها مع المصارف التي توفر هذه الودائع، ولذلك يتم عادة اختيار البنك الأهلي وبنك مصر لهذه المهمة؛ لأنهما أكبر بنكين في البلاد ومملوكين للدولة.
وفي الأغلب، فإن البنوك لا تستطيع تحمل تجديد مثل هذه الودائع لفترة طويلة، لأنها تمثل خسارة مالية كبيرة، وفي تجربة سابقة نفذت عام 2016، أصدر بنكا الأهلي ومصر شهادات إدخار بفائدة 19% لمدة عام، ثم تم تجديدها بفائدة تبلغ نحو 18 و17 % في الأعوام التالية لتخفيض خسائره وفي الوقت ذاته ضمان عدم خروج هذه الأموال فجأة للأسواق فتحدث موجة تضخمية.
القرار قد يؤدي لركود بالأسواق ولجوء أصحاب الأعمال لوضع أموالهم في المصارف
ومع أن هذا القرار لا يعادل في تأثيراته السلبية الرفع الكامل للفائدة على المودعين والمقرضين على السواء، حيث لا ينقل أثر رفع الفائدة بنفس المعدل للأسواق.
ولكن يظل له تأثيرات شديدة السلبية على الأسواق، فهذا المعدل المرتفع للفوائد 25% على أصل رأسمال خلال سنة واحدة، أعلى في الأغلب من معظم نسب أرباح أغلب الأعمال التجارية في البلاد بشكل كبير (مع ملاحظة أن الأعمال التجارية ذات الأصول التي ليس بها معدل هالك كبير، ترتفع قيمتها).
ولذا انتشرت دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي، لأصحاب الأموال للتوقف عن استثمار أموالهم في ظل ظروف اقتصادية سيئة، إضافة لمشكلات العمالة والبيروقراطية والضرائب، وتوجيه أموالهم لمثل هذه الودائع، وهو أمر من شأنه لو تحقق بشكل كبير أن يمثل مشكلة لاقتصاد البلاد، وقد يؤدي لصعود للبطالة وتراجع لإيرادات الضرائب.
وبالطبع، فإن متخذ مثل هذا القرار، يعلم هذه التداعيات السلبية، ولكنه يراهن على أنها مؤقتة وأن الهدف المرحلي قد يكون أولى، وهو امتصاص السيولة من الأسواق، وتحفيز المصريين على التوقف عن تحويل أموالهم للدولار، أو شراء الذهب، الأمر الذي يفاقم مشكلة الجنيه القائمة.
والمشكلة أنه لكي يكون هناك فاعلية لقرار رفع الفائدة على الودائع فإنه يتطلب استقراراً نسبياً لسعر الجنيه أمام الدولار، حيث خسر الجنيه نحو 70% من قيمته الرسمية منذ الأزمة الأوكرانية، حيث كان سعره الرسمي 15.5 لكل دولار، والآن تخطى الـ26 في المصارف، بينما وصل في السوق السوداء لمتوسط يتراوح بين 28 و31 جنيهاً للدولار، أي إنه فعلياً فقد نحو 100% من قيمته في الأسواق الموازية منذ بدء الأزمة الأوكرانية.
وبالتالي، هذه القفزات في سعر الدولار أمام الجنيه نسبتها أعلى من الـ25% التي تطرحها الحكومة، ولكن تشكل شهادات الإدخار جاذبية إلا إذا تباطأ تراجع الجنيه.
المشكلة الأكبر أن أزمة الجنيه المصري ليس سببها المضاربة ولكن الديون
ولكن المشكلة الأكبر تكمن في أن أزمة الجنيه المصري هذه المرة وأكثر من عام 2016 لا ترتبط بالأساس بالمضاربة على الدولار، ولا الفجوة في الميزان التجاري، ولكن بسبب الفجوة التمويلية نتيجة توسع مصر في الاقتراض الخارجي، مما رفع خدمة الدين بشكل كبير بالتزامن مع توقف الأموال الساخنة عن الاستثمار في الأوراق المالية المصرية بعد الحرب الأوكرانية.
