زيارة فولوديمير زيلينسكي إلى أمريكا بعد ساعات من وجود فلاديمير بوتين في بيلاروسيا، وما يحيط بتلك التحركات المفاجئة، مؤشرات "غير جيدة" بالنسبة للحرب في أوكرانيا، فماذا يحدث؟
إذ أعلن الرئيس الأوكراني زيلينسكي بشكل مفاجئ، الأربعاء، 21 ديسمبر/كانون الأول، أنه في طريقه إلى الولايات المتحدة لإجراء محادثات مع الرئيس الأمريكي جو بايدن وإلقاء كلمة في الكونغرس.
وقال زيلينسكي على حسابه بمنصة تويتر "في طريقي إلى الولايات المتحدة لتعزيز قدرات أوكرانيا على الصمود والدفاع"، وأضاف "سأناقش أنا والرئيس الأمريكي التعاون بين أوكرانيا والولايات المتحدة. سألقي كلمة أيضاً في الكونغرس وعدد من الاجتماعات الثنائية".
لماذا يزور زيلينسكي أمريكا في هذا التوقيت؟
قياساً على التطورات المحيطة بالحرب في أوكرانيا خلال الأسابيع القليلة الماضية، قد تكون زيارة الرئيس الأوكراني إلى واشنطن مؤشراً على قرب التوصل إلى اتفاق سلام يُنهي تلك الحرب الكارثية، ليس فقط بالنسبة لطرفيها أو لأوروبا، حيث تدور رحاها، ولكن بالنسبة للعالم أجمع.
فمنذ حديث "القنبلة القذرة" خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول (تسريبات روسية تحدثت عن استعداد كييف لتفجير قنبلة إشعاعية في ساحة الحرب وإلقاء اللوم على موسكو)، فتحت إدارة بايدن خط اتصال مباشر مع الكرملين وبدا واضحاً أن هناك لغة خاصة بين موسكو وواشنطن، في إطار الشد والجذب المتبادلين، تحرص على ألا يقع صدام مباشر بين القوتين النوويتين الأكبر في العالم.
وتم تفعيل خط اتصال مباشر بين موسكو وواشنطن للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب، وبعدها مباشرة بدأ الحديث عن احتمال التوصل لتسوية سلمية توقف الحرب. وخلال تلك الفترة، أصبح الحديث عن ضرورة التوصل لتسوية سلمية تؤدي إلى إيقاف الحرب هو سيد الموقف في أروقة السياسة في واشنطن خصوصاً، وفي الغرب عموماً، والأمر نفسه كان يصدر بشكل دوري عن الكرملين أيضاً.
فدخول فصل الشتاء المرعب في ظل أزمة طاقة خانقة وأوضاع اقتصادية مضطربة في أوروبا، والتضخم والانقسام الداخلي في أمريكا، جعلت الغرب يقتنع أخيراً أن الحرب في أوكرانيا، فبدأت الضغوط على زيلينسكي كي يتفاوض مع روسيا.
ثم سقط صاروخ على بولندا، عضو حلف الناتو، فسارع بايدن إلى التصريح بأنه "يصدق" أن موسكو ليست من أطلق الصاروخ، في تكذيب صريح لرواية كييف، وبعد استهداف العمق الروسي، سارعت واشنطن إلى التأكيد على أنها "لا تشجع ولا تساعد كييف" على مثل التصرفات.
وبالتالي، فإن وصول زيلينسكي بشكل مفاجئ إلى واشنطن في هذا التوقيت يمكن تفسيره على أنه الخطوة الأخيرة قبل الإعلان عن التوصل لاتفاق ينهي الحرب، فالصراع في جوهره جيوسياسي بين موسكو وواشنطن بالأساس.
لكن التصريحات الصادرة من واشنطن تشير إلى الاتجاه المعاكس تماماً، إذ من المقرر أن يعلن بايدن عن حزمة مساعدات إضافية إلى أوكرانيا بقيمة 1.8 مليار دولار، تتضمن صواريخ باتريوت، بحسب تقرير لشبكة CNN نقلاً عن مصادر وصفتها بالمسؤولة في البيت الأبيض. كما أرسلت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، رسالة إلى جميع أعضاء المجلس تطالبهم فيها "بالحرص على وجودها شخصيا لحضور جلسة تركز بشكل خاص على الديمقراطية"، خشية أن تكون قاعة المجلس خالية بسبب تعليق الجلسات في موسم الأعياد.
ماذا عن زيارة بوتين إلى بيلاروسيا؟
على الجانب الآخر، قام بوتين بزيارة أبرز حلفاء روسيا وهي بيلاروسيا خلال اليومين الماضيين، وعلى الرغم من أن مينسك اختارت إبقاء جيشها بعيداً عن الهجوم الروسي على أوكرانيا حتى الآن، فإنه تُوجد مؤشرات متزايدة على احتمالية تغيير الوضع قريباً، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "بيلاروسيا تقترب من غزو أوكرانيا".
