تنافس شرس بين القوى الكبرى؛ لبسط النفوذ والهيمنة على دول القارة الإفريقية وبأشكال مختلفة، مع صعود قوى جديدة مثل الصين، وتراجع قوى تقليدية مثل فرنسا، وعودة قوى آفلة مثل روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي.
وازدادت الأهمية الاستراتيجية للقارة السمراء، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وبداية تراجع نظام القطب الواحد العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وصعود التنين الصيني كثاني أكبر اقتصاد في العالم، واحتفاظ روسيا بأكبر ترسانة للأسلحة النووية، وامتلاكها لصواريخ الهايبرسونيك التي لا يوجد مثيل لها في العالم، وصعود تركيا بقوتها الناعمة لتنافس الكبار.
فإفريقيا بالنسبة للدول الكبرى سوق كبيرة تضم أكثر من مليار نسمة، يمثلون 17.5% من سكان العالم، ولكن القارة الأسرع نمواً، حيث تتوقع الأمم المتحدة أن "يحدث أكثر من نصف النمو السكاني العالمي بين 2022 وعام 2050 في القارة السمراء، 41% منهم تحت سن 15 عاماً.
فبينما تشيخ أوروبا، فإن القارة السمراء الأكثر شباباً وفتوة، لذلك إفريقيا هي المستقبل، ليس فقط بسبب نموها السكاني السريع، بل أيضاً لما تختزنه من ثروات طاقوية ومعدنية، تجلى ذلك أكثر بعد أزمة الطاقة التي خلفتها محاولات أوروبا إيجاد بدائل للغاز الروسي، والأزمة بين الصين وأستراليا التي دفعت الأولى للبحث عن خامات الحديد في إفريقيا.
وكانت إفريقيا من بين هذه البدائل الجاهزة، التي لا تحتاج سوى ضخ مزيد من الاستثمارات، وربطها بخطط واستراتيجية طويلة الأمد، حتى يكون لها جدوى اقتصادية ولا تكون حاجة مرحلية.
أهمية إفريقيا تكمن أيضاً في تأثيرها السياسي، حيث تملك 54 صوتاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة من إجمالي 193 عضواً، ما بين الثلث إلى الربع، وهذا الرقم يعتبر حاسماً في حال الصراع بين الكتلتين الغربية (الولايات المتحدة وحلفائها) والشرقية (روسيا والصين)، مثلما جرى عند التصويت على إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.
لذلك يطالب الاتحاد الإفريقي بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وأيضاً في مجموعة العشرين، الأكثر غنى في العالم، والتي توجد بها جنوب إفريقيا، والتي هي أيضا عضو في مجموعة البريكس إلى جانب روسيا والصين والبرازيل والهند.
فالدول الإفريقية لم تعد كما في السابق خاضعة وتابعة لمستعمرها القديم، بل أصبح العديد منها أكثر استقلالية، بل إن الجزائر فرضت عقوبات على دول أوروبية مثل إسبانيا وفرنسا، وهو ما علق عليه وزير الخارجية الإسبانية بأنها المرة الأولى التي تفرض فيها دولة إفريقية عقوبات على دولة أوروبية.
الأمر لم يتوقف عند تحدي إفريقيا للغرب سياسياً، بل امتد أيضاً للجوانب الرياضية، عندما تمكن أول منتخب إفريقي (المغرب) من الوصول إلى المربع الذهبي، في كأس العالم لكرة القدم "قطر 2022".
فالعالم يتغير بسرعة نحو نظام متعدد الأقطاب، وإفريقيا ستستفيد من هذا التنافس الدولي لكسب شراكتها، في شكل استثمارات وقروض ومنح ومساعدات عسكرية وأمنية، والقدرة على تنويع شراكاتها دون الخضوع لإملاءات أي طرف.
غير أن ذلك يختلف من دولة إفريقية إلى أخرى، فالصراع بين القوى الكبرى شرس، وقد تفقد بعض الدول سيادتها إذا أُغرقت في الديون، والقواعد العسكرية، والشركات الأمنية، لمواجهة أزمتي الفقر وتردي الأمن.
