تهدد حرب الرقائق التي أشعلتها أمريكا ضد الصين بخسائر قياسية لشركات تصنيع الرقائق اليابانية والكورية الجنوبية والتايوانية والعديد من الشركات الأوروبية بينما تحقق مكاسب كبيرة لأمريكا، ولكن هل تؤدي هذه الحرب إلى وقف تقدم بكين في مجال صناعة التكنولوجيا، كما تريد واشنطن؟
فلقد أطلقت الولايات المتحدة العنان لترسانتها للدخول في عملية "خنق كاملة" للصين في إطار حرب الرقائق بغض النظر عن العواقب المحتملة، وضمن ذلك التأثير على حلفائها، حسبما ورد في تقرير لموقع Asia Times.
بالنسبة للولايات المتحدة، هذه القيود ضرورية للحد من نقل التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج العسكري المدني للصين، ولذا تم حظر متطلبات الترخيص الجديدة للعناصر الموجهة لمنشأة تصنيع الرقائق في الصين، وتهدف الإجراءات الجديدة إلى وقف شركات الرقائق الصينية عند مستوياتها الحالية من التقدم.
شركات عالمية بدأت تستعد لسحب موظفيها من الصين
في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وضع مكتب الصناعة والأمن (BIS) التابع لوزارة التجارة الأمريكية ضوابط تصدير عالية المستوى على أجهزة الكمبيوتر العملاقة وأشباه الموصلات إلى الصين.
وقبل ذلك اهتز السوق في سبتمبر/أيلول 2022 بسبب القيود الأمريكية المفروضة على بيع وحدات معالجة الرسوم من قبل شركتي NVIDIA وAdvanced Micro Devices إلى الصين.
وبدأت بعض الشركات بالفعل في سحب موظفيها من الصين استجابة للضوابط الجديدة التي تحظر على المواطنين الأمريكيين دعم تطوير وإنتاج الرقائق في الشركات الصينية.
أمريكا تقيد صادرات حلفائها لبكين بينما تسمح لشركاتها بالاستمرار
قوبلت ضوابط التصدير الأمريكية التي أطلقت ضمن حرب الرقائق بخيبة أمل من حلفاء واشنطن، لا سيما أن الإجراءات تفرض عليهم قيوداً دون تقديم حوافز واضحة، بينما لا تزال وزارة التجارة الأمريكية توافق على معظم صادرات التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين.
وتلقت شركة تايوان لأشباه الموصلات "TSMC" التايوانية وسامسونغ وSK hynix في كوريا الجنوبية إعفاءات لمدة عام واحد من القيود الأمريكية.
ولكن قد يتم إغلاق الأبواب قريباً عند ترقية أعمالهم في الصين. وتفكر شركة SK hynix في بيع معداتها بالصين أو نقلها إلى كوريا الجنوبية.
كوريا غاضبة من لسرقة أمريكا استثماراً تايوانياً من أراضيها
واستاءت سيول من قيام وزيرة التجارة الأمريكية، جينا ريموندو، بتحويل استثمار شركة رقائق السيليكون التايوانية GlobalWafers المتجهة إلى كوريا الجنوبية، إلى ولاية تكساس الأمريكية.
وتضغط الولايات المتحدة لإجبار حلفائها في شرق آسيا- تايوان وكوريا الجنوبية واليابان- على الانضمام إلى "تحالف Chip 4″، الذي عقد الاجتماع التمهيدي له في 29 سبتمبر/أيلول 2022.
بينما تهدف الشراكة إلى بناء سلسلة توريد أشباه موصلات أكثر قوة، لم تحدد الولايات المتحدة الشروط التي ستكون عليها.
وأعربت تايوان واليابان عن اهتمام واضح بالانضمام إلى المجموعة، بينما تواصل كوريا الجنوبية التفكير في عضويتها على الرغم من حضور الاجتماع.
وتايوان واليابان منشغلتان بالصعود الصيني وبالتالي مستعدتان على مضض لتحمُّل بعض الخسائر لتأخير المارد الصيني، ولكن على العكس ليس لدى كوريا الجنوبية مستوى القلق نفسه من بكين وعدوها الأول كوريا الشمالية، وفي الوقت ذاته لديها الكثير لتخسره بمشاركتها في حرب الرقائق الأمريكية ضد الصين.
وأوروبا قلقة على شركاتها
وأثار المسؤولون الأمريكيون بالفعل فكرة مناقشة التنسيق بشأن صادرات صناعة الرقائق للصين، لكن الأوروبيين منقسمون بشأن هذه المسألة.
