قد يموت عدد أكبر من الناس في أوروبا هذا الشتاء بسبب تكاليف الطاقة المنزلية الباهظة مقارنة بمن ماتوا في ساحة المعركة في حرب أوكرانيا، وذلك وفقاً لبحث أجرته مجلة The Economist البريطانية في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2022. فكيف يمكن لسلاح الطاقة الذي يستخدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقتل عشرات آلاف الأوروبيين، وما هي التدابير التي ستتخذها هذه الحكومات لمنع وقوع الكثير من الوفيات بسبب نقص الطاقة؟
عشرات آلاف الوفيات في أوروبا قد تحدث بسبب أزمة الطاقة
الأمم المتحدة قالت، في تقرير لها الأسبوع الماضي، إن العدد الرسمي للقتلى المدنيين في حرب أوكرانيا ارتفع إلى قرابة 6900، فيما تجاوز عدد الإصابات في صفوف المدنيين عشرة آلاف. وفي حين كان من الصعب التحقق من مقتل القوات العسكرية في أوكرانيا، يقدر عدد الجنود الذين يُعتقد أنهم لقوا حتفهم في أوكرانيا بما يتراوح بين 25.000 و 30.000 لكل جانب.
وفي مقارنة مع ذلك، وضعت مجلة الإيكونوميست نموذجاً لتأثير الارتفاع غير المسبوق في فواتير الغاز والكهرباء هذا الشتاء، وخلصت إلى أن التكلفة الحالية للطاقة ستؤدي على الأرجح إلى 147.000 حالة وفاة إذا كان الشتاء اعتيادياً.
وإذا واجهت أوروبا شتاءً قارساً بشكل خاص، وهو أمر محتمل عند النظر في الآثار المتزايدة لتغير المناخ، فقد يرتفع هذا العدد من 185.000 إلى 335.000 ألف حالة وفاة، بحسب شدة قسوة الشتاء.
وحتى في الحالة النادرة لشتاء معتدل، سيظل هذا الرقم مرتفعاً مع عشرات الآلاف من الوفيات الإضافية مقارنة بالسنوات السابقة. وإذا كان الشتاء معتدلاً، فإن البحث الذي أجرته The Economic يشير إلى أن عدد القتلى سيكون 79.000 ألفاً.
على ماذا تستند هذه الأرقام الصادمة؟
شمل النموذج الإحصائي لمجلة الإيكونوميست جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وعددها 27 دولة إلى جانب المملكة المتحدة وسويسرا والنرويج.
ومن المتوقع أن تشعر الحكومات في جميع أنحاء أوروبا الغربية بالجزع والقلق من هذه الأرقام الصادمة التي نشرتها الدراسة.
وبدأت أزمة الطاقة نفسها عندما فرضت أوروبا، التي كانت تعتمد بشدة على الغاز الروسي، عقوبات شديدة على صادرات الطاقة الروسية في أعقاب حرب موسكو في أوكرانيا. قبل الحرب، زوَّدت روسيا 40-50٪ من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي.
وأصبح أحد أقوى الاقتصادات في أوروبا -ألمانيا على سبيل المثال- يعتمد على تدفقات الغاز في موسكو ولم يكن لديه خطة بديلة. ومن الواضح أن هذه الخطوة جاءت بنتائج عكسية على الاقتصادات الغربية؛ حيث وصل التضخم إلى مستويات قياسية لم تشهدها منذ عقود، ويرجع ذلك أساساً إلى ارتفاع أسعار الطاقة. وقد ترك ذلك المتقاعدين وغيرهم من الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل في مواجهة خيار وضع الطعام على المائدة هذا الشتاء أو تدفئة منازلهم.
ما التدابير المتوقعة لمنع وقوع هذه الكارثة؟
تقول الدراسة التي أجرتها The Economist إنه على الرغم من المحاولات الأوروبية لتخزين أكبر قدر ممكن من الغاز لملء مرافق التخزين الخاصة بهم، لا يزال العديد من المستهلكين يتضررون من ارتفاع تكاليف الطاقة بالجملة.
