بعد صدمة النفط التي حدثت خلال حرب 1973 بسبب حظر تصدير النفط العربي للدول المؤيدة لإسرائيل، تعهدت أوروبا بالتخلص من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، ولكنها الآن باتت مرتهنة للطاقة الروسية، فهل تشكل الأزمة الأوكرانية دافعاً لأوروبا للتوسع في الطاقات الجديدة أم تواصل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتدخل في تنافس داخلي على مصادر الطاقة التقليدية.
فأزمة الطاقة الطاحنة الحالية التي تعاني منها أوروبا جراء الهجوم الروسي على أوكرانيا، سبق أن عايشت القارة مثلها قبل نحو نصف قرن، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
فلقد واجهت "المجموعة الاقتصادية الأوروبية" -سلف الاتحاد الأوروبي- أولى أزمات الطاقة إبان حرب العرب ضد إسرائيل عام 1973. إذ ضاعفت منظمة أوبك أسعار النفط الخام بمقدار أربعة أضعاف آنذاك. بينما فرضت منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول (أوابك) حظراً كاملاً على تدفق النفط إلى الولايات المتحدة، وهولندا، والدول الأخرى التي أخذت موقفاً شديد التأييد لإسرائيل في الصراع.
وظن الكثيرون أن هذه الخطوات ستقضي على ازدهار الغرب الأوروبي، الذي اعتمد في الـ25 عاماً السابقة على وصوله إلى الهيدروكربونات الرخيصة للغاية، حيث كان النفط يُشكّل نحو 60% من مزيج الطاقة الأوروبي آنذاك.
لماذا لم تتخلص أوروبا من الوقود الأحفوري بعد صدمة النفط؟
وأتاحت صدمة النفط عام 1973 فرصةً للإصلاح، كما هو الحال اليوم. وتطلّبت مواجهة هذه التحديات واسعة النطاق عملاً جماعياً، وبدت أنها تبشر بأوروبا أكثر اتحاداً. لكن أوروبا فوّتت فرصتها لبناء اقتصادٍ أخضر وأكثر مرونة. وسرعان ما طغت المصالح القومية على العملية، وتسببت في تسييس أسعار النفط والحيلولة دون تحقيق الاندماج البنّاء بين دول المجموعات الأوروبية في قضايا الطاقة.
وتقول المجلة الأمريكية إنه يمكن لأوروبا الخروج بدرسٍ مستفاد من صدمة النفط 1973، ألا وهو أن الضرورة الحتمية المزدوجة لزيادة اخضرار الاقتصاد وضمان أمن الطاقة لن تكون كافيةً للتغلب على جاذبية الوقود الأحفوري الرخيص، خاصةً في غياب الاستراتيجية الإقليمية المتماسكة.
وإذا أراد زعماء أوروبا اليوم تجنّب هذا المأزق، فعليهم الاستفادة من الاضطرابات التي أحدثها الهجوم الروسي في كسر قيود الوقود الأحفوري معاً.
إذ شعر ساسة أوروبا عام 1973 بالخوف من أن يكونوا شاهدين على نهاية عصر الطاقة الرخيصة. وكما هو الحال اليوم، حاول أولئك الزعماء إدارة الأزمة من خلال التكامل الأوروبي في البداية. وظن الكثيرون أن السبيل الوحيد لتجنّب سياسات الطاقة الوطنية -القائمة على إفقار الجار- سيأتي عبر العمل من خلال مؤسسات تعاونية لإدارة تدفق النفط. وكانت المفوضية الأوروبية في بروكسل تدعو لوضع سياسة نفط مشتركة منذ عام 1967، ثم جاءت صدمة عام 1973 لتشهد قيام المجموعات الأوروبية بتجربة كل الحلول المتاحة أمامها. إذ جربوا جمع احتياطيات النفط، وتنسيق ضرائب الطاقة، ورعاية التنقيب المشترك عن النفط، وتنسيق أسعار الطاقة.
