تتمتع كوريا الجنوبية بالحماية الأمريكية منذ نصف قرن، لكن سيول تشعر بالخطر المتزايد فقررت اقتحام صناعة السلاح، لتنتج مدافع هاوتزر متطورة ودبابات سريعة وروبوتات قاتلة وما خفي أكثر فتكاً، فكيف فعلتها؟
كانت كوريا الجنوبية والولايات المتحدة قد وقعتا معاهدة دفاع مشترك عام 1972، وهي المعاهدة التي يوجد بموجبها عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين، لكن تلك المعاهدة أيضاً حملت شرطاً يمنع سيول من استخدام الطاقة النووية لأغراض عسكرية، ويضع قيوداً على تصنيعها العسكري بشكل عام.
ولطالما أرادت كوريا الجنوبية أن يكون لديها أسطول من الغواصات النووية لمواجهة التهديد الدائم من كوريا الشمالية، لكن أمريكا وقفت حجر عثرة أمام حلم سيول لأكثر من نصف قرن.
إذ ترجع جذور قصة الحلم الكوري الجنوبي بامتلاك غواصات تعمل بالوقود النووي إلى عقود مضت، لكن مع تطوير كوريا الشمالية لبرنامج نووي عسكري، وامتلاكها ذلك النوع من الغواصات، ازدادت رغبة سيول في إعادة إحياء الحلم مرة أخرى. ويبدو أن التغيير الجذري في المشهد السياسي العالمي خلال السنوات الماضية وفر فرصة مواتية لكوريا الجنوبية، قد تحيي الحلم مرة أخرى وتسعى لبناء غواصات تعمل بالوقود النووي، دون الحاجة للاعتماد على حليفتها الولايات المتحدة.
كوريا أحد كبار مصدري السلاح عالمياً
لكن جنباً إلى جنب مع السعي لتحقيق حلم امتلاك غواصات نووية، طورت سيول أيضاً قدراتها في مجال التصنيع العسكري التقليدي، وتسعى الآن لأن تحتل المركز الرابع عالمياً في تصدير الأسلحة.
وألقى تقرير لشبكة CNN الأمريكية الضوء على بعض من تلك الأسلحة التي تتميز بها سيول، من الدبابات السريعة، إلى مدافع هاوتزر مدوية تبعث الرجفة في العظام.
واستعرضت سيول مؤخراً أسلحتها كجزء من DX Korea، وهو معرض دفاعي كوري جنوبي أقيم لمدة 4 أيام في سبتمبر/أيلول الماضي في ميدان رماية بمدينة بوتشيون، على بعد حوالي 30 كيلومتراً من الحدود الكورية الشمالية.
وهذا العرض -الذي قُدِّم إلى حشد من 2000 شخص بمن فيهم مسؤولون عسكريون من أكثر من 20 دولة- هو إحدى الطرق التي تبيع بها كوريا الجنوبية الأسلحة، إذ يريد الرئيس يون سوك يول بيع المزيد منها، بما يكفي لتقفز سيول أربع مراتب وصولاً لرابع أكبر مُصدِّر للأسلحة في العالم.
وقال يون: "بدخول أكبر 4 دول مُصدِّرة للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، ستصير صناعة الدفاع (في كوريا الجنوبية) صناعة استراتيجية وقوة دفاعية".
لفعل ذلك، سيتعين على كوريا الجنوبية أن تتفوق على المملكة المتحدة وإيطاليا وألمانيا وأخيراً الصين، التي استحوذت على 4.6% من سوق التصدير خلال الفترة 2017-2021، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
وهذه ليست مهمة سهلة، لكن سيول في طريقها بالفعل لتحقيق ذلك. من عام 2012 إلى عام 2016، كانت تستحوذ على 1% فقط من السوق العالمية. لكنها ضاعفت ذلك في فترة السنوات الخمس التالية، لتستحوذ على 2.8% – وهي أكبر زيادة إلى حد بعيد بين أي من الدول الـ25 التي تتصدَّر سوق الأسلحة في العالم.
وفي عام 2021، باعت سيول أسلحة بقيمة 7 مليارات دولار في الخارج، وفقاً لبنك التصدير والاستيراد الكوري. وتعتقد صناعة الدفاع الكورية أنَّ لديها الترسانة اللازمة للحصول على حصة أكبر من الكعكة.
الدافع وراء الاكتفاء الذاتي من السلاح
تضخمت صادرات الأسلحة في كوريا الجنوبية في السنوات الأخيرة، لكن البلاد كانت تبني صناعة الأسلحة منذ عقود، مدفوعة بعلاقتها المضطربة مع جارتها كوريا الشمالية.
فاعتباراً من عام 2020، مثّلت النفقات العسكرية 2.8% من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا الجنوبية، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، أعلى بكثير من عتبة 2% التي يضعها العديد من حلفاء الولايات المتحدة حداً أدنى.
تشون إن بوم، وهو ملازم سابق في الجيش الكوري الجنوبي، قال للشبكة الأمريكية: "لقد أعطانا التهديد الكوري الشمالي سبباً وجيهاً، ودافعاً للتأكد من أنَّ أسلحتنا جيدة جداً".
من الناحية الفنية، لم تنتهِ الحرب الكورية قط؛ لأنَّ الوثيقة التي أوقفت القتال في عام 1953 كانت هدنة وليست معاهدة سلام. وفي ظل التهديدات المستمرة من الشمال، بدأت سيول ضريبة الدفاع الوطني لدفع تكاليف تطوير جيش حديث، بما في ذلك الأنظمة المدرعة وغيرها من المعدات العسكرية التي تعمل شركات الدفاع الكورية على تسويقها اليوم.
