تهدد الشركات الألمانية العملاقة بنقل مصانعها لخارج البلاد وبدأ بعضها بالفعل في الرحيل بسبب نقص العمالة بألمانيا، بينما يعاني المهاجرون- خاصةً الذين جاءوا كلاجئين للبلاد- من البطالة أو العمل غير الملائم، في مفارقة تُظهر أزمة التوظيف برابع أكبر اقتصاد في العالم.
وتتضارب التقييمات بشأن أسباب نقص العمالة بألمانيا وأزمة التوظيف، فالبعض يلمح إلى أن السبب هو نوعية المهاجرين الذين تأتي نسبة كبيرة منهم كلاجئين من بلاد منكوبة وتعاني من ضعف نظم التعليم بها، في حين يقول آخرون إن المشكلة في نظام التدريب المبالغ في صرامته والبيروقراطية والعنصرية، بينما بعض قادة الأعمال يرون أن ألمانيا نجحت بالفعل في دمج جزئي للاجئين الذي جاءوا خلال موجة الهجرة السورية الشهيرة عام 2015، في سوق العمل.
ولكن، أياً كانت الأسباب تظل أزمة نقص العمالة بألمانيا قائمة، وتدفع البلاد إلى البحث عن سبل لجذب مزيد من المهاجرين وإلا فستواجه مشكلة اقتصادية ونقصاً خطيراً في وظائف حيوية.
شولتز يريد استقبال مزيد من المهاجرين لإيصال سكان البلاد لـ90 مليوناً
وفي مواجهة مخاطر نقص العمالة بألمانيا، قال المستشار الألماني أولاف شولتز، في 10 ديسمبر/كانون الأول 2022، إن حكومته تسعى إلى تعزيز الهجرة؛ للمساعدة في تجنب نقص العمالة وأزمة في نظام المعاشات التقاعدية.
شولتز أضاف خلال منتدى للمواطنين في بوتسدام، بالقرب من برلين، أن الحكومة تعمل على جذب العمالة الأجنبية "لمواصلة المسيرة"، على الرغم من زيادة عدد كبار السن، أو شيخوخة السكان، ما يجعل زيادة السكان 7%، إلى 90 مليون نسمة بحلول عام 2070، أمراً معقولاً.
رغم نقص العمالة بألمانيا.. اللاجئون السوريون يكافحون لإيجاد وظائف
في عام 2016، عندما فر اللاجئون من الشرق الأوسط إلى ألمانيا بمئات الآلاف، قرر إنغو نيوبيرت المساعدة.
بدأ نيوبيرت، الأستاذ في الخدمة الاجتماعية، برنامجاً تدريبياً بغرب ألمانيا لـ25 لاجئاً شاباً ليصبحوا ممرضين ومساعدين طبيين. وقال إن ثلاثة منهم فقط تخرجوا بالبرنامج في 4 سنوات. في برنامج ثانٍ أقصر مدةً، وصل نحو ثلث المرشحين إلى النهاية. المشروع معلقٌ الآن، وفقاً لمستشفى جامعة إيسن بغرب ألمانيا، حيث نُفِّذ البرنامج، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
وتواجه ألمانيا مفارقة: بعد سنوات من معدلات الهجرة القياسية التي شهدت وصول ما يعادل عدد سكان مدينة كبيرة إلى البلاد كل عام، وُلِدَ واحد من كل ستة أشخاص بألمانيا في الخارج، مقارنة بالولايات المتحدة التي تعد بلد مهاجرين بالأساس ولكن وُلِدَ فيها واحد من كل سبعة في الخارج.
بينما الولايات المتحدة أكفأ في دمج المهاجرين
غير أنه عكس الولايات المتحدة، فشلت ألمانيا في العثور على عمل للوافدين الجدد، رغم نقص العمالة بألمانيا المتفاقم الذي يخنق الاقتصاد. سيحتاج أكبر اقتصاد في أوروبا، إضافة إلى ذلك، إلى ملء نحو سبعة ملايين وظيفة بحلول عام 2035 مع تقاعد العمال الأكبر سناً، حسب تقديرات اقتصاديين.
لطالما أشار الخبراء إلى الهجرة باعتبارها الحل لمعالجة نقص العمال بألمانيا، قائلين إن البلاد تحتاج إلى نحو 400 ألف مهاجر ماهر كل عام.
لكن حتى الآن، فإن المزيج الحالي من المهاجرين لا يملأ الفجوة.
وتظهر البيانات الرسمية أن نحو ثلث عدد السوريين والأفغان في سن العمل بألمانيا فقط والذين يبلغ عددهم 800 ألف شخص، يعملون في وظائف يدفعون ضرائب بموجبها، مقارنة بثلثي الألمان، رغم وصول معظمهم منذ أكثر من خمس سنوات.
وتبلغ نسبة البطالة بين الأجانب نحو 12%، وأقل من 5% للألمان.
