خلال زيارة نادرة من نوعها، حلّ رئيس هيئة الأركان السوداني محمد عثمان الحسين بالجزائر، رفقة وفد عسكري وُصف بـ"الهام"، والتقى نظيره سعيد شنقريحة، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وتتزامن هذه الزيارة مع إعلان رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، في 13 نوفمبر، أن "الجيش يريد توافقاً، وحكومة مدنية يحرسها، بعيداً عن المحاصصة الحزبية".
الاستفادة من التجربة الجزائرية
ويرى مراقبون أنه من المرجح أن يحاول رئيس الأركان السوداني الاستفادة من تجربة الجيش الجزائري في قيادة مرحلة "الانتقال السياسي" وتسليم السلطة للمدنيين، مع الحفاظ على وحدة الجيش والبلاد.
فبعد استقالة الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة، في 2 أبريل/نيسان 2019، إثر احتجاجات شعبية وضغط من قيادة الجيش، رفض قائد الأركان الراحل أحمد قايد صالح الاستيلاء على السلطة أو اقتسامها مع المدنيين، وإنما فضَّل احترام نص الدستور.
وعلى أساس الدستور، نظمت انتخابات رئاسية مسبقة، بعد مرحلة انتقالية صعبة لم تتجاوز بضعة أشهر، لكنها انتهت بالبلاد إلى شاطئ الاستقرار.
وتتشابه التجربة السودانية في بعض النقاط مع نظيرتها الجزائرية، وخاصة ما تعلق بإجبار الجيش الرئيس عمر البشير على الاستقالة، بعد 9 أيام من استقالة نظيره الجزائري، تحت ضغط مظاهرات شعبية دامت أشهراً وسقط خلالها عشرات القتلى.
غير أن نقطة الخلاف الجوهرية تتمثل في النتيجة، إذ لم يتمكن السودان لحد الآن من الخروج من المرحلة الانتقالية، التي كان من المقرر لها أن تنتهي في 21 نوفمبر الجاري، بإجراء انتخابات، قبل أن يتم تمديدها 14 شهراً.
فالجيش السوداني يبحث عن مخرج من الأزمة السياسية التي تتخبط فيها البلاد، والتي تهدد بتفكك الجيش، بل انقسام البلاد مجدداً، على غرار تحركات قبائل البجا في الشرق وتلويحها بالانفصال على غرار ما حدث في جنوب السودان (1955-2011).
البحث عن حليف إقليمي
لا شك أن التحديات الأمنية للجيش السوداني أصبحت بالغة التعقيد، داخلياً وخارجياً، فالأزمة السياسية تزيد الوضع تعقيداً في شرق البلاد، بعدما هدد مجلس قبائل البجا بعدم الاعتراف بالحكومة المركزية في الخرطوم، وتشكيل حكومة محلية للانفصال عن السودان.
وإقليم دارفور في غرب البلاد يعيش استقراراً هشاً، وليس من المستبعد أن ينهار السلام به، إذا لم يتم حل الأزمة السياسية في الخرطوم.
بل الأخطر من ذلك، أن يغري الوضع الأمني الصعب الجماعات المسلحة في منطقة الساحل، خاصة داعش الصحراء الكبرى وبوكو حرام، للزحف من بحيرة تشاد إلى إقليم دارفور.
ناهيك عن أزمة سد النهضة مع إثيوبيا، والانقسام السياسي والأمني في ليبيا، والوضع غير المستقر في الجارتين جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، وانتشار تهريب البشر والسلاح والمخدرات عبر الحدود.
هذا الوضع المتأزم يدفع الجيش السوداني للبحث عن حليف قوي لدعمه في مواجهة كل هذه التحديات المتزامنة.
ويواجه الجيشان السوداني والجزائري عدة تحديات مشتركة، وعلى رأسها الأزمة السياسية والأمنية في ليبيا، ما يحتم عليهما التنسيق في هذا الملف، رغم أنه كان سبباً في فتور العلاقات بينهما في 2016، عندما صدرت تقارير تتحدث عن دور سوداني في دعم أحد أطراف النزاع في ليبيا "بالسلاح"، الأمر الذي تعارض مع مساعي الجزائر لإيجاد حل سياسي في البلاد.
ويمثل ملف تجارة البشر وتهريب السلاح والمخدرات إحدى القضايا المشتركة للجزائر والسودان، باعتبارهما جزءاً من منطقة الصحراء الكبرى، التي تتحرك عبرها قوافل المهاجرين غير النظاميين، وتجار السلاح والمخدرات، والمنقبين عن الذهب.
