فاجأ البنك المركزي المصري الأسواق برفع سعر الفائدة للمرة الرابعة خلال العام الجاري بمعدل يعد هو الأكبر، في وقت حرج على المستوى الاقتصادي، سواء المالي أو النقدي، وسط مزاعم بأن تلك الخطوة هي في سبيل كبح جماح التضخم.
رفع البنك المركزي، مساء الخميس 22 ديسمبر/كانون الأول 2022، سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، بواقع 300 نقطة أساس، لتصبح عند 16.25%، و17.25%، و16.75% على الترتيب، وهو ما يزيد على التوقعات التي كانت عند 200 نقطة أساس.
ويستهدف المركزي وفق بيانه الأخير خفض معدل التضخم إلى مستوى 7% (±2% نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2024، ومستوى 5% (±2% نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الأخير من عام 2026.
وكان التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية قد تسارع إلى أعلى مستوى في خمس سنوات عند 18.7%، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من 16.2% في أكتوبر/تشرين الأول الذي يسبقه، كما تسارع التضخم الأساسي إلى 21.5% من 19% في أكتوبر/تشرين الأول.
لماذ رفع المركزي المصري سعر الفائدة؟
يعد السبب الأبرز الذي يقود الاقتصاد المصري إلى أزمات أصبحت شبه يومية هو عدم وجود الوفرة الدولارية داخل الشارع المصري والقطاع المصرفي، الأمر الذي أدى إلى تراكم السلع المختلفة في الموانئ المصرية، وحدوث اضطرابات ملحوظة في أسعار الذهب وسعر صرف الدولار في السوق السوداء.
ما أفقد ثقة المتعاملين بالسوق المحلي في العملة المحلية ودفعهم إلى الدولرة (تحويل المدخرات المقومة بالجنيه إلى دولار)، وشراء الذهب للحفاظ على قيمة مدخراتهم، خاصة مع وصول سعر صرف الجنيه إلى مستويات قياسية تراوحت بين 30 و33 جنيهاً للدولار بالسوق السوداء، وشراء وبيع الذهب بالأسواق عند سعر صرف 30 جنيهاً للدولار.
ويؤدي هذا التراجع في سعر صرف العملة المصرية أمام الدولار إلى ارتفاع التضخم بشكل كبير، بجانب انخفاض القدرة الشرائية للمواطن الذي تراجعت قيمة حده الأدنى من الأجور، المقرر نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022، بثلاثة آلاف جنيه، من 152 دولاراً إلى 122 دولاراً، أي تراجع بنحو 20% إذا ما تم حساب سعر الصرف عند السعر الرسمي الحالي بحوالي 24.6 جنيه للدولار.
وبالتالي وفق تلك المعطيات يمكن القول إن ما يقود معدلات التضخم في البلاد ليس زيادة الطلب على السلع من قبل المستهلكين، لكي يكون الدافع الأساسي وراء رفع المركزي لسعر الفائدة.
ولكن انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار، وتراكم السلع والمنتجات في الموانئ، نتيجة عدم قدرة البنوك على فتح الاعتمادات المستندية للموردين لتوفير الدولار اللازم للاستيراد، أثر على طبيعة المعروض من السلع، ما أسهم في زيادة أسعارها.
يأتي بجانب ذلك ارتفاع أسعار المواد الخام والسلع الوسيطة بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، بالإضافة إلى تراكم الدين الخارجي على مصر، الذي بلغ 155.7 مليار دولار، وسط انخفاض احتياطيات البنك المركزي من العملات الصعبة ليتقلص من 40.1 مليار دولار في مارس/آذار الماضي إلى 33.5 في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
تعكس تلك الدلالات حقيقة قرار المركزي المصري، عقب لجوء الحكومة إلى صندوق النقد الدولي من جديد، لتوفير احتياجاتها من الدولار، ورفع معدل الفائدة بهدف صدور شهادات استثمار بالعملة المحلية ذات عائد مغر للمدخرين والمستثمرين، والذي من المتوقع أن يتجاوز عائدها الـ20%، وبالتالي تتجنب أكبر قدر ممكن من الدولرة المتوقعة نتيجة الانخفاض المرتقب للجنيه، والذي يأتي ضمن شروط الصندوق.
ووافق صندوق النقد الدولي على صرف 347 مليون دولار كشريحة أولى مباشرة، بعد موافقة مجلسه التنفيذي على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، وهو ما يعد أقل من نصف المبلغ الذي توقعته وزارة المالية، والبالغ 750 مليون دولار.