المفارقة أنه في الولايات المتحدة، من المرجح أن يحصل الأجانب على وظائف أكثر من السكان المحليين.
المشكلة الرئيسية هي أن كثيراً من اللاجئين غير مناسبين للوظائف في سوق العمل الذي يتطلب مهارات عالية بألمانيا ولم تكن ألمانيا جيدة في تدريبهم، حسب الصحيفة الأمريكية.
برلين تريد جذب المهاجرين ذوي المهارات فقط
لتغيير ذلك ومواجهة أزمة نقص العمالة بألمانيا، تخطط برلين لإدخال نظام هجرة قائم على النقاط على غرار أستراليا أو كندا العام المقبل؛ على أمل جذب الأجانب المؤهلين بشكل أفضل، لكن خبراء الهجرة متشككون. حتى لو نجح المخطط، فمن المرجح أن تستمر ألمانيا في استقبال أعداد كبيرة من طالبي اللجوء الذين لا تستطيع توظيفهم، والذين سيملأون صفوف متلقي الرعاية الاجتماعية أو يعززون إحصاءات الجريمة، حيث يمثلون تمثيلاً زائداً بالفعل.
وقال توماس ليبيغ، خبير الهجرة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي مؤسسة فكرية اقتصادية مقرها باريس: "سيتنافس اللاجئون والعمال المهاجرون على البنية التحتية نفسها".
ويشكل المهاجرون العاملون حالياً واحداً فقط من كل 10 وافدين جدد إلى ألمانيا، مقارنة بواحد من كل ثلاثة يفدون إلى كندا. وقد اجتذب برنامج أوروبي سابق لجذب الأجانب المهرة، والمعروف باسم البطاقة الزرقاء، نحو 70 ألف عامل إلى ألمانيا إجمالاً خلال العقد الماضي.
والأزمة الأوكرانية تضيف مزيداً من الأعباء
والآن ترتفع أعداد اللاجئين مرة أخرى بعد فترة هدوء خلال الجائحة، مدفوعة بالحرب في أوكرانيا والهجرة المتزايدة من الشرق الأوسط وإفريقيا وأفغانستان. في النصف الأول من العام، انتقل أكثر من مليون شخص إلى ألمانيا، أكثر بكثير مما كان عليه في عام 2015، عندما رحبت المستشارة آنذاك، أنجيلا ميركل، باللاجئين السوريين، وأثارت هذه الهجرة ضجة بعد ذلك وانتقادات لميركل.
في مركز التوظيف في كاسل، وهي بلدة بوسط ألمانيا، يقول وولف-ديتليف زيزينغ إنه قضى عاماً حافلاً في إعداد مئات اللاجئين الأوكرانيين لدخول سوق العمل في ألمانيا. لقد قام بنشر 20 مترجماً فورياً أوكرانياً خلال الصيف. يقول موظفوه إنهم ينصحون أشخاصاً أكثر بنسبة 60% يومياً مقارنة بالأوقات العادية.
ومع ذلك، قال زيزينغ إنه لا يتوقع أن يحصل العديد من الوافدين الجدد على وظائف في ألمانيا قبل عام 2024، بسبب التأخير في العثور على دورات اللغة والاندماج ثم حضورها.
والشركات بدأت بالرحيل للخارج أو تقليص أعمالها جراء نقص الموظفين
في غضون ذلك، تقول نصف الشركات الألمانية إنها قلصت عملياتها أو تنتقل إلى الخارج، لأنها لا تستطيع العثور على عدد كافٍ من العمال. يقترب معدل البطالة في ألمانيا عند 5.5%، من التوظيف الكامل.
وقالت أنكي دوبيك، التي تدير شركة للتدفئة والسباكة في جنوب غربي برلين: "الحقيقة هي أنه إما توظيف اللاجئين وإما لا شيء"، وقد وظفت دوبيك مؤخراً شاباً أفغانياً بعد أن أكمل تدريباً مهنياً لمدة 3 سنوات مع شركتها.
وقالت إن عملية الاندماج تتطلب "كثيراً من القوة والدعم". احتاج الرجل إلى المساعدة في الوثائق والسكن. وأضافت أن لاجئاً آخر وقع عقد تدريب مهني لكنه لم يحضر بعد اليوم الأول.
وظفت شركة دويتشه بان الألمانية للسكك الحديدية نحو 26 ألف موظف جديدٍ هذا العام، جزئياً لسد الثغرات في القوى العاملة مع تقاعد الموظفين الأكبر سناً. وقالت كيرستين فاغنر، نائبة الرئيس التنفيذي لاكتساب المواهب في "دويتشه بان"، إن الشركة لديها 900 موظف مسؤول عن عملية التوظيف، وهي تقوم بالتوظيف بنشاط في أكثر من 10 دول. ونحو 23% من الموظفين الجدد هذا العام وُلِدوا خارج ألمانيا.
