يبدو أن الأطراف الرئيسية قد اقتنعت أخيراً أن الحرب في أوكرانيا يجب أن تتوقف، فمن الانتخابات في أمريكا إلى قرب دخول الشتاء، يكثف الغرب ضغوطه على زيلينسكي ليتفاوض مع روسيا، رغم الإنكار الأوكراني المعلن.
كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قد فتحت بالفعل قنوات تواصل مباشرة مع روسيا خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على الرغم من أن العالم كان يعيش على أطراف أصابعه حرفياً قبل ذلك بأسابيع، في ظل وصول الحرب إلى مرحلة تهدد بتخطيها حدود أوكرانيا، وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة، أو كما وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه بأنها حرب نهاية العالم، رغم محاولته التخفيف من الفزع، بقوله لاحقاً إن "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عاقل".
صحيح أن التواصل المباشر بين واشنطن وموسكو كان قد تزامن مع تصاعد الحديث عن قرب تفجير قنبلة قذرة في أوكرانيا، إلا أن التقارير الإعلامية الأمريكية خلال الأيام القليلة الماضية بدأت ترسم صورة أكثر إيجابية بشأن احتمال أن تضع الحرب المدمرة أوزارها أخيراً.
لماذا تسعى إدارة بايدن لإنهاء الحرب في أوكرانيا؟
كانت صحيفة واشنطن بوست قد نشرت تقريراً نقلت فيه عن مصادر داخل إدارة بايدن قولها إن الولايات المتحدة تشجع كييف على إبداء الاستعداد لإجراء محادثات مع روسيا. وأوضحت المصادر أن "تشجيع الولايات المتحدة لأوكرانيا سراً على أن تبدي في العلن انفتاحاً على التفاوض مع موسكو لا يهدف إلى دفع كييف دفعاً إلى مائدة التفاوض، وإنما لضمان عدم فقدان حماسة داعميها الغربيين".
وركز تقرير واشنطن بوست، بحسب المصادر من داخل البيت الأبيض، على أن "إدارة بايدن طالبت حكومة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بالتخلي عن شرطها الرافض للتفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحديداً".
كان زيلينسكي قد وقع الشهر الماضي مرسوماً جمهورياً يحظر التفاوض مع الكرملين طالما ظل بوتين في السلطة، رداً على القرار الروسي بضم 4 مناطق أوكرانية، هي لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون، إلى أراضي الاتحاد الروسي، في أعقاب "استفتاءات" أجرتها روسيا في تلك المناطق في سبتمبر/أيلول الماضي، رغم الرفض الغربي والأممي لتلك الخطوة.
حديث إدارة بايدن خلف الكواليس مع زيلينسكي، كان قد سبقته بالفعل اتصالات مباشرة بين المسؤولين في واشنطن وموسكو، كانت الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب في فبراير/شباط الماضي؛ إذ أجرى وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، اتصالين بنظيره الروسي، سيرغي شويغو، خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر/تشرين الأول، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، كما تلقى الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة في البنتاغون اتصالاً من رئيس الأركان الروسي، فاليري غيراسيموف.
وناقش ميلي وغيراسيموف "عدداً من القضايا الأمنية، واتفقا على مواصلة خط الاتصال المباشر بينهما. وفي إطار الممارسات الماضية، سيتم الحفاظ على سرية تفاصيل تلك الاتصالات"، بحسب بيان أصدره المتحدث باسم هيئة الأركان الأمريكية.
وتمثل هذه التطورات تحولاً لافتاً في موقف إدارة بايدن تجاه روسيا، يرجعه أغلب المحللين والمراقبين إلى الظروف الداخلية الصعبة التي يواجهها الرئيس الأمريكي من جهة، وإلى تداعيات الحرب نفسها على الحلفاء في أوروبا بشكل خاص. فداخلياً، مثلت انتخابات التجديد النصفي -التي أجريت الثلاثاء 8 نوفمبر/تشرين الثاني- جرس إنذار بالنسبة لبايدن والديمقراطيين، خشية فقدان الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ لصالح الحزب الجمهوري.