وأوقفت الجزائر في السنوات الأخير أعداداً كبيرة من المنقبين عن الذهب نسبة كبيرة منهم سودانيون.
كما أصبح عدد من المهاجرين غير النظاميين يفضلون المسار الغربي باتجاه إسبانيا، بعدما كان المسار الشرقي عبر مصر نحو اليونان وإيطاليا وحتى إسرائيل، الذي يفضله أغلب المهاجرين السودانيين خاصة من دارفور.
وتشكل الجماعات المسلحة في منطقة الساحل على غرار "داعش في الصحراء الكبرى" والجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة بالإضافة إلى تنظيم بوكو حرام، تهديداً حقيقياً للبلدين، خاصة بعد الفراغ الذي من الممكن أن يتركه انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية من مالي، وحتى بوركينا فاسو في المستقبل القريب.
ما يتطلب تنسيقاً بين الجيشين، وتعاوناً حقيقياً، رغم أنه سبق للجزائر أن دربت دفعات عسكرية وأمنية سودانية خاصة منذ 2010، وليس من المستبعد أن يتعزز هذا التعاون في مجال التدريب، سواء من حيث تأمين العمليات الانتخابية والتعامل باحترافية مع المظاهرات الشعبية، أو في مكافحة الجماعات المسلحة.
بينما يبحث الجيش الجزائري عن أسواق لتصدير بعض الأسلحة المصنعة لديه، خاصة العربات المدرعة والشاحنات العسكرية متعددة المهام، والسودان إحدى هذه الأسواق المحتملة.
فالتنسيق الأمني ضمن سياق إقليمي ودولي مضطرب شكَّل محور النقاش بين قائدي أركان البلدين.
حيث ذكرت وزارة الدفاع الجزائرية، في بيان، أن الطرفين تطرقا، خلال اللقاء، إلى "السياق الأمني الإقليمي"، وأكدا على ضرورة تنسيق الجهود من أجل رفع التحديات الأمنية المشتركة، وإيجاد السبل الكفيلة بتعزيز علاقات التعاون بين البلدين.
وتحدث شنقريحة عن تبادل وجهات النظر "حول الوضع السائد في الساحة الدولية عموماً، والقارة الإفريقية خصوصاً".
وتوسطت الجزائر عبر وزير خارجيتها رمطان لعمامرة، في ملف سد النهضة بين إثيوبيا والسودان ومصر، ما يمكنها من لعب دور في منع تدهور الوضع بين أديس أبابا والخرطوم، إلى مواجهات عسكرية، بسبب عدة ملفات على غرار منطقة الفشقة الحدودية.
حراك متسارع
واللافت أن زيارة رئيس هيئة الأركان السوداني إلى الجزائر جاءت بعد نحو ثلاثة أسابيع من مشاركة "البرهان" في القمة العربية التي عُقدت بالجزائر، وبالتزامن مع حراك ملحوظ في العلاقات بين البلدين.
إذ عقدت لجنة التشاور السياسي اجتماعاتها في مايو/أيار الماضي، ومن المرتقب عقد اجتماعات اللجنة الوزارية المشتركة مطلع 2023.
وزارت وفود رسمية جزائرية في الأشهر الأخيرة السودان لبحث فرص التعاون والاستثمار، خاصة في قطاعات التنقيب واستخراج النفط والغاز والمعادن.
ويسعى السودان لرفع إنتاجه من النفط من نحو 86 ألف برميل يومياً في 2020 إلى 155 ألف برميل يومياً خلال الأعوام القليلة المقبلة، لتخفيف أزمته المالية.
وليس من المستبعد أن تقدم الجزائر مساعدات مالية للسودان؛ إذ سبق لها في 2013 أن أسقطت عنه ديوناً مستحقة لها، على غرار عدة دول إفريقية.
وكان من المنتظر أن تضع الجزائر وديعة لدى البنك المركزي السوداني بملياري دولار، في عهد وزير المالية عبد الرحمان بن خالفة (2015-2016)، وفق مصدر مطلع، لدعم الاقتصاد السوداني من الانهيار بعد انفصال جنوب السودان في 2011، لكن تراجع أسعار النفط منذ 2014، وتآكل احتياطيات النقد الأجنبي الجزائري من المرجح أن يكونا حالا دون الاستجابة لهذا الطلب.
لذلك فزيارة قائد الأركان السوداني تأتي في سياق حركية شاملة للعلاقات بين البلدين تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وتعكس رغبة جزائرية لدعم السودان مجدداً بعد تحسن وضعها الاقتصادي والمالي.