فألمانيا، التي يعتمد اقتصادها الموجه للتصدير على التجارة مع بكين، ودول أوروبا الشرقية بقيادة المجر، تريد الحفاظ على علاقات أكثر إيجابية مع الصين.
وهولندا واحدة من الدول الأوروبية الرائدة في التكنولوجيا التي لديها شركات متطورة لأشباه الموصلات، وقال مسؤولون هولنديون لصحيفة "Politico" الأمريكية إنهم لم يتلقوا بعد طلباً مباشراً من أمريكا لفرض قيود على صادرات معدات تصنيع الرقائق الإلكترونية للصين.
وقال تايسون باركر، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية والذي يشغل الآن منصب رئيس برنامج التكنولوجيا والسياسة الخارجية بالمجلس الألماني للعلاقات الخارجية، إن تنسيق القيود على التجارة مع الصين سيستغرق وقتاً.
أمريكا تبتز حلفاءها بـ"الصينوفوبيا" بينما تؤذيهم عبر جذب الشركات
وتطلب وزارة التجارة الأمريكية من نظرائها الآسيويين الانضمام إلى الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
بالنسبة لحلفاء أمريكا، فإنهم يتساءلون بشأن مصداقية حديث أمريكا عن تصنيع وتوريد المكونات والمواد الخام داخل مجموعة من البلدان التي تشترك في القيم (الدول الغربية وحلفائها الآسيويين)، بينما يصعب عليهم الدفاع عن صناعاتهم الرئيسية في ظل الحوافز التي تقدمها أمريكا لهذه الصناعات على أراضيها مع فرض واشنطن قيوداً على التصدير للصين في الوقت ذاته.
فمبادرة "صُنع في أمريكا" التي أطلقها الرئيس الأمريكي جو بايدن، تهدف بشكل متزامن إلى زيادة الإنتاج المحلي لأشباه الموصلات من خلال قانون الرقائق ومشروع العلوم وصندوق الرقائق من أجل أمريكا، وكذلك إعادة دعم الصناعات الأخرى عالية التقنية التي تنطوي على الطاقة النظيفة من خلال قانون تخفيض التضخم الأمريكي المثير للجدل والذي هاجمه الأوروبيون بشدة خاصةً فرنسا.
وتخشى الصناعات الأوروبية من أن مشروع قانون مكافحة التضخم الأمريكي، الذي يمنح ائتماناً ضريبياً لكل مكون مؤهل يتم إنتاجه في مصنع أمريكي، سيسحب الاستثمارات المحتملة من القارة، خاصةً الجزء المتعلق بمنح إعفاءات ضريبية للسيارات الكهربائية الأمريكية الصنع، حيث يمنح إعفاء ضريبياً بنسبة 30% من تكلفة المصانع الجديدة أو المحدثة التي تبني مكونات الطاقة المتجددة.
وسبق أن قال وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، إن قانون خفض التضخم الأمريكي الجديد (IRA) يمثل تهديداً كبيراً للشركات الأوروبية، وإن على الاتحاد الأوروبي الوقوف بحزم ضد القانون الذي وصفه بأنه "غير مقبول".
وأضاف لومير أنه يكافح في مفاوضات الاستثمار مع شركة أجنبية بقطاع السيارات الكهربائية، حيث إن الولايات المتحدة مستعدة لتقديم أربعة أضعاف مبلغ الدعم الفرنسي.
وقال ماكرون لصحيفة لي إيكوس اليومية الفرنسية، إن الأمريكيين يشترون المنتجات الأمريكية ويتبعون استراتيجية شديدة العدوانية من خلال قيام الحكومة بمساعدة الصناعة الأمريكية، والصينيين يغلقون أسواقهم. ولا يمكن أن يكون الاتحاد الأوروبي المنطقةَ الوحيدة التي تلتزم بحرية التجارة، حيث لا يوجد تفضيل أوروبي للمنتجات الأوروبية.
وفي المجموع، تقدر فرنسا أن هناك استثمارات بنحو 10 مليارات دولار و10 آلاف وظيفة على المحك، بسبب هذا القانون.
كل ذلك في إطار السعي وراء تفوق الولايات المتحدة في هذه الصناعات الحيوية، بشكل قد يضر حلفاءها، وتستغل أمريكا الحرب التجارية التي تشنها على الصين لدفع حلفائها إلى المشاركة في الحصار على بكين رغم أنه يضرهم.