فالعملاق الصيني يستخدم سلاح القروض، ومشاريع البنية التحتية والتعدين، بينما تركز روسيا على صادرات السلاح ودور شركة فاغنر الأمنية في دعم الحكومات لمواجهات التهديدات الأمنية.
أما الولايات المتحدة، فتركز على قواعدها العسكرية المنتشرة في القارة مع منح محدودة تقدمها لبعض الدول، فيما تعتمد فرنسا على إرثها الاستعماري وانتشار لغتها في عدد لا باس به من الدول الإفريقية، وهيمنتها على عملة الفرنك الإفريقي، سواء لمنطقة غرب أو وسط إفريقيا.
لكن الغرب إجمالاً ما زال يهيمن على قطاع النفط والغاز في القارة السمراء عبر شركات متعددة الجنسيات، أبرزها "توتال" الفرنسية، و"إيني" الإيطالية، وإيكسون موبيل الأمريكية، و"بي بي" البريطانية، و"شل" الهولندية- البريطانية..
العودة الأمريكية
أمام الاختراقات الصينية والروسية على أكثر من صعيد أمني واقتصادي ودبلوماسي في إفريقيا، تسعى الولايات المتحدة للتحرك سريعاً لإنقاذ نفوذها في القارة السمراء، خاصة بعد إخفاقات حلفائها الأوروبيين، وعلى رأسهم الفرنسيون في وسط القارة وغربها.
وفي هذا السياق، انعقدت القمة الأمريكية الإفريقية (الثانية)، في واشنطن، ما بين 13 و15 ديسمبر/كانون الأول 2022، بحضور 49 زعيم دولة إفريقية من إجمالي 55 عضو في الاتحاد الإفريقي، ما يعني غياب 6 زعماء قادة أفارقة، إما لأن عضوية بلدانهم معلقة في الاتحاد لوصولهم إلى السلطة عبر انقلابات مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو، أو عدم اعتراف واشنطن بدولهم على غرار "الجمهورية العربية الصحراوية".
وتدرك واشنطن أن احتياجات إفريقيا تختصر في 3 كلمات؛ الأمن والتنمية والدبلوماسية.
لذلك تحضر واشنطن لإطلاق حزمة مساعدات ضخمة للدول الإفريقية تبلغ 55 مليار دولار خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، لتعزيز مكانتها كأكبر مانح لإفريقيا جنوب الصحراء، بمساعدات تتراوح ما بين 6.5 و7.5 مليارات دولار سنوياً، وفق موقع "صوت أمريكا" الإخباري.
وأعلنت واشنطن دعمها لمطلب الدول الإفريقية بمنح مقعد دائم لإفريقيا في مجلس الأمن الدولي، لكسب تأييدها في معاركها الدبلوماسية في الأمم المتحدة ضد روسيا، التي تساند عضوية الهند والبرازيل في المجلس.
عسكرياً وأمنياً، توجد الولايات المتحدة الأمريكية في إفريقيا عبر عدد من القواعد الدائمة وغير الدائمة، أبرزها في جيبوتي والنيجر.
وقلصت واشنطن في السنوات الأخيرة وجودها في إفريقيا، وسحبت قواتها من عدد من الدول أبرزها الصومال، لكنها طائراتها المسيّرة ما زالت تنشط في أكثر من بلد إفريقي، سواء من أجل الرصد والاستطلاع، أو عبر القيام بعمليات هجومية ضد تنظيمات إرهابية على غرار "حركة الشباب" الصومالية.
طوفان القروض الصينية
من بين كل دول النافذة في إفريقيا، تتحرك الصين كالطوفان الصامت في كامل أرجاء القارة، بعدد من المشاريع والقروض والمنح، مستغلة الإخفاقات والتراجع الفرنسي والأمريكي في أكثر من بلد وأكثر من ميدان.