وبالتالي، فإنه حتى لو توقف اكتناز الدولار أو تراجع، فإن الفجوة ما زالت قائمة، وسوف يشعر السوق بوطأتها فور تخفيف قيود الاستيراد، وخاصة بعد إعلان الحكومة وقف العمل بنظام الاعتمادات المستندية الذي كان يصعب عملية الاستيراد، إلتزاماً بتعهداتها لصندوق النقد الدولي.
وحتى لو أبقت الحكومة على قيود الاستيراد بشكل مختلف، فإن ذلك سيلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد، وسيظل هناك منافذ خلفية للاستيراد سوف تفتح، وبالتالي سوف يتواصل الطلب الطبيعي على الدولار، وفي ظل غياب مصادر لتلبيته وعدم التعويم الحقيقي للجنيه، سوف يخلق ذلك سوقاً موازية، وهو أمر انتقده صندوق النقد، حيث وضع توفير الدولار بسعر مرن ورفع قيود الاستيراد كشرط لاستكمال باقي القرض الذي تعهد به والذي يبلغ قيمته 3 مليارات دولار، قدم لمصر نحو 10% منه فقط.
واستكمال الحصول على قرض صندوق النقد، والوصول لسعر طبيعي وحر للجنيه المصري، هو شرط أساسي لتدفق الأموال والاستثمارات الخليجية التي تمثل السبيل الوحيد لسد الثغرة التمويلية التي تقدر بـ16 مليار دولار وفقاً لأدني التقديرات.
هل يكون القرار تمهيداً لتعويم حقيقي؟
وقد يكون قرار إصدار شهادات ودائع بهذه الفائدة المرتفعة تمهيد لعملية تعويم حقيقية للجنيه المصري، وأن يصبح سعره الرسمي مماثلاً لسعره في السوق الموازية (وبالفعل رفع البنك المركزي سعر صرف الدولار بشكل كبير)، وذلك عبر سحب السيولة من الأسواق منعاً للمضاربة على الدولار حينما يعاد تخفيض سعر الجنيه.
وقد يحتاج ذلك لخطوة صعبة على الحكومة المصرية هو إعلان سعر رسمي مماثل لمتوسط سعر السوق الموازية والسماح للحائزين على الدولار، باستبداله بالعملة المصرية في المصارف وشركات الصرافة دون فرض قيود، أو حتى تسجيل هوياتهم لطمأنتهم.
وسبق أن فعل البنك المركزي المصري خطوة مشابهة في عام 2016 بعد التعويم الأول، حيث استبق السوق السوداء ورفع السعر الرسمي لسعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، لـ18 جنيهاً (أعلى من السعر السائد في السوق الموازية آنذاك)، مما جعل الناس تقبل على تغيير عملاتها عبر القنوات الرسمية.
بالطبع الفارق الرئيسي بين الحالتين أن الضغط الرئيسي على العملة المصرية حالياً يأتي من أقساط وفوائد الديون، وليس تشوه الأسواق.
ويقول الخبير الاقتصادي المصري هاني توفيق، الذي ينظر له على أنه على علاقة جيدة مع قيادة النظام المصرفي المصري الحالية إن البنك المركزي سوف يعمل تدريجياً على رفع سعر الصرف الرسمي للجنيه، وليس فجأة كما حدث في 2016، للوصول لسعر صرف مرن، كما طلب صندوق النقد الدولي.
ومن الواضح أن ذلك سيتم مع فتح تدريجي وانتقائي وبطئ لعمليات الاستيراد لمنع إقبال المستوردين على الدولار، ولكن هذا سيفاقم مشكلات ارتفاع أسعار السلع ونقصها في الأسواق أو يؤجل حلها على الأقل، كما سيؤخر كل ذلك تدفق الاستثمارات الخارجية لاسيما الخليجية التي لن تدخل إلا عند تعويم الجنيه بشكل حقيقي، مع وصوله لسعره الأدنى، (لأنها لا تريد شراء أصول مصرية مقومة بجنيه مرتفع، ثم تنخفض قيمته فتخسر جزءاً من أموالها).
