كشف ادعاء أوكرانيا الأولي، الشهر الماضي، أن الصاروخ الذي سقط في بولندا، وتسبب في مقتل مواطنين بولنديين، كان من روسيا -وليس من جيشها هي- عن واحدة من أشد الخلافات بين أوكرانيا وأمريكا منذ غزو روسيا لجارتها في فبراير/شباط، وكان الجديد في هذا الخلاف أنه خرج للعلن
وهذا الحادث تسبب في لحظة درامية خطيرة، فيما كان العالم يترقب ليرى إن كانت روسيا قد هاجمت بولندا، العضو في حلف شمال الأطلسي، وهو احتمال ثبت خطؤه سريعاً، ولكنه أثار مخاوف الناتو والولايات المتحدة من أن أوكرانيا تحاول توريطه في حرب مع روسيا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
فما حدث في تلك الليلة كشف عن توترات كانت حاضرة منذ بداية الحرب: فبينما تأمل كييف في أن يكثف حلف شمال الأطلسي دوره في محاربة روسيا في أوكرانيا، قررت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون تحاشي أي تصرفات قد تؤدي لاندلاع حرب مباشرة بين التحالف وروسيا.
الرئيس الأوكراني ظل مصراً على روايته بأن الصاروخ روسي
ووقع حادث الصاروخ الذي أدى لمقتل شخصين في بولندا في 15 نوفمبر/تشرين الثاني في الوقت الذي ظهرت فيه بالفعل توترات بين أوكرانيا وواشنطن بخصوص مطالبات بعض المسؤولين الأمريكيين لكييف ببدء التفكير في شروط مفاوضات السلام مع روسيا.
ويقول دبلوماسيون غربيون وأوكرانيون إنه في الأسابيع التي تلت الحادث، خفت حدة التوترات بين أوكرانيا وأمريكا. لكن بعض المسؤولين الغربيين ما زالوا منزعجين من رد أوكرانيا، الذي بدأ محاولة لدفع الناتو إلى الدخول في صراع مباشر مع موسكو.
وقال مسؤولون بالجيش الأمريكي إنه في غضون ساعات من سقوط الصاروخ داخل بولندا، توصلت الولايات المتحدة إلى أن هذه الضربة الصاروخية أوكرانية بعد استعانتها بالإشارات والرادار وغيرهما من المعلومات الأمنية.
وظل الرئيس الأوكراني مصرّاً لفترة على أن الصاروخ ليس أوكرانيا، وأنه روسي.
وعلى الرغم من التقييمات الحذرة لبولندا وحلف الناتو، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن الصاروخ مصدره الدفاعات الأوكرانية. وكرر في التلفزيون الأوكراني (الأربعاء، 16 نوفمبر/تشرين الثاني) أنه "ليس لدي شك في أنه ليس صاروخنا، أعتقد أنه صاروخ روسي"، حسبما ورد في تقرير لموقع دويتش فيليه الألماني.
وقال زيلينسكي إن تصريحه بأن الصاروخ الذي سقط في بولندا أطلقته القوات الروسية كان بناءً على معلومات من جيشه. لكنه أضاف أنه إذا تبين من التحقيق أن صاروخاً أوكرانياً هو ما تسبب في هذا الضرر، فستعتذر كييف.
واستغل المسؤولون الروس هذه الروايات المتباينة، فقال سفير روسيا في الأمم المتحدة إن المسؤولين الأوكرانيين والبولنديين يحاولون إشعال حرب بين روسيا والغرب.
وانتقدت المجر تصريحات زيلينسكي واصفة إياها بـ"غير المسؤولة". وقال جيرجيلي غولياس، رئيس مكتب رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان "في مثل هذه الحالات، يتحدث قادة العالم بمسؤولية". لقد أخطأ رئيس أوكرانيا عندما ألقى باللوم على الروس على الفور. هذا مثال سيئ".