وتضيف أنه حتى مع انخفاض أسعار السوق للوقود بشكل طفيف عن ذروتها، فإن المتوسط الحقيقي لتكاليف الغاز والكهرباء في أوروبا بالنسبة للمباني السكنية هو 144٪ و 78٪ أعلى من الأرقام المسجلة ما بين الأعوام 2000 و2019.
ولأنها تتضرر أكثر من غيرها، يمكن لأوروبا أن تبذل جهوداً جادة وملموسة لدفع كل من كييف وموسكو إلى طاولة المفاوضات وإجراء محادثات سلام من شأنها إنهاء الحرب. ومن شأن ذلك أن يخفف الكثير من المشاكل التي تواجه القارة والعالم من نقص الطاقة إلى سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية التي تعطلت بسبب الحرب.
ومع ذلك، يجادل النقاد بأن هذا من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية على العديد من مصنعي الأسلحة الغربيين الذين يحققون أرباحاً مربحة من شحنات أسلحتهم إلى منطقة الحرب.
هناك العديد من المسؤولين والشخصيات المؤثرة الأخرى في الغرب، خاصة الكونجرس الأمريكي (على الرغم من عدم إدراج أمريكا في دراسة The Economist)، ممن لهم صلات بمصنعي الأسلحة؛ مما يجعل احتمالية السلام أمراً مستبعداً إلى حد ما. فبينما أرسلت الولايات المتحدة أسلحة تصل قيمتها إلى 40 مليار دولار، لا تظهر الدول الأوروبية أي مؤشر على اختيار السلام.
لكن المسار الآخر هو أن تعمل الحكومات الغربية على تخفيف أزمة تكلفة المعيشة من خلال زيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية ورفع معدلات الضرائب للأثرياء.
هذا من شأنه أن ينقذ الأرواح من خلال السماح للعائلات بتدفئة منازلهم، لكن العديد من الحكومات الغربية تسلك الطريق المعاكس، من خلال الادعاء بأنها بحاجة إلى خفض الإنفاق من أجل تعزيز النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
عوامل رئيسية ستؤثر على عدد الوفيات في أوروبا
بحسب المجلة البريطانية، تؤثر 4 عوامل رئيسية على عدد الوفيات المتوقع في أوروبا هذا الشتاء. أكثر هذه العوامل وضوحاً هو شدة موسم الأنفلونزا ودرجات الحرارة؛ حيث يساعد البرد الفيروسات ويثبط جهاز المناعة ويتيح للعوامل المسببة للأمراض بالبقاء على قيد الحياة لفترة أطول عندما تنتقل عبر الهواء ويدفع الناس إلى البقاء في منازلهم.
ومع انخفاض درجة حرارة الجسم، تزداد كثافة الدم ويرتفع ضغطه مما يزيد من خطر الإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية. ويمكن أن تؤدي المسالك الهوائية المتهيجة أيضاً إلى إعاقة التنفس.
كما تلاحظ الإيكونوميست، فعلى الرغم من أن موجات الحرارة تحصل على تغطية صحفية أكبر في كل صيف، إلا أن درجات الحرارة الباردة عادة ما تكون أكثر فتكاً من درجات الحرارة الساخنة. فبين ديسمبر/كانون الأول وفبراير/شباط يموت الأوروبيون أسبوعياً بنسبة 21٪ أكثر من يونيو/حزيران إلى أغسطس/آب.
وعادةً ما تسجّل بريطانيا في الشتاء معدلات وفيات أسبوعية بسبب أمراض القلب والأوعية الدموية أعلى بنسبة 26% مقارنة بالصيف. أما نسبة الذين يتوفون نتيجة لأمراض الجهاز التنفسي أعلى بـ 76%. تتركز هذه الوفيات بين كبار السن. في جميع أنحاء أوروبا، يموت 28% من الأشخاص الذين لا يقل عمرهم عن 80 سنة – والذين يمثلون 49% من إجمالي الوفيات – في الأشهر الأكثر برودة مقارنة بالأشهر الأكثر دفئاً من السنة.