وفي هذا السياق، كانت مجموعة من أعضاء التيار التقدمي الديمقراطي قد وجهوا خطاباً مفتوحاً للبيت الأبيض يطالبون فيه الرئيس بالتفاوض مع موسكو لإنهاء الحرب أو وقف نزيف المليارات المقدمة لدعم كييف في وقت يواجه فيه الأمريكيون ظروفاً اقتصادية صعبة.
وعلى الرغم من تراجع المشرعين عن خطابهم، الذي جاء قبل أيام قليلة من الانتخابات، إلا أن المؤكد هو أن الدعم الأمريكي لأوكرانيا سيواجه تحديات قد تمنع تدفقه بتلك الغزارة، في حالة فوز الجمهوريين بأغلبية غرفتي الكونغرس أو حتى واحدة فقط منهما.
والإثنين 7 نوفمبر/تشرين الثاني، أكد مصدر أمريكي أن مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان أجرى محادثات مع مسؤولين روس لتجنب تصعيد الصراع، حسبما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال لأول مرة. وامتنع الكرملين عن التعليق. ولم ينف البيت الأبيض المحادثات لكنه قال إنه لن يتخذ خطوات دبلوماسية بشأن أوكرانيا بدون مشاركة كييف.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير: "نحتفظ بالحق في التحدث مباشرة على مستوى كبار المسؤولين حول القضايا التي تهم الولايات المتحدة. وحدث ذلك على مدار الأشهر القليلة الماضية. ركزت محادثاتنا فقط على… الحد من المخاطر والعلاقات الأمريكية الروسية".
ماذا عن موقف أوكرانيا من "الضغوط" الأمريكية؟
أوكرانيا، من جانبها، نفت تعرضها لضغوط غربية للدخول في مفاوضات مع روسيا، وجددت تمسكها بعدم إجراء أي محادثات إلا إذا انسحبت روسيا من كافة الأراضي التي تحتلها.
وقبل كلمة من المقرر أن يلقيها افتراضياً أمام زعماء العالم المشاركين في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب27)، كرَّر زيلينسكي ما وصفه بشروط أوكرانيا "المقدرة تماماً" لإجراء محادثات السلام.
وأضاف الرئيس، الذي يصفه الكرملين بأنه "دمية" بين أيدي الغرب: "مرة أخرى؛ استعادة وحدة الأراضي، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، والتعويض عن كافة الأضرار التي تسببت فيها الحرب، ومعاقبة جميع مجرمي الحرب، وضمان عدم تكرار ما يحدث"، مشيراً إلى أن أوكرانيا اقترحت مراراً إجراء مثل هذه المحادثات، ولكن "كنا نتلقى دوماً ردود فعل روسية غير عقلانية بهجمات إرهابية أو قصف أو ابتزاز جديد".
وكرر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، أمس الإثنين، موقف موسكو باستعدادها لإجراء محادثات لكن كييف هي من ترفضها. وسبق أن ذكرت موسكو مراراً أنها لن تتفاوض بشأن أراضٍ تقول إنها ضمتها من أوكرانيا.
أما ميخايلو بودولياك، وهو أحد أبرز مستشاري زيلينسكي، فقد قال إنه من السخف الحديث عن أن الدول الغربية تدفع كييف للتفاوض بشروط موسكو بينما تقوم بتزويد أوكرانيا بالسلاح لطرد القوات الروسية من أراضيها، بحسب رويترز.
وأوضح بودولياك، في مقابلة مع راديو ليبرتي، أن "أوكرانيا تتلقى أسلحة فعالة للغاية من شركائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة… إننا نعمل على طرد الجيش الروسي من أراضينا. ومن هذا المنطلق، فإن إجبارنا على عملية التفاوض، وفي الواقع الرضوخ لإنذارات روسيا الاتحادية، هو هراء! ولن يقدِم عليه أحد".