في عام 1974، بدأت بعض الدول الأوروبية مغازلة العرب
لكن تلك الخطط بدأت تنهار بحلول مطلع عام 1974، واختارت الدول الأعضاء أن تتبع سياساتها الخاصة لضمان أكبر قدر ممكن من النفط والنمو. وعندما دعت هولندا الدول الأعضاء في المجموعات الأوروبية لإعلان تضامنهم معها، اعترضت بقية الدول الأعضاء في التكتل خشية أن تتعرض لانتقام الدول المنتجة للنفط. وأبرمت بريطانيا وفرنسا اتفاقيات نفطٍ ثنائية مع السعودية، بينما حاولت ألمانيا الغربية فعل الأمر نفسه مع إيران. فيما قيّدت بريطانيا وبلجيكا تصدير منتجات النفط المكرر إلى الدول المجاورة. كما لجأت غالبية الدول الأوروبية التي تمتلك شركات نفطية دولية كبرى على أراضيها إلى مطالبة تلك الشركات بتفضيل السوق المحلية.
وظلت سياسة الطاقة الأوروبية شأناً وطنياً في المقام الأول بعد عام 1973. إذ اعتمدت ألمانيا الغربية أكثر من جيرانها على سوق النفط قصيرة الأجل في روتردام مثلاً، حيث تبيع شركات النفط الكبرى فائضها لتجار الجملة بأسعار شديدة التقلب. بينما اعتمد جيران ألمانيا على شراء المواد البترولية من خلال إبرام العقود طويلة الأجل مع تكتلات النفط الدولية.
ألمانيا رفضت سيطرة الحكومات على أسعار النفط مثلما تفعل اليوم مع الغاز
وفي عام 1973، دعا الكثير من ساسة اليسار إلى فرض سيطرة الدولة الكاملة على أسعار النفط، من أجل مواجهة الأزمة. لكن الائتلاف الوسطي الحاكم لألمانيا آنذاك اختار الإبقاء على سوق الطاقة الحر في البلاد، إيماناً منه بأن الأسعار المرتفعة التي تدفعها شركات الطاقة الألمانية في روتردام ستجذب النفط إلى بلادهم. واشتكت فرنسا من السياسة الألمانية التي رفعت الأسعار في سوق روتردام لدرجةٍ أخرجت الشركات الفرنسية من المنافسة، لكن قادة ألمانيا زعموا أنهم لا يمتلكون أي خيارات أخرى. ونشهد حالةً مشابهة تتكشف أمامنا مع الغاز الطبيعي اليوم. إذ تقاوم برلين الدعوات لفرض سقف على أسعار الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي حالياً، مخافة أن يؤدي ذلك لإخراج أوروبا من السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال.
قادة أوروبا أصروا على الابتعاد عن النفط العربي
ورأى العديد من قادة أوروبا آنذاك -واليوم- أن الدول يجب أن تدفع ثمناً مقابل مصادر الطاقة الخالية من التعقيدات الأجنبية. حيث كان نفط الشرق الأوسط متفوقاً من حيث انخفاض التكلفة على كافة مصادر الوقود البديل الأخرى، بما في ذلك النفط المحلي والفحم، بين عامي 1958 و1973. وشكل الشرق الأوسط نحو 75% من إجمالي الواردات البترولية لدول المجموعات الأوروبية بحلول عام 1973.
لكن هنري سيمونيت، نائب رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، أوضح أن الاعتماد الأوروبي المكثف على منطقةٍ واحدة لاستيراد الطاقة ينطوي على أخطار مهولة "تكمن في تضارب المصالح، والمزايدات، وحتى ما وصفه بالابتزاز". وتتجلى اليوم بعض المخاوف المشابهة التي دفعت بدول الاتحاد الأوروبي إلى تقديم دعمٍ حكومي غير مسبوق لمستهلكي الطاقة، بالتزامن مع كفاح أوروبا للتخلي عن الغاز الروسي.
