منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظلت أوروبا تعتمد بشكل كبير على قوات البحرية الأمريكية وأساطيلها؛ لحماية القارة وشواطئها، حيث تنتشر العديد من القوات الأمريكية في نقاط بحرية عديدة حول القارة. لكن بعد نحو 70 عاماً، تريد أوروبا أن تكون لها قوة بحرية خاصة وقوية لحماية بلدانها ومصالحها البحرية، فهل تستطيع القارة بناء قوة بحرية ذات قدرات عالية؟
كيف تعتمد أوروبا على البحرية الأمريكية لحماية مصالحها؟
تعتبر بلدة روتا الاستراتيجية في إسبانيا، التي تضم قاعدة عسكرية إسبانية-أمريكية، وتحوي 4 مدمرات أمريكية، مثالاً واضحاً لكيفية اعتماد أوروبا الكبير على الجيش الأمريكي للحماية.
وتحظى روتا بموقع استراتيجي كبير، فهي تقع بين مضيق جبل طارق والحدود البرتغالية، ورأت إدارة الرئيس الأمريكي السابق أيزنهاور في تلك البلدة الإسبانية موقعاً ثميناً على المحيط الأطلسي المفتوح، بالقرب من المضيق الحرج، مع سهولة الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. وبعد 70 عاماً من إنشاء قاعدة عسكرية مترامية الأطراف فيها، ظلت روتا حجر الزاوية في التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وإسبانيا بشكل خاص، وأوروبا بشكل عام.
وتقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، إن البحرية الإسبانية كانت ذات يوم قوية ومنتشرة حول العالم، لكنها أصبحت الآن متواضعة في الحجم والقدرات بشكل كبير. ومثلها، تميل معظم القوات البحرية الأوروبية، إلى العمل بالقرب من الوطن وبعيداً عن إثارة الجدل والأزمات.
وحتى مع تصاعد الاحتكاكات البحرية في بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط وبحر الصين الجنوبي، تعتمد أوروبا على البحرية الأمريكية لحماية ممرات الشحن الدولية ومواجهة الخصوم مثل الصين وروسيا.
وتعتبر قاعدة روتا في إسبانيا جزءاً أساسياً من مظلة الأمن الأمريكية التي توفرها لأوروبا، حيث تمتلك المدمرات الأمريكية الأربع المتمركزة هناك، أنظمة صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية للمساعدة في حماية القارة من الضربات.
الاعتماد على الذات.. أوروبا تسعى لبناء قوة بحرية خاصة بها
لكن في الآونة الأخيرة، أصبحت هناك تحركات لنهج أوروبي مختلف فيما يتعلق بالقوة البحرية، وروتا نفسها هي النقطة المحورية لمبادرة بحرية أوروبية لا تعتمد على الولايات المتحدة. ولا يوجد في بروكسل قوة بحرية بعد، لكنها تدرك بشكل متزايد أن لديها مصالح بحرية مهمة ومشتركة، ولا بد للاتحاد الأوروبي من حمايتها.
وعقدت على الجانب الإسباني من القاعدة، عملية بحرية مشتركة تحت قيادة أوروبية مع أصول بحرية أوروبية. وبدأت عملية أتالانتا عام 2008 كواحدة من عدة مبادرات متعددة الأطراف لمكافحة القرصنة المتفشية قبالة سواحل الصومال. وكانت حماية السفن التي تحمل الإمدادات إلى الصومال لبرنامج الغذاء العالمي مهمة رئيسية منذ إنشائها، وتفتخر أتالانتا بسجل مثالي في هذا الصدد. إجمالاً، قامت سفن أتالانتا الحربية برعاية أكثر من 3 ملايين طن من المواد الغذائية والمساعدات للصومال، وشاركت في القبض على أكثر من 150 قرصاناً.
وبقيادة أميرال إسباني، تمتلك أتالانتا عادة سفينتين أو 3 سفن حربية، بالإضافة إلى طائرات دورية متمركزة في جيبوتي. عادة ما توفر فرنسا وإيطاليا وإسبانيا السفن الحربية للعملية، لكن الدول الأوروبية الأخرى تشارك بشكل متواضع في بعض الأحيان، كما تقول فورين بوليسي.
بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، تم نقل العملية، التي كان مقرها في الأصل في مدينة نورثوود بإنجلترا، إلى قاعدة روتا عام 2019، وأرسل معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي ضباطاً للعمل في قاعدة روتا بين حين وآخر، ويتألف الطاقم الحالي من ضباط ومدنيين من 16 دولة من دول الاتحاد الأوروبي. كما قدّم بعض الضباط من خارج الكتلة، بما في ذلك من كولومبيا وكوريا الجنوبية، يد المساعدة.
ما المهام التي تقوم بها عملية أتالانتا؟
في مركز العمليات، يراقب الضباط والمحللون تدفق السفن، ومعظمها تتحرك من وإلى قناة السويس والمحيط الهندي. كما يراقب مركز العمليات أيضاً موقع السفن الحربية الأخرى (بما في ذلك العديد من السفن الصينية المتمركزة بانتظام في المنطقة).
إذا كانت القرصنة هي المقياس، فيمكن لأتالانتا أن تدّعي أنها حققت نجاحاً باهراً. حيث انخفض عدد هجمات القراصنة في المنطقة بشكل كبير، من أكثر من 200 عام 2011 إلى عدد بسيط في السنوات الأخيرة. وأنهى حلف الناتو مهمته الخاصة لمكافحة القرصنة عام 2016، لكن أتالانتا تحمل وتولى مجموعة من المهام الإضافية.
ويروج الاتحاد الأوروبي الآن لنجاحاته، ليس فقط في قمع القرصنة، ولكن أيضاً في مكافحة تدفق المخدرات عبر أجزاء من المحيط الهندي. ففي أبريل/نيسان الماضي، اعترضت فرقاطة فرنسية تعمل تحت قيادة أتالانتا ما يقرب من 6 أطنان من الحشيش عبر غرب المحيط الهندي. اجتذب الصيد غير القانوني أيضاً انتباه العملية، ويساعد موظفوها منظمات الصيد الإقليمية على تحديد السفن الخارجة عن القانون.
كما شاركت سفن وضباط أتالانتا في الأشهر الأخيرة في الدبلوماسية البحرية، وأقاموا علاقات مع شركاء في جميع أنحاء المحيط الهندي، بما في ذلك الهند، وسيشيل، وإندونيسيا، ومدغشقر.
الاستراتيجية الأوروبية للأمن البحري
أتالانتا ليست العملية البحرية الأوروبية الوحيدة. ففي البحر الأبيض المتوسط، يدير الاتحاد الأوروبي برنامج توعية بحري مصمم لمنع وصول الأسلحة إلى ليبيا في انتهاك لقرارات الأمم المتحدة. كما افتتح الاتحاد الأوروبي العديد من مهام "التواجد البحري المنسق" لضمان وجود بعض السفن الأوروبية في مناطق الاهتمام المحددة. وأحد هذه المناطق هو خليج غينيا، وهو نقطة محورية للقرصنة في السنوات الأخيرة.
وكل هذه المبادرات هي جزء من جهد الاتحاد الأوروبي الأوسع لتطوير "سياسة أمنية ودفاعية مشتركة". وقد برزت الجوانب البحرية لذلك المشروع بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. في عام 2014، أنتجت بروكسل أول استراتيجية للأمن البحري، والتي أشارت إلى أن الاتحاد الأوروبي لديه "مصالح استراتيجية، عبر المجال البحري العالمي، في تحديد ومعالجة التحديات الأمنية المرتبطة بالبحر".
وفي العام الماضي، أصدر الاتحاد الأوروبي ورقة استراتيجية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وقام بتحديث استراتيجيته الخاصة بالقطب الشمالي، ومن المتوقع إصدار نسخة جديدة تماماً من استراتيجية الأمن البحري قريباً.