وأضاف "لا إكراه" في علاقة أوكرانيا بواشنطن، معتبراً التلميحات بأن الغرب يضغط على أوكرانيا للتفاوض جزءاً من "البرنامج الإعلامي" الروسي، لكنه لم يشير بشكل مباشر لتقرير صحيفة واشنطن بوست.
لكن تقريراً أمريكياً، نشر الثلاثاء في مجلة Politico يناقض هذا النفي الأوكراني شكلاً ومضموناً؛ حيث أشارت المجلة إلى أن هناك تغييراً واضحاً في الموقف الأوكراني من قضية التفاوض مع روسيا، مضيفة أن هذا التغيير "يرتبط بشكل مباشر بتنبيه لتعليمات من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن".
والتغيير الذي تشير إليه بوليتيكو يتعلق بالشروط التي أعلنها زيلينسكي نفسه الإثنين بشأن التفاوض مع موسكو، والتي تظهر تخليه عن مجموعة من الشروط التي كان قد وضعها لبدء الحوار مع روسيا لوقف الحرب، في مقدمتها شرط عدم التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ونقلت المجلة الأمريكية، عن مصادر مطلعة، أن زيلينسكي طرح خمسة شروط لبدء المفاوضات مع روسيا، لم يرد بينها ذكر استحالة المفاوضات مع الرئيس بوتين أو رحيله عن السلطة لبدء التفاوض.
ماذا عن موقف روسيا من المفاوضات؟
حقيقة الأمر هي أن روسيا تعلن منذ البداية استعدادها للتفاوض مع أوكرانيا بشأن إنهاء الحرب، وهذا الموقف لم يتغير كثيراً. وكرر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف موقف موسكو باستعدادها لإجراء محادثات، لكن كييف هي من ترفضها.
وقال نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو، الثلاثاء، إنه "ليس هناك شروط مسبقة من طرفنا، باستثناء الشرط الأساسي، هو أن تظهر أوكرانيا حسن النية". تصريح المسؤول الروسي جاء تعليقاً على وضع زيلينسكي: "احترام ميثاق الأمم المتحدة والتعويض عن الخسائر" كشرطين للتفاوض مع روسيا.
وتابع أن "أوكرانيا مررت قانوناً يمنع إجراء محادثات مع روسيا. هذا خيارهم، لكننا دائماً أعلنا عن استعدادنا لمثل هذه المفاوضات"، لافتاً إلى أن أوكرانيا هي من أوقفت المحادثات.
وفي هذا السياق، كانت تقارير غربية قد كشفت مؤخراً أن روسيا وأوكرانيا كانتا قد توصلتا بالفعل إلى اتفاق سلام ينهي الحرب، خلال المفاوضات التي أجريت بينهما في تركيا خلال أبريل/نيسان الماضي، لكن زيلينسكي تراجع عن الاتفاق بعد ضغوط غربية، من لندن وواشنطن تحديداً، فاستمرت الحرب، وزاد تدفق المساعدات العسكرية بشكل لافت منذ ذلك الوقت.
على أية حال، يبدو أن جميع الأطراف قد اقتنعوا أخيراً بأن الحرب لابد أن تتوقف في أسرع وقت ممكن، خصوصاً أن فصل الشتاء المرعب بالنسبة لأوروبا تحديداً قد أصبح على الأبواب، في ظل أزمة الغاز الروسي، التي يبدو أن الأوروبيين لم يجدوا له بديلاً بشكل كامل، وهو ما ينذر بتفاقم المشاكل الصعبة للغاية حالياً.
أما عن شكل التسوية التي يمكن أن تتوصل إليها الأطراف والتنازلات التي ستكون روسيا والولايات المتحدة، وهما الطرفان الرئيسيان في تلك المواجهة الجيوسياسية، على استعداد لتقديمها ستكون لها الكلمة العليا في أي اتفاق قد يتم التوصل إليه.