منذ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، في فبراير/شباط الماضي، سعت سياسة الطاقة للولايات المتحدة الأمريكية، إلى تحقيق هدفين أساسيين، وعلى ما يبدو متناقضين. يتمثَّل الهدف الأول في الحفاظ على إمدادات النفط العالمية عند مستويات مرتفعة بما يكفي، بحيث تظل الأسعار مقبولة، ويبقى الدعم العام للعقوبات قوياً. أما الهدف الثاني فهو تقييد القدرات الحربية لفلاديمير بوتين، من خلال خفض إيرادات روسيا من بيع النفط.
ماذا تعني محاولات الغرب إقصاء النفط الروسي وتقييد سقوفه؟
تقول مجلة The Economist البريطانية، إن الهدفين يشكلان معاً استراتيجية مستعصية، لأنَّ إقصاء أي نفط من السوق يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع الأسعار، في ظل تنامي الطلب مع ندرة وجود مصادر جديدة للتدفقات النفطية. ومع ذلك، حاول الغرب تحدي قانون العرض والطلب، بصياغة مجموعة متنامية من الإجراءات للتدخل في أسواق النفط.
في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، منحت أمريكا الإذن لشركة "شيفرون" النفطية الأمريكية في فنزويلا لزيادة إنتاجها، وذلك ضمن حزمة إجراءاتها ضد حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. أفرجت أمريكا أيضاً عن كميات ضخمة من مخزونها الاستراتيجي من النفط الخام، الذي بات حالياً عند أدنى مستوى له منذ عام 1984، وذلك بهدف إقناع دول الخليج بزيادة إنتاجها.
ومع ذلك، فإنَّ الحملة الغربية الأشد عزماً على تقويض بوتين لم تدخل حيز التنفيذ بعد. أعلن الاتحاد الأوروبي، في يونيو/حزيران، أنَّه اعتباراً من 5 ديسمبر/كانون الأول 2022، سيُحظر استيراد النفط الخام الروسي المنقول بحراً، والذي يمثل مليوني برميل في اليوم، أي ما يعادل حوالي 40% من إجمالي صادرات روسيا من النفط الخام. وقالت الكتلة الأوروبية أيضاً، إنَّها ستمنع مقدمي الخدمات البحرية الأوروبيين- مثل شركات خدمات الشحن والتأمين- من مساعدة المشترين من خارج الاتحاد الأوروبي في الحصول على الخام الروسي.
لكن سرعان ما أدركت أمريكا أنَّ هذين الإجراءين معاً قد يتسبّبان في تقليص إمدادات النفط العالمية؛ لذا قررت السماح للمشترين بالوصول إلى النفط الروسي في حال الموافقة على الالتزام بسقف سعري منخفض، تحدّده مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى.
ماذا ستستفيد أوروبا من تحديد سقف لسعر النفط الروسي؟
قالت رويترز، الجمعة 2 ديسمبر/كانون الأول 2022، إن حكومات الاتحاد الأوروبي اتفقت بصورة مبدئية على تطبيق حد أقصى لسعر النفط الروسي المنقول بحراً، عند 60 دولاراً للبرميل، أي أقل حوالي 30% من السعر الحالي لخام برنت، وهو معيار رئيسي لتسعير النفط الخام عالمياً، ويبلغ سعره 85 دولاراً للبرميل.
في سيناريو متفائل، قد تنجح حزمة العقوبات المخطط لها في التوفيق بين الهدفين الغربيين المتناقضين. يضمن هذا الحظر منع أموال أوروبا من دعم جهود بوتين الحربية. كانت الكتلة الأوروبية قد اشترت في الشهر الماضي 2.4 مليون برميل يومياً من النفط الروسي الخام والمكرر.
يقول مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية إنَّ فرض سقف سعري على النفط الخام الروسي سيكون بمثابة "صمام تحكّم في التدفق"، من شأنه الحفاظ على توازن السوق العالمية، من خلال السماح للدول النامية بشراء النفط الروسي بسعر مخفض، ومن ثمَّ تنخفض إيرادات روسيا من الطاقة.
هل تعوض الصين والهند خسائر روسيا النفطية؟
لكن في غياب فرض سقف سعري منخفض بما فيه الكفاية، كما هو مرجح الحدوث، ستكون التكلفة على روسيا متواضعة، رغم حقيقة أنَّ السقف السعري على صادرات النفط الروسية سيزيد من عناء موسكو، ويضيف مزيداً من الزخم لحزمة العقوبات الغربية، التي قد تضعف الاقتصاد الروسي على المدى الطويل، لكنها لم تثبت حتى الآن أنَّها قاصمة، مع دخول الهند والصين لتعويض روسيا خسارتها للأسواق الأوروبية.