تمتلك دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27، ما يكفي من المال للعمليات العالمية المنتظمة، حيث تمتلك فرنسا وإيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا قوات بحرية جيدة وتقاليد بحرية "فخورة". ولدى فرنسا حاملة طائرات تعمل بالطاقة النووية، وقد كشفت مؤخراً عن خطط تطويرية لقواتها البحرية بالتكنولوجيا الفائقة.
كما تمتلك إيطاليا ناقلتين تقليديتين، وإسبانيا نفسها تمتلك سفينة خوان كارلوس الأول، وهي سفينة هجومية برمائية تم إطلاقها في عام 2010 ومقرها في روتا. في أماكن أخرى من أوروبا، تمتلك ألمانيا وهولندا والدنمارك قوات بحرية أصغر، لكنها لا تزال قادرة.
بالنظر إلى هذه القدرات الخام، يمكن لبعض القوى البحرية التقليدية في الاتحاد الأوروبي أن تتخيل فرق عمل أوروبية تعمل بانتظام في المحيط الهندي والقطب الشمالي وحتى في بحر الصين الجنوبي. تماماً كما تساعد أتالانتا في حراسة التجارة من وإلى المحيط الهندي، يمكن لبعض أساطيل الاتحاد الأوروبي المستقبلية أن تتولى مهام الأمن البحري في مناطق أخرى. وفرنسا، بما لديها من ممتلكات عديدة في المحيط الهادئ، تحاول أن تحرص على النشاط البحري الأوروبي في المياه البعيدة.
ما العقبات التي قد تقف أمام أوروبا لبناء قوة بحرية موحدة؟
لكن القدرات البحرية الأوروبية، في معظمها، ليست مصممة لتكمل بعضها البعض، كما تقول فورين بوليسي. وهناك العديد من حالات التكرار والفجوات الحرجة في القدرات. وعدد قليل نسبياً من القوات البحرية الأوروبية لديها سفن قادرة على العمل بعيداً عن الوطن لفترات طويلة مثل البحرية الأمريكية.
وعلى الرغم من كل طاقتها، تظل عملية أتالانتا نفسها مهمة متواضعة، وقد تصبح أكثر محدودية قريباً. وتراجعت ألمانيا عن العملية في وقت سابق من هذا العام، مشيرة إلى تراجع القرصنة قبالة سواحل الصومال.
ويشير هذا القرار إلى أن برلين فاترة بشأن استخدام أتالانتا كنقطة انطلاق لمشروع بحري أكثر طموحاً للاتحاد الأوروبي. ويعتقد بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي أن هناك أكثر من عمل كافٍ للقيام به في المياه الداخلية.
وأثار تخريب خط أنابيب نورد ستريم أسئلة مقلقة حول ما إذا كانت القدرات البحرية لأوروبا تتطابق حتى مع التهديدات المحلية التي قد تواجهها. وفقاً للمحلل كريستيان بويجر، "ليس لدى أوروبا سياسة معمول بها من شأنها توفير المراقبة والحماية لهذه البنية التحتية تحت الماء".
وتعمل بعض القوات البحرية الأوروبية بشكل فردي، حيث تجد سفن الحربية الفرنسية منتظمة في المحيط الهادئ، وعبرت إحدى غواصاتها النووية بحر الصين الجنوبي العام الماضي. وسعت باريس إلى تعزيز مكانتها في القطب الشمالي أيضاً. وانضمت فرقاطة هولندية إلى عدة سفن غربية أخرى تعمل بالقرب من بحر الصين الجنوبي.
وفي ديسمبر الماضي، أرسلت ألمانيا فرقاطة إلى المنطقة، وهي أول رحلة من هذا النوع منذ عدة عقود. ومع ذلك، في المستقبل المنظور، ستكون مثل هذه المهمات عرضية وتحت الأعلام الوطنية بدلاً من راية الاتحاد الأوروبي. وأدركت أوروبا أن سلامتها وازدهارها في المستقبل يعتمدان في جزء كبير منه على المحيطات، لكنها لا تزال بعيدة كل البعد عن كونها قوة بحرية.