كان البحث عن المثالية والتفوق والريادة هو الذي خلق معجزة ألمانية تلو أخرى، بدءاً من الوحدة الألمانية الإعجازية في القرن التاسع عشر والنهضة الصناعية التي أعقبتها وصولاً إلى المعجزة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن أيضاً هذا البحث عن التفوق هو الذي أدى إلى حربين عالميتين فتكتا بأوروبا، في مثال جلي على أزمة التناقضات الألمانية.
واليوم، باتت ألمانيا تمثل نموذجاً نادراً في تاريخ الأمم، فهي لم تنهض فقط من ركام الحرب العالمية الثانية، خالقةً معجزة اقتصادية جعلتها مصنع العالم الكبير الذي يتوق البشر من كل حدب وصوب إلى منتجاته، وثاني أكبر مصدّر للسلع متفوقة على الولايات المتحدة، ولكنها أيضاً اعتذرت في مسلك نادر من قِبل الدول الكبرى عن ماضيها النازي وهي جادة في التبرؤ منه، بينما ما زالت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة مترددة في الاعتذار عن ماضيها الاستعماري، بل ما زالت تمارس أشكالاً من الإمبريالية الاستعمارية والعسكرية حتى ولو بشكل مخفف.
في المقابل، اختارت ألمانيا أن تتبوأ مكانتها الحديثة كقوة عظمى من نجاحها الاقتصادي ومن كونها عرابة التوجهات السلمية الرافضة للحروب والمدافعة عن الحقوق والحريات في الغرب ومجمل العالم.
لذا لم يكن غريباً أن تكون البلدَ الذي استضاف أكبر عدد من اللاجئين بأوروبا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعض النظر عن استفادتها جزئياً من استضافة اللاجئين في حل أزمة التشغيل نتيجة نمو اقتصادها الكبير.
كما أنها البلد الذي يرى في نفسه ملاذاً للأقليات الإثنية المضطهدة مع توفير قدر لا بأس به من المساحة لهم للتعبير عن هوياتهم، والأمر ذاته مع المثليين الذين يصنفون وفقاً للتصنيف الغربي كأقليات.
ولكن الأزمة الأوكرانية ومؤخراً موقف منتخب ألمانيا وبعض وسائل الإعلام الألمانية من رفض قطر السماح بإظهار الإشارات الداعمة للمثلية في مونديال قطر 2022، مؤشرات على وجود مشكلات كبيرة في سعي برلين لما تعتبره قيادة ألمانية لليبرالية الحديثة وزعامة أوروبا، زعامة يتم فيها يتم التشدد في غير موضعه والبراغماتية في غير محلها.
فيتهاون الألمان حينما تكون الصلابة مطلوبة، ويتصلبون حينما يكون التفهم عملاً أخلاقياً وليس ضرورة براغماتية فقط.
التناقضات الألمانية ظهرت قبل المونديال بسنوات
وتتدثر هذه التناقضات الألمانية خلف ادعاء المثالية والريادة، بينما هي تخفي في حقيقتها مصالح اقتصادية ضيقة وانحيازات عنصرية كامنة وأحياناً مشكلات فكرية.
إذ يبدو أن الألمان يبحثون عن دور وقيادة بلا تكلفة تُذكر، وتقديم أنفسهم كدولة تقود العالم فيما تعتبره قيماً أخلاقية عالمية رغم أنها ليست عالمية وقد لا تكون أخلاقية.
وهذا النهج يفضل خوض المعارك السهلة دون مواجهة فعلية للمشكلات والتحديات الحقيقية التي تواجه أوروبا والعالم والإنسانية، في وقت تريد فيه أوروبا والغرب وجزء كبير من العالم وضمن ذلك العديد من أبناء الشرق الأوسط من ألمانيا، أن تكون قائدة وداعماً لمجمل القيم الإنسانية وليس فقط بعض القيم الغربية المثيرة للجدل، بل أحياناً الغضب لدى جزء من كبير من شعوب العالم.
وساطة ميركل في الخلاف التركي اليوناني نموذج لأزمة القيادة الألمانية
يظهر هذا في مواقف عدة؛ بدءاً من الخلاف التركي اليوناني، فرغم أن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، رفضت التجاوب مع مساعي أثينا وباريس الراغبتين في تصعيد أوروبي مع أنقرة، وقبلت أن تكون حكماً بين اليونان وتركيا ولكن عندما أدت هذا الدور، لم تقم به بالطريقة المحايدة التي تتفق مع شعار المثالية التي ترفعه.
