تُسميه روسيا "إعادة انتشار"، ويُسميه الغرب "انسحاباً" من خيرسون، فما الذي يحدث في المدينة الأوكرانية الوحيدة التي سيطرت عليها موسكو بالكامل منذ بداية الحرب؟ وما دلالات تلك الخطوة عسكرياً وسياسياً أيضاً؟
تقع خيرسون في جنوبي أوكرانيا، وهي واحدة من 4 مدن أعلنت روسيا ضمها رسمياً، بعد استفتاءات أجريت في تلك المدن، وجاءت نتيجتها لصالح الانضمام إلى الاتحاد الروسي بأغلبية ساحقة، كما تعتبر خيرسون هي المدينة الوحيدة بين تلك المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية بشكل كامل. فالمناطق الثلاث الأخرى لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا لا تسيطر عليها روسيا بشكل كامل، وتشهد جميعها معارك دامية.
وتركز أوكرانيا هجومها المضاد حالياً على خيرسون، وهي الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية، من بين المناطق الأخرى التي تسيطر عليها القوات الروسية؛ إذ تشرف مدينة خيرسون على الطريق البري الوحيد المؤدي إلى شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014، ومصب نهر دنيبرو الذي يقسم أوكرانيا.
ماذا قالت روسيا عن جبهة خيرسون؟
أعلنت وزارة الدفاع الروسية الخميس، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، أنها أمرت قواتها بـ"إعادة الانتشار" في منطقة بالقرب من مدينة خيرسون، وبحسب وسائل الإعلام الروسية، سبق لقائد "العملية العسكرية" في أوكرانيا، سيرغي سوروفكين، أن قدم تقريراً لوزير الدفاع سيرغي شويغو، بشأن حتمية "إعادة الانتشار".
"أقترح شغل مواقع دفاعية على طول الضفة اليسرى لنهر دنيبرو. أدرك أن هذا قرار صعب للغاية، لكننا سنحافظ بذلك على أرواح جنودنا، وهذا أهم شيء. الفاعلية القتالية لتجمع القوات على الضفة اليمنى في منطقة محدودة، ولا جدوى من البقاء هناك. كما سنستفيد من القوات التي سنعيد انتشارها في العمليات الهجومية على محاور أخرى في منطقة العمليات"، بحسب وكالة نوفوستي الروسية للأنباء.
منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول، بدأت القوات الأوكرانية اقتحام خطوط المواجهة في منطقة خيرسون، في أكبر تقدم لها في الجنوب منذ بداية الحرب، بهدف قطع الإمدادات وطرق الهروب عبر النهر عن القوات الروسية.
وأعلنت أوكرانيا، الجمعة 14 أكتوبر/تشرين الأول، أن قواتها المسلحة استعادت السيطرة على 600 تجمع سكني في الشهر المنصرم، بينها 75 في خيرسون و43 في دونيتسك في الشرق، حيث تقع أوبتين وإيفانجراد. وذكرت وزارة إعادة دمج الأراضي المحتلة مؤقتاً عبر موقعها الإلكتروني "لقد زادت مساحة الأراضي الأوكرانية المحررة بشكل كبير".
وأفادت تقارير بأن القوات الروسية في خيرسون، في الجزء الواقع غرب نهر دنيبرو، بدأت بالفعل ترك مواقعها وعبور النهر تجاه الشرق. وكان سوروفكين قد حذر من أن القوات الأوكرانية تحاول تدمير سد محطة كاخوفسكايا الكهرومائية على نهر دنيبرو في خيرسون، فطلب من وزير الدفاع السماح نقل القوات إلى ضفة النهر اليسرى.
"إقدام قوات كييف على تدمير السد قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. وهذا ما تؤكده الهجمات الصاروخية المستمرة على السد وبوابات تصريفه، منذ 26 سبتمبر/أيلول، حيث أتى القصف على إحدى قنوات التصريف، وأدى إلى تدمير فتحاتها"، مضيفاً أن التصريف المكثف الذي تنفذه كييف، منذ 10 أكتوبر/تشرين الأول، للمياه من سد محطتي كييفسكايا وكاخوفسكايا الكهرومائيتين، سبب يدعو للقلق إزاء حدوث فيضانات في نهر دنبيرو، بحسب نوفوستي.