وقال موقع "تاغسشاو" التابع للقناة الألمانية الأولى معلقاً "للحظة انتشر قلق ملموس بشأن اقتراب شبح الحرب للناتو ومعه خطر انجرار الجيوش الغربية، بما فيها الجيش الألماني، إلى حرب ضد روسيا. ربما تصبح مدننا هدفاً لهجمات قاتلة، لقد تم تفادي هذا السيناريو الخطير، وقد يكمن سبب ذلك في رد الفعل الهادئ بشكل لأعضاء الناتو. وينطبق هذا قبل ذلك بشكل خاص على الحكومة البولندية". فهل يمكن اعتبار اختلاف وجهات النظر العلني هذا، بين حلف الناتو وكييف عاملاً قد يدفع إلى تآكل الدعم الغربي لأوكرانيا.
وسارع القادة الغربيون لعقد اجتماع طارئ على هامش قمة مجموعة العشرين، معبّرين عن تضامنهم مع بولندا مع الدعوة إلى توخي الحذر، وذلك تزامنا مع نفي قاطع لموسكو بأن تكون مسؤولة عن إطلاق الصاروخ، واصفة الاتهامات الأوكرانية بأنها "استفزازات". غير أن الرئيس الأمريكي جو بايدن أخبر نظرائه في السر، بأن الصاروخ هو من أصل أوكراني. وعلناً، دعا إلى توخى الحذر بشأن المسؤولية الروسية المفترضة.
وبحلول 17 نوفمبر/تشرين الثاني، كانت أوكرانيا تسعى إلى إنهاء أي خلاف مع بولندا. ودعت وارسو المسؤولين الأوكرانيين للانضمام إلى تحقيقها الرسمي، وذهبوا في اليوم التالي.
الحادث ألقى بظلاله على العلاقات الأوكرانية البولندية
بعد الساعات الأولى من إعلان كييف موقفها، ظهرت أصوات في الغرب وفي حلف الناتو تدعو إلى الحذر. فقد رفض الرئيس الأمريكي، جو بايدن، مزاعم نظيره الأوكراني بشأن مسؤولية موسكو. فالحادث لم يُلقِ بظلاله على قمة مجموعة العشرين فقط، بل أيضاً على العلاقات البولندية الأوكرانية. فلو تأكدت صحة مزاعم كييف، لفتح ذلك باب الحرب بين حلف الناتو وروسيا على مصراعيه بسيناريوهات غير محسوبة العواقب. بولندا سارعت إلى وضع قواتها المسلحة في حالة تأهب، فيما عقد حلف الناتو اجتماعات طارئة لدراسة الوضع. ورغم أن الرئيس البولندي، أندريه دودا، أعلن الأربعاء (16 نوفمبر/تشرين الثاني) أنه "من المرجح جداً" أن تكون الدفاعات الأوكرانية هي مصدر الصاروخ؛ إلا أن نظيره الأوكراني أصرّ على أن الصاروخ كان روسيّاً.
من الواضح أن أوكرانيا تسعى لدعم أوسع لها من قبل حلف الناتو، لكن بهذه الطريقة قد تثير غضب جارها البولندي وتزرع الشكوك في صفوف حلفائها الغربيين، حسبما ورد في تقرير موقع دويتش فيليه.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة "Rzeczpospolita" (رشيبوسبوليتا) الصادرة في وارسو (17 نوفمبر/ تشرين الثاني) "هناك للأسف أصوات تريد توظيف هذه المأساة لزرع القسمة بين بولندا وأوكرانيا. لكن ذلك سيكون ضد منطق دولتنا بشكل كامل. من مصلحة بولندا دعم أوكرانيا بكل الطرق الممكنة في حربها مع روسيا، إن الأوكرانيين يدافعون عن الغرب، بما في ذلك بولندا. لذلك، لا ينبغي أن تكون استجابتنا لمأساة برزيفودوف تحمل ضغائن ضد أوكرانيا، ولكن منحها مزيداً من الدعم لزيادة فرصها لطرد الغزاة (الروس)".