ولكنهم مضطرون للانصياع لها في ظل الحرب الجديدة التي تقدمها واشنطن على أنها ضرورية لوقف الخطر الصيني على الغرب وحلفائه، وهو ما دفع ماكرون إلى التحذير من "خطر" أن تذهب أوروبا عموماً وفرنسا تحديداً، ضحية للتنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين، أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
واشنطن سبق أن استخدمت هذا السلاح ضد أقرب حلفائها
ضوابط التصدير الأمريكية على التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج ليست جديدة على الإطلاق.
ففي عام 1949، أطلقت الولايات المتحدة لجنة التنسيق لضوابط التصدير متعددة الأطراف ضد الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
تم حل هذه اللجنة عند تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، لكن الولايات المتحدة أطلقت نظام "واسنار" عام 1996 ليخلفها، خلال الحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان في الثمانينيات، ولم تتردد الولايات المتحدة في فرض قيود ضد اليابان أحد أقرب حلفائها، حسب تقرير موقع Asia Times.
وعززت الولايات المتحدة ضوابطها على الصادرات من جانب واحد في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية في عام 2001.
هل كان الهدف من زيارة بيلوسي لتايوان اختلاق أزمة بين الصين وجوارها الآسيوي؟
تم تعزيز ضوابط التصدير على الصين مع اشتعال الحرب التجارية بين واشنطن وبكين في عام 2018 بعهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
والآن، تقدم حرب الرقائق التي يشنها بايدن الآن شكلاً مطوراً من ضوابط التصدير التي تهدف بالأساس إلى استمرار تدفق منتجات بكين الرخيصة وفي الوقت ذاته منع تطور صناعة التكنولوجيا الصينية.
ومع دخول الرئيس الصيني شي جين بينغ، فترة ولايته الثالثة وقبلها زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي المثيرة للجدل، زادت مخاطر التصعيد في مضيق تايوان، الأمر الذي عزز الحجج التي تقدمها واشنطن لتايوان واليابان بضرورة وقف تصدير التكنولوجيا التي تستخدم في النواحي العسكرية لبكين، الأمر الذي قد يجعل المرء يتساءل: هل تعمدت أمريكا استفزاز الصين بهذه الزيارة، لتخويف طوكيو وتايبيه من الصين؟
سوق التكنولوجيا قد يدخل في اضطرابات قريباً
وأصبح واجباً على الحكومات والجهات الفاعلة في صناعة التكنولوجيا على حد سواء، الاستعداد لمزيد من التقلبات في صناعة الرقائق بناءً على المخاطر الجيوسياسية، حيث أصبحت ضوابط التصدير الآن السيناريو المرجح أنه سيعرقل التجارة الدولية.
وتعد قيود التصدير الجديدة مقدمة لزيادة الحمائية التكنولوجية التي قد تؤدي إلى مزيد من اضطرابات إمدادات الرقائق.
يثير عدم تطابق المصالح الحكومية والتجارية مخاوف من أن قنوات الباب الخلفي لإعادة التوجيه قد يتم تنشيطها من قبل بعض شركات أشباه الموصلات من أجل البقاء، حيث إن الصين هي السوق الرئيسي للرقائق.
بدون حوافز واضحة للحلفاء، لا يمكن تحقيق هدف الولايات المتحدة المتمثل في دعم الأصدقاء، كما تقول.
قد يكون لإجراءات بنك التسويات الدولية عواقب غير مقصودة، وضمن ذلك الخسائر القياسية لشركات الرقائق في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وتايوان، وتعطيل تطوير الشركات الصينية للرقائق المتقدمة.
ويتساءل المراقبون عما إذا كانت حرب الرقائق الأمريكية ستؤدي إلى إضعاف صناعة التكنولوجيا الصينية في نهاية المطاف أم العكس.
هل تؤدي حرب الرقائق لوقف تقدم صناعة التكنولوجيا الصينية؟
وفي حين أن دول شرق آسيا المحورية في سلسلة توريد الرقائق قد أعلنت عن خطط لرفع صناعات الرقائق المحلية الخاصة بها من خلال الإعانات، فإن الصين تسعى بدورها لرفع مستوى إنتاجها للرقائق؛ لتخطي آثار الحصار الأمريكي.
ومن المؤكد أن الإجراءات الأمريكية، بقدر ما تمثل تحدياً كبيراً للصين، فإنها ستشكل حافزاً لها للتغلب على قصورها التقليدي في تصنيع الرقائق الإلكترونية الأصغر والأكثر تقدماً وتعقيداً.