ومع ذلك، فإن توظيف اللاجئين متواضع. قالت فاغنر إن الشركة تحدثت هذا العام مع 3200 موظف محتمل من أوكرانيا، ووظفت بالفعل 65 منهم. بينما نحو 3.5% من الموظفين الجدد في الشركة يأتون من البلدان التقليدية التي يأتي منها اللاجئون، وضمن ذلك سوريا وأوكرانيا وأفغانستان والعراق وجنوب السودان وفنزويلا وميانمار.
اللاجئون يعانون من نقص التعليم، والقوانين تعرقلهم وتحمي قدامى العمال
المؤهلات هي المشكلة الرئيسية. فقط نحو ثلث المهاجرين السوريين بألمانيا تخرجوا في المدرسة الثانوية أو المدارس الفنية، مقارنة بـ70% من المهاجرين من بولندا، وفقاً لوكالة الإحصاء الألمانية.
في الوقت نفسه، يواجه الباحثون عن عمل عقبات كبيرة في سوق العمل الجامد الذي يحمي شاغلي الوظائف، ويتطلب تدريبات طويلة ونادراً ما يعترف بالدرجات الأجنبية، وغالباً ما يجبر حتى المتخصصين على إعادة التدريب من الصفر.
فلا عمل بدون ماجستير
رامي الحمي، محامٍ من دمشق يبلغ من العمر 36 عاماً ويعيش في مدينة هاله بشرق ألمانيا، يبحث عن عمل منذ وصوله قبل سبع سنوات، ولكن دون جدوى. يقول إنه أرسل نحو 500 طلب، وقضى ما يقرب من 18 شهراً في دورات مختلفة في اللغات والاندماج وتكنولوجيا المعلومات، ويتحدث الآن اللغة الألمانية بشكل جيد.
وقال إنه لا يمكنه العمل كمحامٍ في ألمانيا، لأنه حاصل على درجة البكالوريوس فقط، وليس الماجستير. وأضاف أن اثنين من معارفه السوريين أكملا دورة الماجستير التي استمرت عامين والتي تعتبر ضرورية للعمل ولكنهم ما زالوا غير قادرين على العثور على وظيفة.
"لقد نجحنا في إدماج المهاجرين".. رواية مختلفة
وكانت المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، قد فتحت البلاد لموجة كبيرة من اللاجئين السوريين، ورفعت شعار "سننجز ذلك"، مع قدوم اللاجئين بأعداد كبيرة في عام 2015، وردَّدته كثيراً، قبل أن تعلن في سبتمبر/أيلول 2016، عدم رغبتها في تكراره، لتُحوّله لشعار بسيط، أو عبارة فارغة، على حد تعبيرها.
كما اعترفت بأن البعض كان يشعر بالاستفزاز حياله، الأمر الذي لم تكن تقصده.
ولكن رئيس رابطة أرباب العمل الألمان إنغو كرامر، أعلن في عام 2018، أن اندماج اللاجئين في ألمانيا جاء أفضل من المتوقع، بل إن البلاد في حاجة لمزيد من المهاجرين.
وقال كرامر في مقابلة مع صحيفة "أوغسبورغر ألغماينه"، في ديسمبر/كانون الأول 2018، إن المستشارة أنجيلا ميركل كانت مُحقّة بعبارة "سننجز ذلك"، والتي كانت تعني بها إدماج اللاجئين في عام 2015.
وأردف قائلاً: "إن ذلك الإدماج يجري بصورة أفضل مما كان متوقعاً".
وتقول جميلة أوروك، المعلمة ذات الأصول التركية، التي تدرس مادة اللغة الإنجليزية والتربية الاجتماعية: "إن توظيف المهاجرين في ألمانيا يحتاج إلى معالجة الأمر من جذوره، أي يكون هناك تمثيل طبيعي لذوي الأصول المهاجرة في طاقم التدريس".
فانعدام الثقة والنقص في التأهيل وسوء الظن والبعد الثقافي لا سيما الأحكام المسبقة المتجذرة، تمنع في الغالب انطلاقة ناجحة في الحياة المهنية.
وتفيد دراسة بأن التمييز في العمل تجاه المهاجرين حقيقة قائمة رغم نقص العمالة بألمانيا خاصة المتخصصة.
اسمك أهم من تعليمك عند التقدم لوظيفة
فتوظيف المهاجرين في ألمانيا يواجه حقيقة قاسية: الاسم أهم من المؤهل التعليمي، حسبما ورد في تقرير لموقع دويتش فيليه الألماني.
ففي الوقت الذي يحصل فيه المرشحون للوظائف ذوو الأسماء الألمانية في 60% من الحالات على ردٍّ إيجابي، فإن هذه النسبة تكون لدى المرشحين من أصول أجنبية فقط، في حدود 51%.
ويفيد الخبراء بأن مستوى التعليم لا يحل جميع المشاكل، لأن "الأحكام المسبقة والتفضيل الثقافي لها تأثير أكبر على التمييز مقارنة مع الاختلاف في مستوى التعليم".