كما قالت رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر، فلادكوفا هولار، في حوار مع وكالة "رويترز": إن الصندوق سيراقب، عن كثب، تحول مصر إلى سعر صرف مرن بعد إلغاء الاعتمادات المستندية نهاية الشهر الجاري.
وتأتي محاولات المركزي، التي تسعى إلى تجنب الدولرة بمجرد حدوث خفض قادم في العملة المحلية، الذي قد يؤدي لصعود الدولار إلى مستويات ما فوق الـ40 جنيهاً في السوق السوداء، ضمن مساعي لجم سقوط الجنيه، الذي فقد نحو 57% من قيمته منذ مارس/آذار 2022، وفق السعر الرسمي.
إلا أن هذا السقوط المستمر على مدار العام الحالي أفقد المتعامل المحلي الثقة في الجنيه، خاصة أن أصحاب الشهادات الاستثمارية الحالية سيتخلون عن تلك الشهادات لشراء تلك الجديدة، التي ستكون ذات عائد أكبر في مشهد يعيد نفسه للمرة الثانية خلال العام الجاري، وذلك في سبيل تقليص فجوة الفائدة الحقيقية (معدل الفائدة مطروحاً من التضحم)، أما أصحاب الدولارات فلن يقبل أحد منهم على تلك الشهادات، في ظل الشكوك المحيطة بالجنيه.
ما تأثير رفع الفائدة على الاقتصاد؟
التماشي مع السياسة التشديدية النقدية التي تنتهجها اقتصادات الدول المتقدمة ما هو إلا محض تقليد أعمى، دون وجود دراسة حقيقية لمردود رفع معدل الفائدة الذي زاد على مدار العام الحالي 800 نقطة أساس أي 8%.
إذ إن رفع سعر الفائدة في اقتصاد يعاني قطاعه الخاص من انكماش كبير على مدى 24 شهراً على التوالي، بجانب عدم قدرة القطاع على توريد جميع مستلزماته من الإنتاج، في ظل عجز الدولة عن توفير الدولار، أمر خطير كونه يزيد من الصعوبات أمام هذا القطاع، الذي من المفترض أن تعمل الحكومة على دعمه لتحفيز الصادرات التي تجلب العملة الصعب.
ويعد مؤشر ستاندرد آند بورز غلوبال، لمديري المشتريات في مصر، الذي يقيس أداء القطاع الخاص غير النفطي خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، هو الأسوأ منذ تفشي وباء كورونا في مطلع عام 2020، مسجلاً 45.4، وهو أقل بكثير من الحد الفاصل بين النمو والانكماش والبالغ 50.
كما أن رفع معدل الفائدة بمقدار 1% يؤدي إلى زيادة فوائد الدين العام في الموازنة العامة، بواقع 28 مليار جنيه، وفق تقديرات رئيس لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب المصري فخري الفقي، إلا أن بعض التقديرات تذهب إلى أن كل زيادة بمقدار 1% تكبد الحكومة 50 مليار جنيه؛ نظراً لأن الدين المحلي المصري يتجاوز الخمسة تريليونات جنيه.
يأتي ذلك في وقت تستحوذ فيه فوائد الدين الحكومي وأقساطه على نسبة 54% من مجمل الإنفاق بالموازنة الجديدة للعام المالي 2022/ 2023، بواقع تريليون و656 مليار جنيه وفق التقديرات الأولية، وهي النسبة المرشحة للزيادة وسط تلك الزيادات في معدل الفائدة.
كما أن رفع الفائدة الحاصل يقود هو الآخر إلى انكماش اقتصادي، حيث سيتّجه المستثمرون في البلاد إلى إيداع ما يملكونه في البنوك، للاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة، بدلاً من المخاطرة بها عبر إقامة مشاريع في ظل عدم اليقين.
وهو ما يعني ارتفاع معدلات البطالة، وإغلاق بعض الشركات القائمة، ما سيزيد من معاناة المواطن المصري، الذي يعاني من بطالة بلغت 7.4% خلال الربع الثالث من عام 2022.
وهنا تأتي المعادلة الأصعب على الإطلاق، وهي أن المواطن سيتجرّع مرارة حدثَين في آن واحد، هما الأخطر على الإطلاق: ارتفاع التضخم والنمو المتضائل، فيما يُسمّى اقتصاديّاً بالركود التضخمي.
كما أن الحديث عن أن رفع الفائدة سيسهم في جذب دولارات الأموال الساخنة في الوقت الحالي هو حديث واهم من الدرجة الأولى، خاصة في ظل سياسة الفيدرالي الأمريكي التشديدية الجاذبة للأموال القابعة في الدول الناشئة مثل مصر، والتي يُتوقع أن تستمر خلال العام القادم، بهدف الوصول إلى معدل فائدة يحوم حول 6%.