فرغم أنها لعبت دوراً في منع تحول الخلاف التركي اليوناني لنزاع عسكري عام 2020، فإن ميركل لم تعلن أن أثينا انتهكت التفاهمات مع أنقرة التي أبرمت بوساطتها معاً لوقف التصعيد الذي منع نشوب مواجهة عسكرية بحرية بين البلدين عندما وقّعت اليونان اتفاق ترسيم للحدود البحرية مع مصر اعتبرته تركيا تعدياً على حقوقها، حسبما ذكرت وسائل إعلام ألمانية، ولم يصدق عليه البرلمان المصري حتى الآن.
كما حاولت النخبة الألمانية تنصيب تركيا، العضو بالناتو، خصماً لأوروبا، متجاهلةً أن أنقرة ترغب في حل سلمي للخلاف، وأنها تتطلع إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي بشروط عادلة.
وتجاهلت هذه النخب وضمنها ميركل، دور تركيا في التوازن مع روسيا، التي ثبت أنها الخطر الحقيقي على أوروبا والناتو ومجمل الغرب.
وبدلاً من ذلك انخرطت برلين في علاقات اقتصادية وثيقة مع موسكو حتى بعد أن احتلت الأخيرة شبه جزيرة القرم عام 2014، وهي العلاقات التي جعلت مجمل أوروبا رهيناً للطاقة الروسية وشجعت بوتين على قراره غزو أوكرانيا في 2022، وهو دور لا ينساه الأوكرانيون لميركل.
حظر تصدير السلاح بلا منطق
وتظهر التناقضات الألمانية جلية في مجال حظر تصدير السلاح، الذي تُفاخر برلين بأنه درة سياستها الأخلاقية الخارجية.
فقد فرضت لفترة حظراً على تصدير السلاح للمملكة العربية السعودية بسبب حرب اليمن، ولم تفعل ذلك مع الإمارات التي كانت مشاركة في الحرب، بل كان لها في أوقات كثيرة أدوار أكبر من الرياض في الحرب، خاصة في الجنوب اليمني.
إضافة إلى أن الإمارات كانت متورطة في حروب عدة بمنطقة الشرق الأوسط من ليبيا للصومال مروراً بالصراع الإثيوبي.
ومثال آخر على التناقضات الألمانية، وهو عدم فرض برلين حظراً على توريد السلاح إلى مصر بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب الراحل محمد مرسي، أو إسرائيل التي تحتل الأراضي الفلسطينية وتعتدي على سوريا ولبنان.
في المقابل، فرضت حظراً على تصدير السلاح لتركيا حليفتها في الناتو، لأنها مارست حقها الطبيعي في محاولة حماية حدودها الجنوبية من حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري المعروف باسم حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الذي يقيم ما يعرف باسم الإدارة الذاتية بشمال سوريا والتي ما هي إلا كيان عنصري تحكم فيه أقلية كردية حزبية أغلبية عربية، حسب تقارير مراكز أبحاث غربية عدة رصدت التمييز ضد الأغلبية العربية، وتؤكد كلها أن قوات سوريا الديمقراطية أسسها الأعضاء السوريون بحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا وأوروبا وأمريكا، وأن هذا الكيان الكردي متحالف مع النظام السوري التابع لإيران وروسيا والذي ارتكب مذابح وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري.
كما تقدم المحاولة الفاشلة لدول الاتحاد الأوروبي وضمنها برلين، بخصوص تطبيق الحظر الأممي على توريد السلاح لليبيا بدون تفويض أممي، نموذجاً فجاً للازدواجية الألمانية والأوروبية.
إذ حاولت أوروبا في عام 2020، تنفيذ مهمة بحرية تدعي "إيريني" لمنع وصول السلاح لليبيا من البحر المتوسط فقط مع الاعتراف بعدم قدرتهم على منع السلاح القادم عبر الحدود المصرية الليبية، وهو ما يعني فعلياً منع تركيا من تقديم السلاح لحكومة التوافق المعترف بها دولياً فقط، بينما تستمر القاهرة وأبوظبي في توريد السلاح لحليفهما وحليف روسيا اللواء خليفة حفتر، أمير الحرب الذي يسيطر على شرق ليبيا والذي أفسد جهود التسوية التي تقودها الأمم المتحدة بهجومه المباغت على طرابلس عام 2019.