وعلى مدى الأسابيع الماضية، تتبادلت روسيا وأوكرانيا الاتهامات بشأن سد كاخوفوسكايا، وهو سد رئيسي يُستخدم في توليد الكهرباء، وتسيطر عليه روسيا، حيث ناشد زيلينسكي الغرب، الجمعة 21 أكتوبر/تشرين الأول، تحذير موسكو من مغبة تفجير السد، بينما تتهم روسيا كييف بقصف السد بالصواريخ والتخطيط لتدميره، دون أن يقدم أي من الجانبين أدلة تدعم اتهامه.
ماذا يقول الغرب وأوكرانيا عن الخطوة الروسية؟
جاء رد أوكرانيا على الإعلان الروسي بشأن خيرسون حذِراً، إذ أشار المسؤولون في كييف إلى بقاء بعض القوات الروسية في خيرسون وإرسال تعزيزات إلى المنطقة، بحسب رويترز.
وقال أوليكسي أريستوفيتش، مستشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مقطع فيديو نُشر على الإنترنت مساء الأربعاء "إنهم ينسحبون، ولكن ليس بالقدر الذي يمكن أن يحدث إذا كان انسحاباً كاملاً أو إعادة تنظيم"، مضيفاً أن القوات الروسية تدمر الجسور وتزرع ألغاماً في الطرق خلال مغادرتها.
"في الوقت الحالي لا نعرف نواياهم… هل سيخوضون قتالاً معنا ويحاولون التمسك بمدينة خيرسون؟ إنهم يتحركون ببطء شديد"، بحسب أريستوفيتش.
المحلل العسكري الأوكراني يوري بوتوسوف، من جانبه، قال إن استخدام الجيش الأوكراني أنظمة هيمارس الصاروخية التي قدمتها الولايات المتحدة جعل عبور نهر دنيبرو خطيراً، لدرجة أن "الدفاع عن المواقع الروسية هنا أصبح مستحيلاً".
لكن بوتوسوف أضاف في مقطع فيديو على موقع يوتيوب "لنكن واضحين، ستتخذ القوات الروسية مواقع دفاعية، وسيكون بوسعها شن هجمات جديدة. ستكون قادرة على الحفاظ على مواقعها على الضفة الشرقية لبعض الوقت".
أما زيلينسكي نفسه، فقد ذكر خيرسون مرة واحدة، في كلمته اليومية، مساء الأربعاء، وقال إن القوات الأوكرانية تعزز مواقعها "خطوة بخطوة" في الجنوب، وحذر من أن "العدو لن يقدم لنا أي هدايا". وهو رد فعل مختلف تماماً عن طبيعة تصريحات الرئيس الأوكراني المتسمة بالحماسة والمبالغة الشديدة في تقدير قوة جيشه والاستهانة بقوة الجيش الروسي.
الرئيس الأمريكي جو بايدن، الداعم الأكبر لأوكرانيا، علق على الأمر الذي أصدرته موسكو بالانسحاب من خيرسون، قائلاً إنه يظهر أن هناك "بعض المشاكل الحقيقية التي تواجه الجيش الروسي".
أما البيان الدوري الذي يصدره الجيش الأوكراني، فلم يشر بشكل مباشر إلى منطقة خيرسون أو عاصمتها، لكنه قال إن القوات الروسية قصفت أكثر من 25 بلدة وقرية على الجبهة الجنوبية.
المشرع الأوكراني ديفيد أراخاميا، الذي قاد وفد كييف لمحادثات سلام أجريت في بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا، والذي تصفه موسكو بأنه "عملية عسكرية" بينما يصفه الغرب بأنه "غزو"، قال إن هناك عملية عسكرية جارية في منطقة خيرسون. ووصف وضع الروس بأنه حرج، وقال "عاجلاً أو آجلاً سيغادرون خيرسون ودونيتسك ولوغانسك وسيفاستوبول (في القرم) أو سيتم تدميرهم".
