مع انسحاب فرنسا عسكرياً من الساحل الإفريقي، وإعلانها وقف مساعداتها التنموية، تجد الصين الأبواب مشرعة أمامها لتعزيز وجودها الاقتصادي في تلك المنطقة، وخصوصاً في مالي، دون منافسة شديدة من الدول الغربية، خاصة في ظل حضور عسكري لحليفتها روسيا بالمنطقة.
في 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية وقف باريس المساعدات التنموية التي تقدمها لمالي، بعد 3 أشهر من انسحابها العسكري منها. ولم تنتظر الصين صدور هذا القرار لتسريع وجودها الاقتصادي في مالي، ضمن رؤية أوسع تشمل "مبادرة الحزام والطريق" في إفريقيا، بل بادرت بوضع اللبنة الأولى لتعاون أوسع.
الصين توسع نفوذها في الساحل الإفريقي
في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي افتتحت النسخة الأولى للمنتدى الاقتصادي الصيني المالي في العاصمة باماكو، بمناسبة مرور 62 عاماً على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
ويعكس تنظيم أول منتدى للتعاون الصيني المالي، رغبة بكين في إطلاق مرحلة جديدة من التعاون مع مالي بعد الصدمة التي تلقتها في 2015، وتسببت في تراجع الدور الصيني في البلاد، وإحجامها عن ضخ استثمارات كبيرة، في بلد مازال يواجه تحديات أمنية تهدد وجود الدولة برمته.
ففي 2014، أعلنت الصين عن مشاريع في مالي بقيمة 11 مليار دولار، تشمل إنشاء خط للسكك الحديدية بين مالي وميناء كوناكريا في غينيا، وتطوير خط السكك الحديدية بين باماكو وميناء داكار بالسنغال ومشاريع أخرى متعلقة بالبنية التحتية واستخراج الحديد الخام وتحويله إلى صلب.
غير أن هجوماً تبناه تنظيم "المرابطون" التابع "للقاعدة"، استهدف فندقاً في بامكو، تسبب بمقتل 20 شخصاً بينهم 3 مديرين تنفيذيين في شركة صينية للسكك الحديدية، تسبب في تجميد هذه المشاريع الاستراتيجية التي كان بإمكانها فك العزلة عن بلد مغلق جغرافياً وليس له منافذ بحرية إلا عبر دول الجوار، وبالأخص السنغال وغينيا، وتنشيط حركة التجارة الخارجية مع الصين ودول العالم. فموقع مالي الرابط بين شمال القارة الإفريقية ووسطها وغربها، يجعلها حجراً أساسياً ضمن استراتيجية الصين في القارة السمراء.
فرنسا تضيق الخناق على مالي
مع سعي الحكومة الانتقالية في مالي للبحث عن شركاء جدد مثل الصين، بعد أزمتها مع فرنسا وفرض المجموعة الاقتصادية دول غرب إفريقيا (إيكواس) عقوبات دبلوماسية واقتصادية على باماكو (ألغتها لاحقاً)، عملت باريس على تضييق الخناق أكثر على مالي.
فمنذ تدخلها العسكري في 2013، لم يسبق أن استخدمت فرنسا المساعدات الاقتصادية كسلاح ضد الحكومة الانتقالية في باماكو، إلا مؤخراً بعد اتهامها للأخيرة بالاستعانة بمقاتلين من شركة "فاغنر" الروسية، ما يكشف أن تدهور العلاقات بين البلدين وصل إلى مرحلة القطيعة.
ردت باماكو بعدها بأيام بفرض "حظر فوري على جميع الأنشطة التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية العاملة في البلاد بتمويل فرنسي أو مادي أو دعم فني، بما في ذلك في المجال الإنساني الذي له صلات بفرنسا".
وجرأة المجلس العسكري الذي استولى على السلطة بمالي في 2020، في تحدي الضغوطات الفرنسية ومن ورائها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تكمن في الدعم العسكري والدبلوماسي الذي توفره لها روسيا، وأيضاً المساعدات المالية والتنموية.
الدور الروسي الصيني يتعاظم
تجلى هذا الدعم أكثر، عندما استخدمت روسيا والصين الفيتو ضد نص تقدمت به فرنسا يدعم عقوبات "إيكواس" ضد مالي في يناير/كانون الثاني الماضي.
وبعد أسبوع واحد فقط من وقف فرنسا مساعداتها التنموية، أعلنت مالي توقيعها مذكرة تفاهم مع الصين لتركيب وحدتي غزل، واحدة في مدينة كوتيالا (شرق) والأخرى في باماكو، برأسمال 200 مليون دولار، من شأنهما توفير 5 آلاف منصب عمل.
إذ يمثل القطن الصادرات الرئيسية لمالي، ومن شأن إنجاز المصنعين رفع مداخيل البلاد من العملة الصعبة في هذا القطاع. كما تشارك شركات صينية في استخراج الذهب، الذي تمثل صادراته المصدر الثاني للدخل في البلاد بعد القطن.
كما تعد الصين اللاعب الرئيسي في جميع مشاريع البنية التحتية من طرق ومطارات ومبانٍ عامة وثقافية ورياضية وصحية، بحسب مجلة "الصين مغازين"، بنسختها الفرنسية.
وأشار السفير الصيني لدى باماكو تشين جيهونغ، ببعض ما أنجزته بلاده في مالي على غرار "بناء مستشفى مالي، والجسر الثالث في باماكو، وحرم جامعة كابالا، ومركز التدريب المهني".
وقال جيهونغ، في منتدى التعاون الصيني المالي: "في المستقبل القريب، سيتم الانتهاء من مشاريع جديدة مثل محطة الطاقة الكهرومائية في جوانا، والمرحلة الثانية من الحرم الجامعي لجامعة كابالا، والمشروع التجريبي لكهربة القرى عن طريق الطاقة الشمسية".
فرنسا منزعجة من الصين وروسيا
تزايد النفوذ الصيني في الساحل الإفريقي بالتزامن مع تراجع هيمنة باريس على البلاد، بل وعلى إفريقيا، يثير قلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي صرح على هامش قمة الفرنكفونية بتونس التي عقدت يومي 19 و20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 أن "عدداً من القوى، التي تريد أن تنشر نفوذها في إفريقيا، تفعل ذلك للإضرار بفرنسا وبلغتها، ولنثر بذور الشك. لكن الأهم من كل ذلك السعي وراء مصالح بعينها".
ولم يحدد ماكرون من هي الدول التي تسعى للإضرار بفرنسا ولغتها، لكن لا شك أن الصين إحداها. إذ يحاول الإعلام الفرنسي تركيز الأضواء على المشاكل بين المزارعين والتجار الماليين والصين، على غرار الآثار البيئية السلبية لعمليات استخراج الصين للذهب، خاصة تأثيرها على خصوبة الأراضي الصالحة للزراعة.
والرسالة التي يريد ماكرون إيصالها للأفارقة أنهم إذا كانوا يعتقدون أن فرنسا دولة استعمارية فإن الصين وروسيا ليستا أقل إمبريالية منها. ففرنسا وإن انسحبت عسكرياً وتنموياً من مالي، إلا أنها ترغب في خوض معركة إعلامية ضد الاستثمارات الصينية لتأليب السكان ضدها، كتلك التي شنتها الدعاية الروسية على باريس عندما كانت قواتها موجودة بكثافة في مالي (2013- 2022).