وأحدث مثال على تحرك الصين لملء الفراغ الغربي يتجلى في مالي، التي شهدت مؤخراً تمويل بكين لوحدتي غزل بـ200 مليون دولار، عقب وقف فرنسا مساعداتها التنموية لمالي، بل تم تنظيم أول منتدى للتعاون الصيني-المالي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
فإفريقيا، المتعطشة للقروض لتمويل مشاريع بنيتها التحتية، وجدت في الصين المنقذ من شروط الدول الغربية الثقيلة والقاسية أحياناً للحصول على تمويلات لهذه المشاريع، فبكين لا تعبأ كثيراً بالديمقراطية وحقوق الإنسان في إفريقيا.
فمصلحة الصين من تمويل مشاريع البنية التحتية في الدول الإفريقية، خاصة الموانئ والمطارات وخطوط السكك الحديدية والطرق السريعة، ليس فقط الربح المادي من فوائد الديون ومستحقات شركات الإنشاءات الصينية، بل أيضاً تسهيل وصول السلع الصينية للأسواق الإفريقية بأسرع الطرق الممكنة، وهو ما تهدف لتحقيقه مبادرة الحزام والطريق.
وتساعد القروض الصينية السخية لإفريقيا في الحفاظ على قيمة اليوان منخفضة، لأن بقاء مئات مليارات الدولارات من مداخيل الصادرات الضخمة سنوياً في السوق الصينية سيرفع من قيمة اليوان، ما يجعل السلع الصينية أغلى وأقل تنافسية مع نظيرتها الأجنبية.
وليس ذلك فقط، فعجز الدول الإفريقية عن سداد ديونها المستحقة يجبرها على التنازل عن الأصول، مثلما حدث لمطار عنتيبي في أوغندا، ما يخدم سياسة الصين في الاستحواذ على الموانئ والمطارات الاستراتيجية التي توجد ضمن مسار طريق الحرير الجديد، أو التي تلقب بـ"اللآلئ الصينية" عبر إيقاع هذه الدول في "فخ الديون".
إذ إن نحو ثلثي الديون الإفريقية، البالغة 365 مليار دولار، مصدرها الصين، وهذا ما يمنح بكين قوة ناعمة في إفريقيا، ويجعلها سندا لها في دعم قضاياها المصيرية وعلى رأسها قضية تايوان، أو ما يسمى بـ"الصين الواحدة"، وكذلك قضايا حقوق الإنسان في تركستان الشرقية، وفي هونغ كونغ.
كما أن القاعدة العسكرية الصينية الوحيدة خارج البلاد تقع في إفريقيا وليس في آسيا، وبالتحديد في جيبوتي، عند مضيق باب المندب، العنق الذي تعبر منه التجارة الصينية من بحر العرب وخليج عدن إلى البحر الأحمر، ثم البحر الأبيض المتوسط.
وحاولت الصين إقامة قاعدة عسكرية في غينيا، بحسب مزاعم أمريكية، لكن ضغوطاً أمريكية على كوناكري حالت دون ذلك.
وتمثل الدول الإفريقية من أهم أسواق السلاح الصيني بعد سوق جنوب آسيا (باكستان وبنغلاديش وميانمار).
روسيا.. صفقات السلاح وفاغنر
ليست روسيا قوة اقتصادية عملاقة مثل الولايات المتحدة والصين، إلا أن قوتها تكمن في أنها ثاني أكبر مُصدر للسلاح في العالم، ومعداتها العسكرية تلقى رواجاً في إفريقيا، نظراً لرخص ثمنها مقارنة بالأسلحة الغربية باهظة الثمن، ومعقولية شروطها، وأيضاً لسهولة استخدامها، ووجود إطارات عسكرية تدربت في روسيا على استعمالها حتى منذ العهد السوفييتي.
وتدرك موسكو الاحتياجات الأمنية للدول الإفريقية، وتقدم نفسها بديلاً للدول الغربية التي أخفقت في هزيمة الجماعات الإرهابية والمتمردة، خاصة في منطقة الساحل الإفريقي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
كما أثبتت روسيا قدرتها على استخدام "الحرب السيبرانية" في تأليب الشعوب الإفريقية ضد الغرب، باعتباره قوة استعمارية سابقة تحاول الهيمنة والاستيلاء على الثروات الإفريقية وتفقير شعوبها تحت شماعة محاربة الإرهاب.