ماذا وراء التراجع الروسي في خيرسون؟
بطبيعة الحال من الصعب معرفة ما يدور في ساحة المعركة بدقة، حيث يعلن كل طرف روايته للأحداث بطريقة مختلفة تماماً؛ بل ومناقضة لما يقوله الطرف الآخر، ولا يوجد طرف مستقل يمكنه تأكيد أو نفي ما يقوله أي من الطرفين. وهذه إحدى أبرز سمات تلك الحرب منذ اندلاعها وحتى الآن.
لكن هناك حقائق تبدو واضحة في حد ذاتها، أولها أن القوات الأوكرانية، المدعومة بشدة من حلف الناتو بزعامة واشنطن، لا تزال تواصل التقدم في الجبهة الجنوبية، حيث توجد منطقة خيرسون، والدليل على ذلك هو الانسحاب الروسي من المنطقة الغربية لنهر دنيبرو بالكامل، والتي جرى التمهيد لها قبل أسابيع بإجلاء المدنيين من المدينة.
كما أن المسؤولين الأمريكيين والأوكرانيين قد أعلنوا، منذ بداية سبتمبر/أيلول الماضي، في بدايات الهجوم الأوكراني المضاد، أن "تحرير" خيرسون من القوات الروسية يمثل هدفاً استراتيجياً "يأملون في إنجازه قبل نهاية العام"، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
لكن يظل السؤال قائماً بشأن ما تعنيه خطوة سحب القوات الروسية من غرب النهر وإعادة تمركزها في الشرق، فتلك الخطوة لا تعني بالضرورة أن أوكرانيا "استعادت السيطرة" على خيرسون.
فالأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، اعتبر أن أنباء انسحاب القوات الروسية من خيرسون جيدة، لكنه حذّر في الوقت نفسه من أن "روسيا لا تزال قادرة على إحداث الكثير من الضرر".
كما أن نقل التلفزيون الروسي للحوار بين شويغو وسوروفيكين، والذي تم خلاله الإعلان عن تلك الخطوة هو بالتأكيد أمر غير طبيعي بالنسبة للخطط العسكرية. سوروفيكين قال لشويغو إنه لم يعد من الممكن توصيل الإمدادات إلى مدينة خيرسون، مضيفاً أنه يقترح إقامة خطوط دفاعية على الضفة الشرقية للنهر.
وجاء رد وزير الدفاع: "أتفق مع استنتاجاتك ومقترحاتك. بالنسبة لنا فإن حياة وصحة الجنود الروس هي دائماً أولوية، ويجب علينا أيضاً أن نأخذ في الاعتبار التهديدات التي يتعرض لها السكان المدنيون. واصل سحب القوات واتخذ جميع الإجراءات لضمان النقل الآمن للأفراد والأسلحة والمعدات عبر نهر دنيبرو".
نقطة أخرى لافتة في هذا السياق تتعلق بموقف رئيس جمهورية الشيشان الروسية، رمضان قديروف، من هذا القرار، إذ أعلن تأييده، وكتب على تليغرام: "الجنرال سوروفيكين اتخذ قراراً صعباً، لكنه صائب لتفادي تضحيات لا جدوى منها، ولإنقاذ حياة الجنود التي لا تقدر بثمن".
"خيرسون منطقة صعبة للغاية بدون إمداد منتظم ومستقر للذخيرة وصفوف خلفية قوية… في هذا الوضع الصعب تصرف سوروفيكين بحكمة، كما أجلى المدنيين وأمر بإعادة تجميع صفوف القوات"، أضاف قديروف، مؤكداً أن "سوروفيكين يحمي الجنود ويأخذ موقعاً استراتيجياً أكثر فائدة للقوات وأكثر أمناً".