ما مستقبل اقتصاد مصر في ظل تلك المعطيات؟
في ظل تلك الأزمات الاقتصادية الحالية، فإن الحكومة المصرية لطالما اعتادت الاعتماد على المسكنات، بدلاً من إيجاد حلول جذرية، ما يعني بقاء الدولة أسيرة صندوق النقد وشروطه، إلا أن ما جد في الأمر هو لجوء مصر إلى بيع أصولها في سبيل التخلص من عاتق ديونها الاستهلاكية.
ويتطلع المسؤولون في مصر إلى قروض إضافية من دول الجوار، وبخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، بفضل قرض الصندوق، قدّرها صندوق النقد الدولي بنحو 14 مليار دولار.
وتسعى مصر إلى خلق مبادرات عديدة لجذب الدولار، من بينها تقديم وحدات سكنية بالمدن الجديدة للعاملين في الخارج، على أن يتم السداد بالدولار عبر التحويل البنكي، كذلك تقديم تيسيرات للمصريين المقيمين في الخارج، بشأن استيراد سيارات مقابل مبلغ دولاري يتم إيداعه لصالح وزارة المالية لمدة 5 سنوات بدون عائد.
إلا أن تلك المبادرات جاء الإقبال عليها ضعيفاً، ولم تجنِ ثمارها حتى الآن، وفق تصريحات تلفزيونية لعضو مجلس إدارة الاتحاد العام للمصريين بالخارج محمد أبو العيش.
ومع صرف الصندوق لشريحة أولى بقيمة 347 مليون دولار المخيبة لتوقعات الحكومة، فإن ذلك يعني استمرار حالة الاضطراب في سعر صرف الدولار، خاصة أن البضائع المكدسة في الموانئ فقط تصل قيمتها لنحو 6 مليارات دولار.
فضلاً عن أن مصر قامت بتسديد 318 مليون دولار يوم الخميس الماضي لصندوق النقد الدولي، وذلك عن قيمة أحد أقساط قرض حصلت عليه في 2016، ما يعني أن صافي ما ستحصل عليه البلاد هو 29 مليار دولار كفارق بين الدفعتين.
وتحتاج مصر إلى 28 مليار دولار حتى نهاية 2023 من أجل عملية إعادة تمويل ديون مستحقة السداد، ودفع فوائد الديون وتمويل عجز الحساب الجاري، بحسب مصرف "دويتشه بنك"، بجانب 20 مليار دولار إضافية مطلوبة في السنة التالية.
وليس بإمكان صافي الاحتياطيات النقدية الدولية لمصر، الذي يفوق بقليل 33 مليار دولار، تحمّل هذا العبء، وتسبب ذلك في مخاوف من أن مصر ستستمر بحاجة للجوء إلى أسواق الديون التي تشهد معدلات فائدة عالية، ما يعني مزيداً من الارتفاع في أعباء الدين الخارجي.
ودفعت تلك المعطيات الاقتصادية المتأزمة وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2022، إلى تعديل نظرتها المستقبلية لمصر إلى "سلبية"، بعد أن كانت "مستقرة".
وأرجعت الوكالة ذلك إلى تدهور وضع السيولة الخارجية للبلاد، وتراجع قدرتها على الوصول لأسواق السندات، وأعلنت في بيان تثبيت التصنيف الائتماني لمصر عند (B+).
وحذرت الوكالة بشأن خفض تصنيف مصر الائتماني قائلة، إن عجز ميزان المعاملات الجارية المتضخم، ومدفوعات الديون الأجنبية البالغة 33.9 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة حتى منتصف 2025، يجعلان مصر عرضة للخطر.
واعتبر بنك نومورا الياباني، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أن مصر هي الدولة الأكثر عرضة لأزمة عملة بين الأسواق الناشئة خلال الأشهر الـ12 المقبلة، وفقاً لنموذج الإنذار المبكر الخاص بالبنك لأزمات أسعار الصرف في الأسواق الناشئة، والمعروف باسم داموكليس.
ويبقى الحل الأمثل أمام الاقتصاد المصري في الوقت الراهن هو العمل على تحفيز القطاع الإنتاجي ودعمه لتحفيز الصادرات التي تعد المصدر الأول للدولار في أغلب الدول، وبخاصة الصناعية، بالإضافة إلى كونه يعمل على تقليل الاعتماد على الخارج، ما يقلص من حجم الطلب على العملة الخضراء ويدعم العملة المحلية.