ووفق بحث استقصائي أجرته صحيفة "غازيتا ويبوركزا" البولندية، كانت الحكومة البولندية على علم وفي وقت مبكر جداً من مساء الثلاثاء (15 نوفمبر/تشرين الثاني) بأن صاروخاً من نظام الدفاع الجوي الأوكراني أصاب قرية برزيفودوف. المعلومات كان مصدرها طائرة رادار من طراز أواكس، تحلق فوق بولندا رصدت العملية كاملة. ونقلت الصحيفة عن مشاركين في اجتماع مجلس الوزراء الأمني البولندي أن ذعراً انتاب المشاركين، وترددوا في طريقة إيصال ذلك للرأي العام. لذلك قرروا انتظار ما سيقوله البيت الأبيض الأمريكي. غير أن الرئيس جو بايدن الذي كان حينها في بالي لحضور قمة مجموعة العشرين، وكان لا يزال نائماً في ذلك الحين. وبعدها أعلن بايدن أن مسار الصاروخ أظهر أن الروس لم يكونوا مصدره.
ورغم تعاظم التكهنات المتناقضة بشأن الحادث، سارعت السلطات البولندية إلى التعبير عن قدر كبير من التفهم لموقف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وبهذا الشأن أوضح رئيس مكتب الأمن القومي البولندي، جاسيك سيرويرا، أن تصريحات الزعيم الأوكراني بشأن سقو-ط الصاروخ مفهومة، لأن أوكرانيا مضطرة حالياً للدفاع عن نفسها ضد الغارات الجوية الروسية المكثفة وقال "الفرضيات التي تبدو واضحة من وجهة نظر الدفاع الوطني، تبدو واضحة أيضاً لرئيس هذه الدولة". ويقصد المسؤول البولندي بـ"الفرضيات" ادعاء زيلينسكي أن مصدر القصف كان روسيا.
وفي الوقت نفسه، شدد المسؤولون الغربيون على أن أوكرانيا ليست مسؤولة عن الحادث، بالنظر إلى وابل الصواريخ الذي تتعرض له من روسيا.
وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ: "هذا ليس خطأ أوكرانيا. روسيا هي من تتحمل المسؤولية النهائية".
ووصف مسؤولون أوكرانيون وأوروبيون رد كييف بأنه رد انفعالي غريزي لتحميل روسيا مسؤولية الحادث بعد شهور من العدوان والهجمات الروسية. وكانت موسكو قد أطلقت ما يقرب من 100 صاروخ على أوكرانيا في الساعات السابقة.
هل أرادت أوكرانيا توريط أمريكا والناتو في حرب عالمية؟
ومع ذلك، لا يزال بعض المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين يتساءلون إن كان زيلينسكي وكبار مساعديه قد رأوا في هذه الأزمة فرصة لإقحام الناتو في الحرب بشكل مباشر، وهو ما يقولون إن كييف جربته في مراحل مختلفة من الحرب.
ورفض أوليكسي دانيلوف، سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، التعليق على ما ن كانت أوكرانيا تحاول دفع الناتو إلى خط المواجهة في الحرب. وقال إن زيلينسكي لا يدلي ببيان إلا بعد استشارة المعنيين.
وقال، رافضاً التعليق على الحادث حتى نهاية التحقيق: "مسألة هذا الصاروخ صعبة علينا، وأي شخص عرضة الخطأ، المهم أنه ليس خطأ فادحاً".
وقرر بايدن، بعد عودته من بالي إلى البيت الأبيض، إغلاق النقاش عن دور روسيا في هذا الحادث.
فبعد خروجه من طائرته المروحية الرئاسية، سُئل عن مزاعم زيلينسكي مطلع ذلك اليوم بأن الصاروخ ليس أوكرانياً، فرد بالقول: "الأدلة لم تقل هذا".
كيف سيغير هذا الخلاف العلاقة بين أوكرانيا وأمريكا؟
ورغم المظلومية التي تعرضت لأوكرانيا بسبب الغزو الروسي، إلا أن ما يؤشر له هذا الحادث وحوادث أخرى، أن أوكرانيا ليس لديها مشكلة في تعريض مصالح الآخرين للخطر، إذا كان ذلك سوف يؤدي إلى مشكلات لروسيا.
لم تؤد هذه الواقعة إلى زرع شقاق بين أوكرانيا والناتو، ولم تقلل الدعم الغربي لكييف، ولكنها على الأرجح زرعت بعض الشكوك في كثير من تصريحات أوكرانيا.