وذلك في تساوق غير مبرر من ألمانيا مع سياسة شريكتها في زعامة الاتحاد الأوروبي فرنسا، التي تدعم حفتر رغم أن استعانة الأخير بالدعم العسكري الروسي تمثل خطراً على أوروبا، بينما جهود تركيا المضادة تقلل نفوذ موسكو، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة وإيطاليا أقرب لموقف أنقرة في الأزمة الليبية.
موقف باهت من الاحتلال الإسرائيلي
وتظهر ازدواجية المعايير الألمانية واضحة في الموقف من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حيث مواقف برلين ضعيفة، بل تمنع أي انتقادات لتل أبيب أو المظاهرات ضد الاحتلال.
ولا تبرر الحساسية الألمانية تجاه اليهود هذه المواقف بسبب ماضي البلاد النازي، لأن رغبة برلين في التبرؤ من هذا الماضي ليست مبرراً لتأييد أو غض الطرف عن ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، بل إدانة من يشبهه بالممارسات النازية.
دعم المثلية ليس قيمة عالمية
ويُظهر الموقف الألماني من منع قطر الإعلان عن تأييد المثلية، أزمة التناقضات الألمانية.
فحظر المثلية ليس قيمة عالمية متفقاً عليها، بل هي أمر مختلف عليه حتى في الغرب ومرفوض في الديانة المسيحية، وكثير من دول العالم (التي تضم أغلب سكان المعمورة على الأرجح)، بل إن ولايات أمريكية عدة تجرم المثلية في تشريعاتها رغم أن المحكمة العليا الأمريكية اعتبرت هذه القوانين غير دستورية.
لماذا لم تتخذ الموقف ذاته من القيود الفرنسية على الحجاب؟
كما أن برلين رغم موقفها الإيجابي الذي لا ينكر من المهاجرين والمسلمين، لم تتخذ موقفاً يذكر من العنصرية بحق المسلمين بأوروبا أو الصين أو الهند علماً بأن المسلمين على مستوى العالم يتعرضون لاضطهاد أكبر من اليهود والأفارقة والمثليين، الذين يتمتعون واقعياً بحالة من التمييز الإيجابي في الغرب.
وبينما ينتقد الألمان انتهاكات حقوق الإنسان حول العالم ويفرضون أنفسهم مع بقية أوروبا والولايات المتحدة وصاة على حقوق الإنسان عالمياً، فإن برلين لا تفعل ذلك مع أعضاء الاتحاد الأوروبي الأقوياء والأثرياء مثل الدنمارك التي أعادت لاجئين سوريين بدعوى أن دمشق ومحيطها آمنة، متجاهلين مخاطر قمع النظام السوري عليهم.
وبينما رفضت برلين بصفة عامة، الانضمام لموقف فرنسا القمعي من الحجاب، فإنها لم تتحدث ببنت شفة يوماً عن قيود باريس على الحجاب رغم مخالفاتها للمواثيق والأعراف الدولية، حسب وصف المنظمات الحقوقية الغربية.
ولم تتصدَّ برلين لمحاولات باريس نقل هذه القيود إلى المستوى الأوروبي، رغم أن ألمانيا والأجهزة القيادية الأوروبية عادة تعلق على انتهاكات حقوقية أقل أهمية تقع في دول الاتحاد الأوروبي الفقيرة أو خارجه.
كيف أظهر افتعال أزمة المثليين بالمونديال التناقضات الألمانية؟ الإجابة لدى روسيا
وتظهر التناقضات الألمانية بأوضح صورها في المقارنة بين مونديالي روسيا وقطر.
فالمنتخب الألماني نفسه ووسائل الإعلام ذاتها لم تنطق ببنت شفة عند المشاركة في كأس العالم بروسيا قبل أربع سنوات، وهي الدولة الأوروبية التي تحظر المثلية، وهي البطولة التي أقيمت بعد ضم روسيا للقرم وهجومها على أوكرانيا شريك الناتو والاتحاد الأوروبي عام 2014.
كما تجدر الإشارة إلى أنه بعد ضم القرم رفضت برلين طلب واشنطن الرد عليه بفرض عقوبات غربية صارمة على موسكو، واكتفت بعقوبات محدودة، بل عززت ألمانيا شراكتها مع روسيا، بالعمل في مشروع خط غاز نورد ستريم 2 الذي يتجنب المرور بالأراضي الأوكرانية (وأي أراضٍ أوروبية أخرى) والذي لم يقلل فقط الموارد المالية المحدودة التي تجنيها كييف من الغاز الروسي، بل جعل موسكو ترى فيه إشارة لإطلاق يدها في غزو أوكرانيا دون الخوف من منع الأخيرة للغاز الروسي المنساب لألمانيا.