هل تسير مصر على خطى الأرجنتين؟ إليك الفرق بين الحالتين
ورغم أن قرار رفع الفوائد على الودائع الأخير لا يُعد رفعاً رسمياً لسعر الفائدة (التي رفعت بشكل كبير خلال الأشهر الماضية)، ولكنه قد يمثل شكلاً غير مباشر لرفع سعر الفائدة، وهو نموذج يذكر بالأرجنتين التي دخلت في صراع عبثي بين التضخم (90%)، ورفع الفائدة (التي وصلت لـ70%)، وتراجع العملة وسوء الإدارة واللامسؤولية الاجتماعية أفضى إلى تكرر عدم التزامها بسداد ديونها مرات متعددة، رغم مواردها الطبيعية الهائلة، وهذا أمر بدوره أفقدها ثقة رأسمال المال العالمي، واضطرها لرفع سعر الفائدة لأرقام فلكية؛ لكي تجتذب الرأسمال المخاطر، مما ضاعف أعباء الدين الذي يهدد بتكرار تعثرها عن السداد في دائرة مغلقة لا يبدو لها نهاية.
وتجدر الإشارة إلى أن مصر هي ثاني أكبر مقترض من صندوق النقد الدولي بعد الأرجنتين.
ويمثل رفع الفائدة على الودائع في أكبر بنكين في مصر عبئاً إضافياَ على الخزينة العامة والبنك المركزي وأكبر مصرفين في البلاد، في مؤشر على تزايد إضافي للدين العام المثقل أصلاً.
ومع أن مصر لديها مميزات قد تمنعها من السقوط في مسار الأرجنتين، مثل نظام الحكم القوي القادر على اتخاذ قرارات قاسية بعيداً عن المساومات الشعبية والاجتماعية، بما في ذلك فرض قيود صارمة على الاستيراد، ولكن يظل هذا الوضع يحمل أخطاراً بانفجار كبير لا يمكن السيطرة عليه.
كما أن هناك نقطة قوة مهمة لصالح مصر، مقارنة بكثير من الدول ذات الأوضاع المشابهة مثل الأرجنتين وسريلانكا وباكستان ولبنان.
وهذه النقطة هي دورها الهام بالمنطقة ووجود داعميها الخليجيين والغربيين الذين لديهم مصلحة سياسية وأمنية كبيرة في عدم سقوط البلاد في الفوضى، خاصة أن الاقتصاد المصري ليس كبيراً، وبالتالي أعباء إنقاذه على الداعمين الخارجيين أقل من أعباء تدهور حالة البلاد.
ولكن على الجانب الآخر، يؤشر صغر حجم قرض صندوق النقد الدولي، وغياب أي دعم غربي أو صيني حتى الآن، وقلة الدعم الخليجي، وتحفظ حركته حتى الآن، إلى أن هناك تغييراً لمعادلة الدعم مقابل الاستقرار التي أنقذ مصر مراراً وآخرها عام 2016، وقبلها تدفق الدعم الخليجي بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي عام 2013، خاصة أن تزايد حجم الدين العام من نحو 50 مليار دولار عام 2016 إلى أكثر من 170 ملياراً في العام الحالي، يؤشر إلى أن عملية إنقاذ مصر باتت تحتاج أموالاً أضخم، وأن وتيرة الفجوة التمويلية التي تتكرر كل عدة أعوام في تاريخ البلاد تنمو بمتوالية هندسية لا حسابية، مما يثير تساؤلات حول مدى قدرة الداعمين على الاستمرار في التدخل بالأزمات القادمة المحتمَلة، إذا لم يتغير النهج نفسه.
ويرى بعض النقاد أن هذا الدعم الخارجي من أسباب مشكلات مصر، لأنه منع الحكومات المتعاقبة من تنفيذ إصلاحات حقيقية غير شعبية والتركيز على التصدير، اعتماداً على هذا الدعم الذي شجّع كذلك على مدار عقود سياسات حكومية اقتصادية كثير منها غير رشيدة.