جاء سقوط البيتكوين من القمة قوياً وسريعاً. إذ كان رجل الأعمال سام بانكمان فرايد، مستقراً على أعلى نقطةٍ في الصناعة قبل نحو أسبوعين فقط. وكانت قيمة منصته إف تي إكس FTX، ثالث أكبر منصة تداول آنذاك، تبلغ 32 مليار دولار، بينما وصلت ثروته الشخصية إلى 16 مليار دولار.
واليوم، لم يتبقّ أي شيء، باستثناء نحو مليون دائن ينتابهم الغضب، وعشرات شركات التشفير المترنحة، والكثير من التحقيقات التنظيمية والجنائية. ولا شك أن انهيار إف تي إكس السريع وجّه ضربةً كارثية لصناعةٍ لها تاريخ طويل من الإخفاقات والفضائح. ولم نشهد صناعة التشفير في هذه الحالة من الإجرامية، وإهدار الأموال، وانعدام الجدوى من قبل، كما تقول صحيفة The Economist البريطانية.
ما الذي حدث للعملات المشفرة؟
تقول الصحيفة، إن القصة تصبح صادمةً أكثر كلما انتشر المزيد من التفاصيل عن انهيار إف تي إكس. إذ نصّت شروط وأحكام الخدمة في المنصة نفسها على أنها لن تُقرض أصول العملاء لذراعها التجاري. لكن التقارير تشير إلى أنها منحت 8 مليارات دولار من إجمالي أصول العملاء، البالغة 14 مليار دولار، قرضاً لشركة Alameda Research، وهي شركة تجارية مملوكة لبانكمان-فرايد أيضاً، كما قبلت المنصة الضمانات بعملتها الخاصة، التي سكّتها من الفراغ.
لكن تهافت المودعين لسحب أموالهم كشف عن الفجوة المتسعة في ميزانيتها العمومية. وما زاد الطين بلة بعد إعلان إفلاس المنصة هو أن مئات الملايين من الدولارات تدفقت خارج حساباتها.
ولا شك أن الشخصيات الشهيرة، والقروض الداخلية المحرمة، والانهيارات المفاجئة تُعَدُّ من علامات الفقاعات المالية الكلاسيكية. إذ ارتفعت قيمة سوق العملات المشفرة من 800 مليار دولار في مطلع 2021 لتبلغ ذروتها عند نحو 3 تريليونات دولار في العام نفسه. لكن قيمة السوق اليوم عادت إلى نحو 830 مليار دولار.
انفجار الفقاعة
وكما هو الحال في نهاية أية فقاعة، يجب أن نسأل أنفسنا الآن عما إذا كانت العملات المشفرة مفيدةً في أي شيء بخلاف عمليات الاحتيال والمضاربة. إذ حصلنا على وعدٍ بتقنيةٍ تستطيع جعل الوساطة المالية أسرع، وأرخص، وأكثر كفاءة. لكن كل فضيحة جديدة تزيد احتمالية تخويف المبتكرين الحقيقيين وتُهدد بتضاؤل الصناعة. ولا تزال الفرصة قائمةً رغم تضاؤلها، وربما نشهد ظهور بعض الابتكارات الدائمة في يومٍ من الأيام. ويجب أن نحافظ على هذه الأمل الضئيل إبان انهيار العملات المشفرة الحالي.
لكن يجب أن نتذكر الإمكانات الكامنة لهذه التقنية أيضاً في خضم حطام الأسبوع الماضي. إذ تتطلب الخدمات المصرفية التقليدية بنيةً تحتية ضخمة لحفظ الثقة بين الغرباء. لكنها آلية مُكلّفة وتسيطر عليها الأطراف الداخلية التي تأخذ حصتها من العملية. أما شبكات البلوكتشين على الناحية الأخرى، فسنجدها مبنيةً على شبكة الحواسيب التي تجعل معاملاتها شفافةً وموثوقةً نظرياً.
ويُمكن أن نضيف إلى تلك الشبكات بعض الوظائف مفتوحة المصدر والقابلة للتشغيل المتوافق، بما في ذلك العقود الذكية ذاتية التنفيذ التي تتصرف وفقاً لبرمجتها فقط. ويستطيع النظام القائم على الرموز والقواعد التي تحكمها أن يقدم وسيلةً بارعة لتحفيز مساهمي المصادر المفتوحة. وهنا يصبح بالإمكان تنفيذ الترتيبات التي كان تطبيقها في الحياة الواقعية أمراً باهظ الثمن وغير عملي، مما يسمح للفنانين بالحفاظ على حصصهم في أرباح إعادة بيع أعمالهم الرقمية مثلاً.