تزعم وكالة Bloomberg الأمريكية أن الخلاف بين الولايات المتحدة والصين حول التكنولوجيا تعود جذوره إلى خطة وضعتها بكين قبل سبع سنوات، وأطلق عليها اسم "صنع في الصين 2025″، وهي مخطط واسع للشركات الصينية لتصبح قادرة على المنافسة عالمياً في 10 صناعات، في طريقها لتصبح مهيمنة عالمياً في وقت لاحق من هذا القرن، من بينها صناعة التكنولوجيا خاصةً الرقائق.
وأكد الرئيس الصيني شي جين بينغ، طموحه المستمر في المجال خلال مؤتمر الحزب الشيوعي في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2022، حيث دعا إلى مضاعفة الجهود "لكسب المعركة في التقنيات الأساسية الرئيسية".
ولقد أصبحت الصين بالفعل تهديداً متزايداً للقيادة الأمريكية في المجالات التكنولوجية، مما أدى إلى إطلاق إدارة بايدن لـ"حرب الرقائق ضد الصين".
وحرب الرقائق الأمريكية ضد الصين لها ثلاثة تأثيرات رئيسية، وفقاً لتحليل أجراه فريق Fathom China في مجموعة Gavekal Dragonomics البحثية المعنية بالصين:
أولاً: سيمنع الأمريكيون وصول الصينيين إلى "الآلات الأساسية وقطع الغيار ومهندسي الصيانة" لصنع الرقائق التي تتجاوز مستوى التطور الذي يعود إلى عام 2014.
ثانياً: ستمنع الشركات الصينية من شراء أدوات البرمجيات اللازمة لتصميم الرقائق، وكذلك من صنع الرقائق في "مسابك الطرف الثالث التي تستخدم تكنولوجيا أمريكية المنشأ" (مثل تايوان وكوريا الجنوبية).
ثالثاً: يُمنع جميع العملاء الصينيين، وليس الجيش الصيني فقط، من استخدام الشرائح المتقدمة المستخدمة في العمليات الأكثر تعقيداً، مثل التعلم الآلي والحوسبة الفائقة.
من غير المؤكد بالضبط ماذا ستكون نتيجة حرب الرقائق الإلكترونية، وإلى مدى ستتصاعد.
فلقد تطورت صناعة الرقائق على مدى عقود من العولمة غير المقيدة، خلال ذلك الوقت ابتكرت الشركات الأمريكية تصميمات جديدة، تم تصنيعها في الأغلب من قبل شركة تايوان لأشباه الموصلات "TSMC"، وهيمنت الشركة الهولندية ASML Holding NV على معدات تصنيع الرقائق، فيما قدمت الشركات اليابانية المواد الكيميائية المتخصصة الحيوية، بينما قامت الصين بالتعبئة والتجميع والاختبار.
ويسلط خبراء الصناعة الضوء على أن تطوير إنتاج الرقائق المتطورة سيكون تحدياً هائلاً للصين، ويرون في الوقت ذاته أن جهود الولايات المتحدة لقطع الطريق على المشترين الصينيين ستثبت في النهاية أنها تضر بشكل كبير بالشركات الغربية، حسبما تنقل عنهم Bloomberg.
لكن التاريخ الصناعي الحديث يشير إلى أن الصين ستنتصر من حيث المنافسة، حسب الوكالة الأمريكية.
فعلى سبيل المثال، أصبحت الشركات الصينية الآن الرواد العالميين في مجال السكك الحديدية عالية السرعة، بعد أن التقطت التكنولوجيا التي تحتاجها في أعقاب تنفيذ عمليات البناء الأولية من قبل الشركات الأجنبية وضمن ذلك شركة Siemens AG الأوروبية وAlstom SA.
"هذه المنتجات هي تقنيات وليست أدوات سحرية"، حسبما قال دان وانج، محلل التكنولوجيا الصيني في Gavekal Dragonomics، لوكالة Bloomberg.
وأضاف أن المهمة الصينية هي إعادة اختراع كثير من العجلات الموجودة بالفعل لدى الآخرين (والصينيون لهم خبرة لا تضاهى في استنساخ التكنولوجيا).
ويرى أنه من المحتمل أن تؤدي هذه الإجراءات إلى "تسريع الاكتفاء الذاتي للصين في كثير من التقنيات المختلفة على المدى الطويل".
في هذه الحالة ستكون أمريكا قد قدمت خدمة جليلة لبكين.