ويقول التقرير إنه في الماضي، كان للتغيرات في أسعار الطاقة تأثير طفيف على معدلات الوفيات في أوروبا. لكن ارتفاعات فواتير الأسرة هذا العام كبيرة بشكل ملحوظ.
من المرجح أن تكون درجات الحرارة في شتاء 2022 – 2023 بين أعلى وأدنى مستوياتها في العقود الأخيرة. الآن بعد أن تم تخفيف معظم القيود المفروضة على التنقل المتعلقة بفيروس كورونا، من المحتمل أن تكون تأثيرات الأنفلونزا ضمن النطاق الذي شوهد ما بين 2000 و2019.
من المثير للدهشة أن الفجوة في معدلات الوفيات الموسمية أكبر في البلدان الدافئة منها في البلدان الباردة. ففي البرتغال، يكون معدل الوفيات الأسبوعية في الشتاء أعلى بنسبة 36% مقارنة بالصيف، مقابل 13% فقط في فنلندا.
وتتمتع البلدان الأكثر برودة بأنظمة تدفئة وعزل أفضل، كما أنها أغنى بشكل غير معتاد ومعظم سكانها من الشباب. لكن عند مقارنة درجات الحرارة داخل البلدان وليس بين بعضها، تؤكد البيانات أن البرد هو المتسبب في الوفيات. في فصل شتاء أبرد بمقدار درجة مئوية واحدة عن المعتاد في بلد معين، تزداد الوفيات بنسبة 1.2%.
"الأشخاص الأضعف سيدفعون ثمناً باظهاً: الموت"
وجدت الدراسة أن ارتفاع أسعار الكهرباء بنسبة 10٪ مرتبط بزيادة عدد الوفيات بنسبة 0.6٪، على الرغم من أن هذا الرقم يكون أكبر في أسابيع البرد وأصغر في الأسابيع المعتدلة.
تستشهد الدراسة بحالة إيطاليا، حيث ارتفعت فواتير الكهرباء إلى ما يقرب من 200٪ منذ عام 2020، مما يوسع الوضع، الذي قالت إن علاقة خطية تنتج تقديرات وفاة عالية للغاية. تم الإبلاغ عن أن البلاد ستعاني من معظم الوفيات الإضافية. تظهر النتائج أن إيطاليا، التي تضم عدداً أكبر من السكان إلى جانب الارتفاع الشديد في أسعار الكهرباء، تجعلها الأكثر عرضة للخطر.
ومن المتوقع أيضاً أن تعاني دول أخرى؛ مثل إستونيا وفنلندا من ارتفاع معدل الوفيات على أساس الفرد. الناس في بريطانيا وفرنسا سوف تتأثر أيضاً. لم يشمل النموذج الخاص بآثار الوفيات الناجمة عن ارتفاع تكاليف الطاقة أوكرانيا.
ومع ذلك، فإن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا نتيجة للحرب، سيكون لها بالتأكيد تأثير إنساني وخيم على الأوكرانيين أيضاً.
خلال الأسابيع الماضية، ظهر العديد من التقارير نقل عن الأوروبيين قولهم إنهم سيضطرون إلى إيقاف التدفئة بسبب ارتفاع أسعار الوقود؛ مما يؤدي بشكل أساسي إلى تفاقم تأثير درجات الحرارة الباردة على الوفيات من خلال زيادة تعرض الناس لدرجات حرارة منخفضة.
الأشخاص الأكثر ضعفاً في أوروبا، وكبار السن، ومن يعيشون بمفردهم أو يتقاضون رواتب منخفضة إلى رواتب متوسطة، سيدفعون الثمن الأعلى: الموت.