ويفترض مخطط التسعير الغربي للنفط الروسي عدم وجود عوائق لوجستية تمنع أشكال التداول القديمة من تنفيذ تحول سلس وسريع. ومع ذلك قد تبرز 3 عقبات رئيسية: أزمة في الناقلات وفجوة تأمينية وتراجع شهية المخاطرة عالمياً.
فيما يخص أزمة الناقلات، تلوح في الأفق قبرص واليونان ومالطا في مجال الشحن، لدرجة أنَّ أي حظر أوروبي على توفير الخدمات البحرية إلى الدول التي تقرر رفض الانضمام إلى "سقف سعر النفط الروسي" قد يؤدي إلى نقص كبير في أعداد السفن القادرة على شحن الخام الروسي. يتوقع كلاوديو جاليمبيرتي، من شركة "ريستاد إنيرجي" لاستشارات الطاقة، حدوث عجز حوالي 70 سفينة بطاقة استيعابية إجمالية تبلغ 750 ألف برميل في اليوم.
ومع ذلك، يشير الخبراء إلى أنَّ هذه المشكلة قد تُحل من تلقاء نفسها، من خلال الاستعانة بسفن من منتهكي العقوبات المعروفين في إيران وفنزويلا، وأن تعيد الشركات الروسية السفن المتوقفة عن العمل إلى الخدمة، وقد يبدأ أيضاً مالكو السفن في الاتحاد الأوروبي بنقل الأصول إلى مشغلين خارج مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى. يعتقد أحد كبار خبراء سوق الطاقة أنَّه سيكون هناك ما يكفي من السفن لنقل النفط الخام الروسي، بحلول فبراير/شباط.
تعد مشكلة التغطية التأمينية عقبة محتملة أخرى. لا يتعلَّق الأمر بأنَّ دول الشرق الأوسط أو آسيا الراغبة في الحصول على براميل النفط الروسي لا تمتلك شركات محلية لديها قوة مالية قادرة على تأمين الناقلات والبضائع. ما قد تفتقر إليه تلك الدول قريباً هو التغطية التأمينية ضد مخاطر أكبر بكثير، مثل الانسكابات النفطية التي تصل التزاماتها إلى نصف مليار دولار.
وفقاً لأحد كبار المشتغلين بتجارة النفط، من غير المرجح أنَّ تتحمل شركات تأمين جديدة في السوق مسؤولية سفينة فنزويلية قديمة، تمر عبر مضائق دنماركية بعمق 15 متراً بدون دعم كبير.
يتطلب هذا النوع من الدعم- المُتمثّل في "إعادة التأمين"- مجموعات ضخمة من رؤوس الأموال يصعب العثور عليها خارج الغرب. قد تقتنع الحكومتان الصينية والهندية بتقديم خدمات "إعادة التأمين"، لكن ثمة مصادر مطلعة داخل السوق تشكك أنَّ لديهما رغبة في فعل ذلك، كما تقول الإيكونوميست.
هل تعود إجراءات أوروبا بالضرر عليها؟
قد تتمثَّل العقبة الثالثة في انعدام الرغبة خارج مجموعة السبع في تحمّل مخاطر التحايل على مخطط صمَّمه الغرب. يتشكَّك كثيرون في الوعود الأمريكية بعدم التدخل في حال اختارت الدول التحايل على خطة تطبيق "حد أقصى لسعر النفط الروسي"، لاسيما أنَّ أمريكا لطالما تعمَّدت إبقاء حدود عقوباتها ودرجة إنفاذها غامضة- مثل تلك العقوبات المستهدفة إيران- لردع أي شخص عن التعامل مع الخصوم.
سوف يتسبَّب كل ذلك في حدوث انخفاض كبير لصادرات النفط الروسية، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. ثمة سيناريو أسوأ كثيراً وارد الحدوث أيضاً، ألا وهو عندما تقرّر روسيا طواعيةً تخفيض صادراتها النفطية وتخرج الأسعار عن نطاق السيطرة.
قد يؤدي ذلك إلى تكبد روسيا خسارة باهظة، إذ تُشكّل مبيعات النفط 40% من إيرادات صادراتها، لكن ترى موسكو استفادة من تحمّل تلك الخسارة مؤقتاً في حال أدت إلى ارتفاع الأسعار عالمياً، وهو ما يضر بالغرب ويمنح روسيا مزيداً من النفوذ في المفاوضات مع المشترين.
تدور حتى الآن مناقشات سياسة الطاقة لمجموعة الدول الصناعية بأدق تفاصيلها في واشنطن العاصمة وبروكسل، لكن كما يقول الملاكم الأمريكي الشهير، مايك تايسون: "كل شخص لديه خطة رائعة، إلى أن يتعرّض للكمة في الوجه". لم تخرج حتى الآن استجابة بوتين على اللكمات الغربية الموجهة إليه عن حدود المعقول، لكن قد يكون الرد على مخطط "السقف السعري للنفط الروسي" أول لكمة قوية يقرر بوتين توجيهها للغرب.