الأسلحة الكورية وحرب أوكرانيا
بوميض أصفر يُسبِّب العمى وارتجاج في المخ يهز العظام، أطلقت مدافع الهاوتزر ذاتية الدفع "كيه 9" قذائف مدفعية على تلة أصيبت للتو بصواريخ أطلقتها طائرات هليكوبتر. ثم تزأر دبابات "كيه 2″، وتسرع على الطرقات وتطلق النار بينما تتحرك.
وبالعودة إلى سفح التل بعد عرض الذخيرة الحية، استمع العملاء المحتملون باهتمام إلى شرح ممثلي كوريا الجنوبية. وقد وصلت الوفود من أماكن بعيدة مثل المكسيك وتايلاند ونيجيريا والفلبين. وسأل جنرال هندي عن نطاقات السلاح المعروض. وتفحص الضباط القطريون دبابات "كيه 2" عن قرب.
لكن هذا لا يعني أنَّ صناعة الأسلحة في كوريا الجنوبية لا ترى لنفسها دوراً في حرب أوكرانيا مع روسيا، فقد صرح مسؤول دفاعي أمريكي لشبكة CNN هذا الشهر بأنَّ واشنطن تعتزم شراء 100000 طلقة من ذخيرة المدفعية من مُصنَّعي الأسلحة الكوريين الجنوبيين لتزويد أوكرانيا بها.
وستُنقَل الذخائر إلى أوكرانيا عبر الولايات المتحدة؛ مما يسمح لسيول بالالتزام بتعهدها العام بعدم إرسال مساعدات مميتة إلى الدولة التي مزقتها الحرب.
مدينة مُصمَّمة بنوايا دفاعية
التهديد المستمر بهجوم كوري شمالي هو أحد أسباب إنشاء خطوط إنتاج عسكرية في مدينة تشانغوون الساحلية الجنوبية، مهد صناعة الأسلحة الحديثة في كوريا الجنوبية.
بدأت الطلبيات الخارجية تتدفق هذا العام، ولا سيما الصفقة التاريخية مع بولندا التي تقدر جمعية صناعة الدفاع الكورية قيمتها بـ15.3 مليار دولار.
بولندا هي واحدة من تسع دول -إلى جانب كوريا الجنوبية وتركيا وفنلندا والهند والنرويج وإستونيا وأستراليا ومصر- التي تشتري مدافع الهاوتزر من مجموعة Hanwha الكورية الجنوبية.
يقول لي بو هوان، نائب الرئيس التنفيذي لقسم الأعمال الخارجية بشركة Hanwha Defense، إنَّ الشركة تريد أن تكون شريكاً طويل الأجل للدول التي تشتري أسلحتها. وتحقيقاً لهذه الغاية، تنشئ مرافق تصنيع جديدة في أستراليا ومصر وبولندا.
يقول لي: "عمالي سعداء جداً لمشاركة التكنولوجيا الخاصة بنا. وتركيزنا الاستراتيجي الرئيسي هو دخول أسواق (جديدة)".
صعود الروبوتات
في مجمع حديث مترامي الأطراف في تشانغوون، تعمل روبوتات Hanwha على إخراج قطع المدفعية للهاوتز "كيه 9" بمعدل وحدة واحدة كل ثلاثة إلى خمسة أيام.
يتحد مزيج من الروبوتات والبشر في خط تجميع مكون من سبع محطات لتجميع ما سيكون في النهاية 47 طناً مترياً من الفولاذ والآلات والإلكترونيات.
يوضح لي، نائب الرئيس التنفيذي لمجموعة Hanwha، كيف تعمل الشركة على تكييف مدافع هاوتزر لتناسب عملاءها في الخارج: تلك المتجهة إلى المناخات الشمالية مثل النرويج تُزوَّد بمصادر حرارة إضافية للطاقم، بينما تلك المصممة لأماكن أكثر سخونة مثل الهند أو مصر تحصل على المزيد من أجهزة تكييف الهواء. بعض مدافع هاوتزر "كيه 9" التي ينتجها المصنع تتجه إلى بولندا هذا العام.
السوق الأمريكية المهمة
تركز Hanwha Defense على سوق واحدة على وجه الخصوص؛ وهي الولايات المتحدة، أكبر سوق دفاعية في العالم.
يقول لي، نائب رئيس Hanwha: "نريد دخول السوق الأمريكية بدعم من شركة أمريكية محلية، ونريد كذلك المساهمة في الجيش الأمريكي وصناعة الدفاع المحلية الأمريكية".
في عام 2021، بلغ الإنفاق العسكري الأمريكي 801 مليار دولار. لكن صادرات الأسلحة والذخيرة من كوريا الجنوبية إلى الولايات المتحدة بلغت 95 مليون دولار فقط، وفقاً لوزارة التجارة الأمريكية.
وعامةً، كان الإنفاق العسكري الأمريكي أكثر من الدول التسع التالية مجتمعة، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. واحتلت كوريا الجنوبية المرتبة العاشرة.
يقول تشون إن بوم، الملازم السابق في الجيش الكوري الجنوبي، إنَّ صناعة الدفاع في كوريا الجنوبية يجب أن يُنظَر إليها على أنها شريك يكمل نظيرتها الأمريكية، وليست منافسة لها.
ويضيف تشون: "هناك أجزاء من حيز الأسلحة لا تصنعها الولايات المتحدة؛ لأنهم يشعرون أنهم ليسوا بحاجة إليها؛ لأنها لا تحقق ربحاً لصناعتهم. وهذا ما نستهدفه. الأنظمة التي بعناها إلى بولندا هي بالضبط تلك الأنواع من الأنظمة". وتابع تشون: "آمل أن تدرك الولايات المتحدة أنَّ هذه شراكة".