قديروف معروف بانتقاداته الشديدة لجنرالات الحرب في روسيا وخططهم، وهو أحد أبرز داعمي الرئيس فلاديمير بوتين، ويعبر دائماً عن رأيه بضرورة استخدام موسكو قوتها النيرانية بالكامل "لسحق" أوكرانيا، وبالتالي فإن تأييده لقرار "الانسحاب أو إعادة الانتشار" مختلف عن آرائه المعتادة.
ماذا يعني ذلك بالنسبة لمسار الحرب؟
لا شك أن هذه الخطوة تمثل تراجعاً كبيراً من جانب روسيا، فالمنطقة التي قرروا الانسحاب منها أصبحت، طبقاً للكرملين، أرضاً تابعة للاتحاد الروسي منذ إعلان ضمها عقب الاستفتاءات، وهي المناطق التي كان بوتين قد هدد باستخدام الأسلحة النووية للدفاع عنها، فماذا تغير وجعل هذا الانسحاب ممكناً؛ بل ويتم الإعلان عنه عبر التلفزيون الرسمي؟
رغم أن الإجابة الحاسمة على هذا السؤال قد لا تكون متوفرة، فإن مؤشرات كثيرة شهدتها الأيام الماضية تصب في الاتجاه نفسه، وهو وجود تحركات دبلوماسية خلف الأبواب المغلقة هدفها وقف الحرب.
كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قد فتحت قنوات اتصال مباشر مع روسيا مؤخراً، وضغطت على زيلينسكي للانفتاح على التفاوض مع موسكو، فأسقط زيلينسكي شرطه برحيل بوتين قبل أي مفاوضات.
ووصل جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، إلى كييف، الثلاثاء، والتقى زيلينسكي، بعد تقارير إعلامية أمريكية قالت إن سوليفان أجرى اتصالات مع مسؤولين في مجلس الأمن القومي الروسي قبل توجهه إلى أوكرانيا.
ومساء الأربعاء، تحدث رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، عن خسائر الجيش الروسي البشرية في أوكرانيا، مقدّراً إياها بأكثر من 100 ألف جندي سقطوا بين قتيل وجريح، ومشيراً إلى أن القوات المسلحة الأوكرانية عانت "على الأرجح" من مستوى مماثل من الخسائر في الحرب.
وقال ميلي لمنظمة نادي نيويورك الاقتصادي، يوم الأربعاء "إنكم تنظرون إلى أكثر من 100 ألف جندي روسي قتلوا وجرحوا، ونفس الشيء على الأرجح في الجانب الأوكراني، هناك الكثير من المعاناة الإنسانية".
تصريحات ميلي تقدم أعلى تقدير أمريكي لعدد الضحايا حتى الآن في الصراع المستمر منذ حوالي تسعة أشهر، وتأتي في الوقت الذي تواجه فيه أوكرانيا وروسيا هدوءاً محتملاً في القتال خلال الشتاء، يقول الخبراء إنه قد يتيح فرصة للجلوس إلى طاولة المفاوضات.
ولدى سؤال ميلي عن آفاق الدبلوماسية في أوكرانيا، أشار إلى أن الرفض المبكر للتفاوض في الحرب العالمية الأولى فاقم المعاناة الإنسانية، وأدى إلى سقوط ملايين الضحايا، مضيفاً: "لذلك عندما تكون هناك فرصة للتفاوض، وعندما يكون تحقيق السلام ممكناً يجب اغتنام الفرصة".
الخلاصة هنا هي أن الانسحاب الروسي من منطقة خيرسون الغربية، أي غرب نهر دنيبرو، والتمركز في الشرق، قد يكون على الأرجح فصلاً للقوات في المنطقة، تمهيداً للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، على غرار ما حدث في إقليم دونباس خلال الأزمة الأوكرانية عام 2014، تمهيداً للتوصل إلى اتفاقيات مينسك وقتها، فهل اقتربت الحرب من نهايتها؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بتأكيد هذا السيناريو أو نفيه.