وأظهرت لقطات الأقمار الصناعية مؤخراً عدداً من طرقات الغابات الممهدة حديثاً، وبعض تحركات المعدات العسكرية البطيئة، باتجاه حدود أوكرانيا الشمالية، ويرى العديد من الخبراء في ذلك مؤشراً على أن روسيا البيضاء (بيلاروسيا) ستكون الجبهة الجديدة في الهجوم الروسي على أوكرانيا.
ولا شك أن الحكومة الأوكرانية بدأت تشعر بالقلق من إطلاق هجومٍ جديد من الشمال مطلع العام المقبل، ويأتي ذلك القلق مدفوعاً بوصول المعدات الجديدة، وعملية "مكافحة الإرهاب" الأخيرة، وعمليات تفتيش الجنود المفاجئة التي ينظمها الجيش البيلاروسي.
فقد زادت أعداد القطارات التي تنقل الجنود والمعدات من الحدود الروسية إلى بلدة برست في جنوب غرب بيلاروسيا، وذلك بالقرب من الحدود بولندا، وأفادت وكالة Interfax الروسية بأن القوات الروسية في بيلاروسيا ستُجري مناورات تكتيكية قريباً.
بينما تحدثت مجلة Foreign Policy الأمريكية إلى "أرتيوم"، الذي اشترط إخفاء هويته؛ لأنه كان مقدماً في قوة العمليات الخاصة البيلاروسية قبل أن ينشق عن الجيش ويفر إلى أوروبا.
وقال أرتيوم من البلد الذي لجأ إليه إن نشر القوات البيلاروسية في أوكرانيا سيمثل مقامرةً من الرئيس ألكسندر لوكاشينكو. وأردف أرتيوم: "يبذل لوكاشينكو قصارى جهده لعدم إرسال الجيش إلى أوكرانيا. إذ يُدرك أن الوحيدين الذين يمكنهم إبقاؤه في السلطة هم الجيش وقوات الأمن. وستتعرض تلك القوات للموت والإصابات إذا ذهبت إلى أوكرانيا، ما سيمثل كارثةً بالنسبة له. ويزعم لوكاشينكو أن 'بولندا تخطط لمهاجمتنا'، ولهذا نحتاج لإرسال الجيش إلى الحدود. لكنه يفعل ذلك لأنه تحت رحمة بوتين".
ويتفق غالبية المحللين مع الرأي القائل إن لوكاشينكو متردد في إرسال قواته للقتال في أوكرانيا بسبب وضعه الأمني المحفوف بالمخاطر في أرض الوطن، وذلك عقب القمع الوحشي لسلسلةٍ من الاحتجاجات الحاشدة عام 2020 ومجموعة من الاعتقالات السياسية الجماعية. وقالت هانا ليوباكوفا، الخبيرة البيلاروسية والزميلة غير المقيمة في مركز Atlantic Council البحثي، إن خسارة الجنود في أوكرانيا ستخلق حالة عدم استقرار للوكاشينكو في بيلاروسيا.
وأوضحت هانا: "ستؤدي خسارة الجنود إلى زيادة الاستياء في البلاد. وتُخبرنا استطلاعات الرأي بوجود قطاع كبير من المجتمع يُعارض نشر القوات في أوكرانيا. وسيكون من الصعب تبرير الأمر سياسياً. إذ يضم الجيش البيلاروسي مجندين وشباباً ليسوا من ذوي الرتب العالية، وليسوا متحمسين للقتال. وإذا عادت جثثهم إلى بيلاروسيا، فربما تندلع الاحتجاجات بسببها. ومن الصعب تقدير حجم الاحتجاجات المتوقعة، لكنها ستمثل عاملاً يُزعزع استقرار لوكاشينكو".
هل تستعد بيلاروسيا للمشاركة في حرب أوكرانيا؟
وتتفاوت تقديرات أعداد القوات الموجودة عند الحدود اليوم، لكن المصادر الأمنية الأوكرانية تقول إنهم يستعدون بأكثر من 30,000 جندي، ويشمل ذلك الرقم التعزيزات الروسية. فيما أوضحت هانا أن القوات البيلاروسية لا تمثل سوى جزء بسيط من ذلك الرقم. وأردفت: "كانت لدينا عدة كتائب مستعدة للقتال في بداية الحرب، ووصل قوامها الإجمالي إلى نحو 10,000 جندي. ومن الواضح أن هذا الرقم لن يكفي لتحطيم أوكرانيا، لكن خسارته ستمثل مشكلةً للوكاشينكو".
وترسم قنوات تليغرام الخاصة بموظفي النقل البيلاروسيين مخططات لحركة الجنود والمعدات باتجاه الحدود البولندية اليوم. وذكرت إحدى القنوات التي تحظى بمتابعة واسعة النطاق أن أحد أيام الأسبوع الماضي شهد نقل 310 من الجنود مع معدات عسكرية إلى برست، قادمين من مدينة فيتيبسك الشمالية الشرقية، التي تبعُد نحو 60 كيلومتراً عن الحدود الروسية.
