بعد عامين من اشتباك الهند والصين في سلسلةٍ من المناوشات الحدودية، احتفت كلتا الجارتين العملاقتين بإنشاء المناطق العازلة في منطقة لاداخ بجبال الهيمالايا مؤخراً، باعتبارها خطوةً كبيرة في طريق احتواء التوترات بينهما، لكن تقارير غربية تتحدث عن أن الاتفاق يظلم نيودلهي ويؤثر على حياة التجار والرعاة بالمنطقة.
ويقول تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية، إن انسحاب الهند من المناطق التي استحوذت عليها تاريخياً تسبب في حرمان قبيلة الشانغبا من المراعي الثمينة (أغلب أفرادها من البوذيين مع أقلية مسلمة).
إنها القبيلة التي قدَّمت للعالم صوف الكشمير المفضل لأباطرة المغول وزوجة نابليون
ويُذكر أن قبيلة الشانغبا هي قبيلة شبه رحالة من التبت، واشتُهرت بإنتاج صوف البشمين الكشميري، الذي كان يُوصف بـ"الذهب الناعم" في الماضي، وكان مفضلاً لدى ملوك المغول، ولدى الإمبراطورة جوزفين زوجة نابليون.
ومنطقة لاداخ هي هضبة يزيد ارتفاع معظمها على 3000 متر تمتد من جبال الهيمالايا إلى سلسلة جبال كونلون، تديرها الهند باعتبارها منطقة اتحادية، وتشكل جزءاً من منطقة كشمير الأكبر وكانت محل نزاع بين الهند وباكستان والصين منذ عام 1947، ونحو 46.4% من سكان المنطقة مسلمون و39.6% بوذيون و12% هندوس.
في التاسع من سبتمبر/أيلول، بعد عامين تقريباً من تبادل إطلاق النار بين جنود البلدين، في تصعيد مقلق للتوترات، أعلنت الهند والصين عن انسحابهما من منطقة الينابيع الساخنة في وادي جوغرا. وتُعَدُّ تلك المنطقة بمثابة موقع تخييم اعتاد التجار استخدامه قبل أجيال على طريق الهيمالايا، الذي يربط بين كشمير وبين سنجان في غرب الصين. وأثنت نيودلهي وبكين على ذلك التطور في الأحداث، لكن أبناء لاداخ لهم رأي آخر، حسب صحيفة Washington Post الأمريكية، التي تزعم أن الاتفاق يمثل تنازلاً من الهند، ويلحق الضرر بالسكان المحليين في منطقة لاداخ الذين أغلبهم من البوذيين والمسلمين.
الاتفاق الهندي الصيني يلحق ضرراً كبيراً بسكان منطقة لاداخ
وبصفته راعياً هندياً شاباً نشأ في جبال الهيمالايا، كان Tsering Angchok يترك ماعزته الثمينة ترعى في مرج شمال المياه البلورية لبحيرة بانغونغ، حتى خاضت الصين والهند معركة هناك عام 1962. واليوم ، أصبح شاطئ البحيرة موطناً لقاعدة عسكرية صينية، ويعتقد الخبراء الأمريكيون إنها تضم مرافق رادار جديدة ومواقع مدفعية للجيش الصيني.
وقال كونشوك ستانزين، ممثل الحكومة المحلية في لاداخ: "تقع جميع مناطق الرعي الشتوية الخاصة بنا تقريباً داخل المناطق العازلة المتفق عليها حديثاً. وجرى اقتطاع المناطق العازلة من أراضينا فقط، بينما لم تخسر الصين أي شيءٍ على الإطلاق".
ومن هنا بدأ تصديره إلى لندن وباريس
واعتادت قبيلة الشانغبا على تربية ماعز البشمين في تلك الجبال منذ قرون، على ارتفاعات تتجاوز الـ5,181 متراً. وتُنتج الماعز شديدة التحمل فراء ناعمة تشتهر بدفئها الشديد وخفة وزنها. ثم تقوم القبيلة بجز الصوف ونقله إلى وادي كشمير المجاور، حيث تحيك عائلات الحرفيين المهرة تلك الأنسجة الخام على أنوال خشبية لصنع الشالات، والملابس، والبطانيات الرائعة.
وابتداءً من القرن الـ19، كانت تلك الصادرات المطلوبة تُشحن من كشمير إلى المشترين المتحمسين في الأماكن النائية، وصولاً إلى باريس ولندن. ولا يزال اسم صوف الكشمير -المستوحى من اسم المنطقة- رمزاً لأجود أنواع الصوف حتى يومنا هذا، رغم أن غالبية الكشمير يأتي من الصين ومنغوليا وأفغانستان في الواقع.
بينما يقول الرعاة والنساجون على جانبي تجارة الصوف في لاداخ وكشمير إن الصعوبات التي يواجهونها تتزايد.