خيبة أمل كبيرة من وعود كثيرة لم تتحقق
وتكمن خيبة الأمل في أن هذه الوعود لم يتحقق منها الكثير حتى الآن، بعد مضي 14 عاماً على اختراع بلوكتشين البيتكوين Bitcoin. ولا خلاف على أن هوس العملات المشفرة جذب المواهب، بدايةً بألمع الخريجين، ووصولاً إلى محترفي وول ستريت، كما جذب رؤوس الأموال من شركات الاستثمار المخاطر وصولاً إلى الصناديق السيادية وصناديق التقاعد.
وجرى تسخير كميات مهولة من المال، والوقت، والموهبة، والطاقة لبناء ما يُمكن وصفها بأندية القمار الافتراضية. وتُوجد حالياً نسخٌ لامركزية فعالة من الوظائف المالية الرائجة، مثل منصات تداول وإقراض العملات. لكن الكثير من العملاء الذين يخشون فقدان أموالهم لا يثقون بها، لأنهم اعتادوا المضاربة على التوكنات غير المستقرة. بينما ينتشر غسيل الأموال، والتهرب من العقوبات، والاحتيال على نطاقٍ واسع في تلك المنصات.
وفي ظل كل ما سبق، ربما يقول المتشككون إن الوقت قد حان لتنظيم الصناعة بإنهاء وجودها. لكن المجتمع الرأسمالي يجب أن يسمح للمستثمرين بالمخاطرة، مع معرفة أنهم قد يخسرون أموالهم إذا انخفضت قيمة أصولهم. ورغم انهيار سوق التشفير، كانت تداعيات ذلك الانهيار على النظام المالي الأوسع محدودةً ويمكن إدارتها. إذ تضمنت قائمة داعمي منصة إف تي إكس كلاً من شركة الاستثمارات المخاطرة الأمريكية Sequoia، وصندوق الثروة السيادية السنغافوري تماسيك Temasek، وصندوق أونتاريو لمعاشات المعلمين. وخسرت جميع هذه المؤسسات بعض المال، لكن الخسائر لم تكن كارثية.
علاوةً على أنه يجب على المتشككين أن يقروا باستحالة التنبؤ بهوية الابتكارات التي ستؤتي ثمارها. ويجب أن تُترك للناس حريتهم في تخصيص الوقت والمال للاستثمار في طاقة الاندماج، أو السفن الهوائية، أو الميتافيرس، أو تقنية أخرى من قائمة التقنيات المتعددة التي قد لا تُفيد مستقبلاً. ولا تختلف العملات المشفرة كثيراً. إذ ربما تظهر تطبيقات لامركزية مفيدة مع تطور الاقتصاد الافتراضي. كما تواصل تقنية البلوكتشين التحسّن أيضاً. حيث أدت ترقية بلوكتشين الإيثريوم Ethereum في سبتمبر/أيلول إلى تخفيضٍ حاد في استهلاك الشبكة للطاقة، مما مهد الطريق أمامها للتعامل مع أحجام المعاملات الكبيرة بكل كفاءة.
وبحسب الإيكونومست، يجب أن تسترشد الجهات التنظيمية بمبدأين أساسيين، بدلاً من بذل الجهود المفرطة في تنظيم العملات المشفرة أو القضاء عليها. والمبدأ الأول هو الحرص على تقليل عمليات السرقة والاحتيال، كما هو الحال مع أي نشاطٍ مالي آخر. أما المبدأ الثاني فهو إبقاء النظام المالي التقليدي بمعزلٍ عن اضطرابات التشفير. وربما صُمِّمت شبكات البلوكتشين خصيصاً من أجل الإفلات من التنظيم، لكن هذه المبادئ تبرر تنظيم المؤسسات التي تلعب دور حراس البوابات في مجال التشفير.
ولا خلاف على أهمية خطوة إلزام منصات التداول بأن تغطي ودائع العملاء بالأصول السائلة. أما الخطوة الثانية، فهي فرض قواعد الإفصاح، التي ستكشف مثلاً محاولة تقديم قرض ضخم مشكوك في ضمانته من منصةٍ ما إلى ذراعها التجاري. ويجب تنظيم العملات المستقرة، وكأنها من أدوات الدفع المصرفية، لأنه يفترض بها أن تحمل قيمة إحدى العملات النقدية في العالم الواقعي.
فقاعة توليب جديدة أم جرس إنذار؟
لن يعتمد مصير عالم التشفير على التنظيم في نهاية المطاف، سواءً نجت العملات المشفرة في النهاية، أو تحولت إلى فقاعةٍ مالية أخرى كفقاعة التوليب. وكلما انكشف المزيد من الفضائح، تلطخت سمعة الصناعة وتطلعاتها بالكامل. ولن يكون هناك معنى لجاذبية الابتكار إذا كان المستثمرون يخشون تبخر أموالهم في الهواء. وتحتاج صناعة التشفير إلى العثور على استخدام سليم وبعيد عن المراوغة، حتى تنجح في النهوض من جديد.