دوافع موقف برلين بأزمة القرم.. مكاسب مالية سريعة بددت القيم والأمن الوطني الألماني
وكان واضحاً في موقف ألمانيا من أزمة القرم عام 2014، أن برلين تعطي الأولوية لمكاسبها المالية السريعة من الغاز والنفط الروسيين الرخيصين اللذين ساعدا على بناء الرخاء الألماني، وأنها لا تريد أن تنخرط في سباق تسلح يمليه موقعها الجغرافي القريب من روسيا وزعامتها للاتحاد الأوروبي، مما مكّن موسكو ليس فقط من التحكم في حياة الألمان ومعظم الأوروبيين، بل جعل أوروبا الوسطى والشرقية ضعيفة في أي مواجهة محتملة مع الجيش الروسي.
وهذا الموقف قد يكون أحد دوافعه التوجهات الليبرالية المبالغة في سلميتها أو التبرؤ من الماضي النازي، ولكن الأهم أيضاً رغبة النخب الألمانية في الاستفادة من الشراكة الاقتصادية مع موسكو ومنع تضخم النفقات العسكرية الألمانية التي ستقتطع من الفوائض الاقتصادية الألمانية.
بعدما خذلت أوكرانيا في 2014، تأخرت في دعمها في 2022
وكان أحد مظاهر أزمة الزعامة الألمانية تأخر الدعم العسكري لأوكرانيا، حيث أرسلت إلى كييف في بداية الهجوم الروسي عليها خوذاً ومعدات طبية، الأمر الذي أثار سخرية وانتقاداً لاذعين من قبل أوكرانيا.
ازدواجية المعايير ومراعاة المصالح ليستا أمراً غريباً عن سياسات الدول، ولكن المشكلة عندما تأتي مع ادعاء المثالية، وأن تؤدي ازدواجية المعايير ومراعاة المصالح الاقتصادية الضيقة إلى الإضرار باحتياجات الأمن القومي الألماني نفسه، وهو ما ظهر حالياً في أزمة الطاقة والضعف العسكري الألماني.
كيف دفعت ألمانيا تركيا للتقارب مع روسيا منافستها التاريخية؟
وقبل ذلك دفعت برلين تركيا، المنافس التاريخي والجيوسياسي الأقوى لروسيا، إلى التقارب مع الأخيرة بسبب الإساءة لمصالح الأمن القومي التركي بحجج واهية، أخطرها عبر دعم المسلحين الأكراد ودويلتهم التي تمارس التمييز العنصري بحق عرب شمال سوريا، أو التغاضي عن خطط اليونان وفرنسا لجعل تركيا- الحليف التاريخي لدول شمال وشرق أوروبا- خصماً للاتحاد الأوروبي، بينما تركيا هي إحدى الدول القليلة التي دعمت أوكرانيا قبل الهجوم الروسي الأخير.
وها هي النخبة الألمانية تفتعل أزمة مع قطر، الدولة التي تسعى لتوفير بدائل للغاز الذي قطعته روسيا.
تبدو مشكلة ألمانيا في اختلاق معارك وهمية لتأكيد زعامتها الليبرالية بنسختها المتطرفة أحياناً، في قضية خلافية دون مراعاة لمشاعر مئات الملايين المسلمين والمحافظين على مستوى العالم.
بينما الزعامة الحقيقية التي تحتاجها أوروبا من ألمانيا، هي حمايتها لنفسها ومجمل القارة من روسيا التي لم تخف يوماً عداءها للاتحاد الأوروبي ومجمل القيم الديمقراطية للغرب (وليس قيم دعم المثليين المثيرة للجدل فقط)، كما ظهر في دعم بوتين للثورات المضادة في العالم العربي.
مع الإقرار بتزايد دعم ألمانيا مؤخراً لأوكرانيا، إلا أن التناقضات الألمانية ما زالت تتواصل عبر افتعال أزمة المونديال، بينما تترك مهمة قيادة الحلف الداعم لكييف إلى أمريكا وبريطانيا البعيدتين تماماً عن موسكو التي لا تمثل أي خطر مباشر عليهما عكس ألمانيا التي تقع حدودها على بعد بضع مئات من الكيلومترات من روسيا، ولا يفصل بينهما سوى دول ضعيفة، هي في أمسّ الحاجة لدور ألماني قوي.