إذ اندلعت الاشتباكات المميتة بين القوات الهندية والصينية في يونيو/حزيران عام 2020، والتي وقعت باستخدام الأيدي والأسلحة البيضاء، وأودت بحياة عشرات الجنود، وتسببت في إغلاق المناطق التي كانت تحافظ على حياة قطعان قبيلة الشانغبا. وقبل ذلك التاريخ، كانت تكلفة الكيلوغرام الواحد من الكشمير الخام تبلغ 120 دولاراً. بينما وصلت التكلفة اليوم إلى نحو 220 دولاراً تقريباً وفقاً لشوكت أحمد مير (41 عاماً)، وهو من أبناء جيل الكشميريين الثالث، وعضو في تعاونية للنساجين بمدينة سري نكر.
منع السكان من الوصول للمراعي اضطر نيودلهي لإرسال الأعلاف لهم
وقال مير: "تعطلت إمدادات صوف الكشمير الخام. وإذا تواصل الصراع، فسنشهد انخفاضاً كبيراً في ماعز البشمين".
وأدى نقص المراعي إلى إلزام المسؤولين الهنود بالتدخل. إذ قال رافيندر كومار، سكرتير الحكومة المحلية لشؤون تربية الحيوانات والغنم، إن مكتبه وفر في العام الماضي نحو نصف مليون كيلوغرام من علف المواشي لمنطقة شانغ ثانغ التي تقطنها قبيلة الشانغبا.
وأوضح كومار: "لم نكن نمد المنطقة بأي شيء على أساس منتظم قبل يونيو/حزيران عام 2020. إذ توفّرت مساحات شاسعة من المراعي لقبيلة الشانغبا في السابق".
هل يستعد الجيش الهندي للانسحاب من منطقة أخرى؟
فيما قال ستانزين وغيره من القادة المحليين إن الرعاة حُرِموا من الوصول إلى منطقة أخرى مؤخراً، مما دفعهم للاعتقاد بأن الجيش الهندي يستعد للانسحاب من أرض شاسعة تُعرف باسم نقطة الدورية 16، لتتحول الأرض التي تبلغ مساحتها 388 كيلومتراً مربعاً في وادي نهر كوغرانغ إلى منطقة محرمة على السكان المحليين. وفي حال إخلاء الوادي، فسوف يُحرم الرعاة من الوصول إلى منطقة أكبر تمتد لـ1036 كيلومتراً مربعاً تقريباً، وفقاً للرعاة المحليين، الذين أعربوا عن مخاوفهم في الصحف والشبكات الاجتماعية الهندية دون أي رد فعل من مسؤولي نيودلهي.
ولا تحتوي المنطقة الجبلية المقفرة التي تتنازع عليها الهند والصين سوى على القليل من الموارد الطبيعية الجوفية، لكنها تتمتع بروافد أنهار مهمة مثل نهر السند. فضلاً عن أن تلك المرتفعات الاستراتيجية تؤدي إلى منطقتي كشمير والتبت، وهي من مناطق الاضطراب السياسي الهشة في عيون نيودلهي وبكين على الترتيب.
وحذر المسؤولون والمحللون العسكريون في الصين والهند والولايات المتحدة من أن الوضع في الحدود لا يزال متوتراً، رغم إنشاء المناطق العازلة.
ويبدو أن القادة الهنود غير راضين عن سلوك الصين، رغم التنازلات التي قدَّموها لها، حسب الصحيفة الأمريكية.
إذ صرح رئيس أركان الجيش الهندي مانوج باندي في نوفمبر/تشرين الثاني بأنه لم يلاحظ "انخفاضاً كبيراً" في أعداد القوات الصينية قرب لاداخ. وفي التاسع من ديسمبر/كانون الأول، اشتبك جنود الهند والصين في عراك بالهراوات والأيدي عند ولاية أروناجل برديش.
وفي أغسطس/آب، أعلنت الهند أنها ستنشر قواربها الهجومية البرمائية في بحيرة بانغونغ في منطقة لاداخ. وفي الوقت ذاته، شيّدت الصين منشآت رادار وقاعدةً للجيش وأحاطتها بالخنادق على الجانب الشمالي للبحيرة، حتى تستطيع إدارة فرقة قوامها 10 آلاف جندي منها. وجاءت تلك المعلومات وفقاً لتقرير صدر في نوفمبر/تشرين الثاني بواسطة خبراء صور الأقمار الصناعة، التابعين لمركز أبحاث Center for Strategic and International Studies.
وتعطلت الحياة اليوم في قريةٍ مثل فوبرانغ بسبب الأزيز الدائم لشاحنات الجيش الثقيلة التي تحمل الإمدادات للجنود على الحدود. وأعرب عمدة القرية، كونشاك ستوبغايس، عن شكواه من تلك التغييرات أثناء حديثه من داخل منزله.
إذ تحدّث أثناء تحليق مقاتلةٍ هندية على ارتفاعٍ منخفض في السماء، تاركةً خلفها سحابة دخانية ممتدة، قبل أن تختفي وراء قمم الجبال القاحلة. وأوضح ستوبغايس أن الجيش الهندي "ينظر لهذه المنطقة باعتبارها مجرد أرض مقفرة. لكن هذه الجبال هي شريان الحياة بالنسبة لنا".