وظهر ذلك جلياً في أكثر من بلد إفريقي، خاصة بمالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، حيث خرجت مظاهرات تطالب برحيل القوات الفرنسية من بلدانها، ورفعوا الأعلام الروسية داعين لاستبدال باريس بموسكو.
وتستخدم روسيا شركة فاغنر الأمنية، كذراع طويلة لها في إفريقيا لتقديم الدعم العسكري في أكثر من بلد إفريقي سواء في جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي وموزمبيق والسودان، مقابل الحصول على أموال وحقوق تعدين الذهب والمعادن الثمينة.
فالإخفاقات العسكرية الفرنسية والغربية في منطقة الساحل ووسط إفريقيا، تفتح المجال لتوغل روسيا في أدغال وصحاري القارة السمراء، وتحقيق أهداف استراتيجية، ليس أقلها الحصول على دعم دبلوماسي إفريقي في الأمم المتحدة في صراعها مع الغرب.
إذ إن 17 دولة إفريقية امتنعت عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما كشف لواشنطن حجم الاختراق الروسي للقارة السمراء.
عصر انهيار "الإمبراطورية" الفرنسية
تعتبر فرنسا نفسها دولة عظمى لامتلاكها السلاح النووي، وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن، ونفوذها في عدد كبير من الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية.
لكن هذه "القوة العظمى" تعيش عصر الانهيار، بعد هزيمتها العسكرية في مالي ومنطقة الساحل، رغم كل الدعم العسكري واللوجستي والمالي الذي تلقته من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وتحالف دول الساحل الخمسة لكن ذلك لم يجدِ نفعاً، رغم أن عدوها ليس سوى مجموعات إرهابية لا يتجاوز عددها بضع مئات من المسلحين تسليحاً خفيفاً.
كما أخفقت فرنسا في توفير الحد الأدنى من الأمن في جمهورية إفريقيا الوسطى، وتركت الباب مشرعا للنفوذ الروسي وشركة فاغنر للتوغل في قلب إفريقيا، وتحقيق نجاحات أمنية وسياسية وحتى اقتصادية.
وأظهرت الحرب الأوكرانية ضعف قدرات الجيش الفرنسي في دعم حلفائه عسكريا، وهذا الضعف يشمل بقية الجيوش الأوروبية، التي تعاني من نقص مخزوناتها من الذخائر والأسلحة في مواجهة قوة عظمى مثل روسيا.
أما اقتصادياً، ففرنسا قزم أمام الصين، وغير قادرة على تحديها في إفريقيا، إذ تحولت الصين إلى أكبر شريك تجاري للقارة السمراء، في حين أعلن الرئيس الفرنسي لشعبه "انتهاء عهد الرفاهية".
ففرنسا التي كانت تقود الانقلابات في إفريقيا، وتعين من تشاء وتعزل من تشاء في مناطق نفوذها، أصبحت عاجزة حتى عن مواجهة الانقلابيين في مالي، المدعومين عسكرياً من روسيا واقتصادياً من الصين.
واللغة الفرنسية تتراجع مكانتها في الجزائر ودول إفريقية أمام زحف اللغة الإنجليزية، وهذا باعتراف ماكرون، الذي صرّح في قمة الفرنكفونية بتونس قائلاً "يجب أن نكون واضحين أن هناك تراجعاً حقيقياً للغة الفرنسية في دول المغرب العربي".
فمكانة فرنسا في إفريقيا تنهار عسكرياً أمام روسيا، واقتصادياً أمام الصين وحتى لغوياً أمام الإنجليزية، ما يجعلها تفقد تدريجياً أحد ركائز دورها كقوة "عظمى".
فعودة التنافس الاستراتيجي على إفريقيا بين القوى العظمى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والصين وبدرجة أقل فرنسا، من شأنه أن يخدم دول القارة في تنويع شراكاتها والاستفادة من المساعدات والقروض، وتقوية حضورها وتمثيلها في الهيئات الدولية البارزة مثل مجلس الأمن ومجموعة العشرين.