وأظهرت صور الأقمار الصناعية أيضاً حركة المركبات العسكرية عبر الطرقات المتعرجة الممهدة حديثاً، وذلك داخل منطقة غابات حدودية أخرى. وأثار هذا الأمر قلق كييف، التي تؤمن باحتمالية إضافة 20,000 جندي روسي إلى الكتائب البيلاروسية لتكوين جبهةٍ جديدة.
وأفاد أرتيوم بأن ضغوطات الحكومة الصريحة تمثل أحد الدوافع الأساسية التي تقنع الجنود البيلاروسيين بالبقاء في الجيش، وأوضح: "ظهرت شائعات عن سحب جوازات السفر من أفراد الجيش".
أما فادزيم كابانشوك، فهو نائب قائد فوج كاستوس كالينوفسكي، المؤلف من متطوعين بيلاروسيين تحت قيادة القوات المسلحة الأوكرانية. ويؤمن كابانشوك بأن بيلاروسيا ستدخل الحرب قريباً. وأوضح كابانشوك: "لا يريد 8 من أصل كل 10 جنود في الجيش خوض هذه الحرب. وسينهار الجيش إذا دخلوا أوكرانيا. وسيستسلم أولئك الجنود بدخول السجن، أو بالانشقاق والانضمام إلى صفوفنا. ويُدرك لوكاشينكو هذا الأمر جيداً، ولهذا يحاول تجنبه. ومع ذلك، أعتقد أن الصراع سيتصاعد أكثر بدرجةٍ خارجة عن سيطرته، وسيشمل ذلك التعبئة الكاملة ومشاركة الجيش البيلاروسي في الحرب".
ورغم ذلك، ستواجه القوات الروسية صعوبة في اجتياز المنطقة الحدودية الملغومة بشدة دون تكبد الكثير من الضحايا. بينما يزعم البعض أن التعبئة تعد جزءاً من عملية معلوماتية استراتيجية لتشتيت انتباه كييف بظهور جبهةٍ جديدة، وذلك بالتزامن مع استمرار أوكرانيا في قتال القوات الروسية جنوب وشرق البلاد.
وصرحت هانا بأن الهجوم الفوري مستبعَد، لكنه يظل ممكناً في ظل استمرار تعبئة القوات. وقالت: "أعتقد أنها عملية معلوماتية من تنظيم روسيا، وهذه هي طريقة النظام في المساعدة. حيث يتعاونون مع روسيا. ولا أعتقد أن الهجوم الفوري سيكون ممكناً لعدم وجود قوات كافية مستعدة للهجوم. لكن الكثيرين منا أخطأوا التقدير في فبراير/شباط الماضي. بينما يرى بوتين أن الاستيلاء على كييف يمثل النقطة الأكثر منطقية من وجهة النظر العسكرية، ولا شك أن أسرع طريق للوصول إلى كييف يمر عبر بيلاروسيا".
ورجّح تقرير استخباراتي لوزارة الدفاع البريطانية، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وجود اثنتين من المقاتلات الاعتراضية من طراز ميغ-31 فوكسهاوند داخل قاعدة ماتشوليشي الجوية جنوب مينسك. وأبلغت بعض التقارير عن عدة مشاهدات لحاويةٍ يُعتقد أنها تحوي صاروخ كينجال البالستي الجوي الروسي، الذي يمثل درة تاج أسلحة مقاتلات ميغ-31. وتعتقد وزارة الدفاع البريطانية أن الحاوية تُعَدُّ جزءاً من عملية معلوماتية تهدف لإعلان مشاركة بيلاروسيا المتزايدة في الحرب.
أما الخاسر المؤكد في الهجوم الجديد فسيكون لوكاشينكو، الذي أجّل إرسال الجنود ليكسب رضا شعبه. لكن ذلك الرضا سيتبخر سريعاً إذا بدأت الشاحنات في العودة من الجبهة إلى بيلاروسيا مُحمّلةً بالجثث.
ويرى أرتيوم أن المشاركة في الحرب يمكن أن تؤدي إلى خلق حالة فوضى لآخر ديكتاتور في أوروبا. وتحظى روسيا بدعمٍ كبير داخل الجيش الأوكراني، لكن الجنود يفتقرون إلى الدوافع المحفزة للقتال من أجل بوتين.
وأوضح أرتيوم: "يقولون لهم إن جرائم الحرب الروسية هي جزءٌ من الحرب النفسية. ويصدق بعضهم تصريحات لوكاشينكو. لكن غالبيتهم لم يغادروا بيلاروسيا من قبل، أو ربما خضعوا للتدريبات العسكرية داخل روسيا في أفضل السيناريوهات. ويدعم الكثيرون روسيا، لكن لن يرغب أحدٌ في القتال من أجلها؛ لأنهم يعلمون أنها ليست حربهم".
الخلاصة هنا هي أن زيارة زيلينسكي المفاجئة إلى واشنطن، والتحركات العسكرية المكثفة في بيلاروسيا، قد تكون مؤشرات على الاستعداد لجولة جديدة من الحرب في أوكرانيا، وقد تكون أيضاً استعراضاً للقوة من الجانبين في إطار مفاوضات تجري بعيداً عن الإعلام، والأيام القليلة المقبلة ستكشف ماذا ينتظر العالم في العام الجديد.