وانقسم السعي وراء أمن الطاقة إلى شقين بعد عام 1973. إذ اعتمد على توفير استهلاك الطاقة، وتأمين مصادر الطاقة الجديدة. وجادل علماء البيئة والتكنوقراطيون التقدميون بأن توفير الطاقة من خلال تقليل الاستهلاك، أو العثور على آليات جديدة لتقديم الخدمات نفسها، سيمثل أفضل مصدر طاقة جديد لأوروبا. وأصبح سعر الطاقة مسيساً بدرجةٍ كبيرة نتيجة هذه العملية. وبينما أراد العديد من الساسة وقف ارتفاع أسعار الطاقة تفادياً لردود الأفعال العكسية في الانتخابات، رحّب العديد من الخبراء النافذين بارتفاع الأسعار باعتباره محفزاً لترشيد الطاقة.
ولعب ارتفاع أسعار الطاقة دوراً جزئياً في توقف أو انهيار استهلاك الطاقة داخل دول أوروبا خلال السبعينيات. وبدا أنه بالإمكان بناء منظومة طاقة أكثر كفاءة تعتمد على التوليد المشترك للطاقة الحرارية، والتدفئة المناطقية، والوسائل الأفضل لتدفئة المنازل والمكاتب. ونشهد توجهاً مشابهاً اليوم أيضاً بالتزامن مع خفض الأوروبيين درجات التدفئة، واستثمارهم في المضخات الحرارية، وضخهم الأموال على الطاقة المتجددة من أجل أمن الطاقة.
غير أن أسعار الطاقة كشفت خطوط الصدع داخل الاتحاد الأوروبي اليوم، تماماً كما فعلت عام 1973. حيث يحذّر المراقبون من اندلاع الاضطرابات المدنية في حال استمر ارتفاع تكاليف الكهرباء والتدفئة، بينما يتساءل قادة دول أوروبا الجنوبية حول كيفية توزيع أعباء الأزمة داخل القارة.
وألمانيا توجهت للاعتماد على الاتحاد السوفييتي
وأدّت أهمية أمن الطاقة إلى الاستثمار في مصادر الوقود الأحفوري الجديدة اليوم، كما حدث عام 1973. إذ وسّعت ألمانيا الغربية آنذاك روابط بنيتها التحتية مع الاتحاد السوفييتي مثلاً، من أجل استيراد المزيد من الغاز الطبيعي. وعاد الفحم إلى الأسواق وقتها أيضاً.
وقال المؤرخ هينينغ تورك إن الوكالة الدولية للطاقة، التي تأسست عام 1974، بدأت تضغط من أجل العودة لاستخدام الفحم. وتوسع استخدام الفحم داخل دول المجموعات الأوروبية حتى منتصف الثمانينيات، مما يُثبت أن السعي لتحقيق أمن الطاقة لن يؤدي بالضرورة إلى اقتصادٍ أخضر.
ولكن تخمة النفط جعلته جذاباً للمستهلكين مجدداً
ويُمكن القول إن النتيجة الأطول أمداً لصدمة عام 1973 تمثّلت في الكم المهول من مصادر الهيدروكربونات -غير التابعة لمنظمة أوبك- التي ظهرت في أعقاب الأزمة. ونسب الساسة والخبراء ارتفاع أسعار الطاقة آنذاك إلى ندرة الموارد أيضاً، وليس نفوذ منظمة أوبك فقط، بينما انتشرت التكهنات بأن النفط العالمي سينضب عما قريب. لكن العكس هو ما حدث. حيث إن أسعار الطاقة المرتفعة وتشجيع الوكالة الدولية للطاقة دفعا الشركات الدولية إلى ضخ رؤوس الأموال في حقول النفط الجديدة بالأماكن النائية، التي كانت تكلفة التنقيب فيها باهظةً للغاية من قبل.
وبحلول منتصف الثمانينات، وصلت احتياطيات البترول والغاز الطبيعي العالمية إلى مستويات قياسية. ومع دخول مصادر الهيدروكربونات الجديدة إلى السوق، بدأت أسعار الطاقة العالمية في التراجع. ثم انهارت الأسعار عام 1985 فيما عرف بتخمة النفط والتي كانت بمثابة صدمةٍ اقتصادية معاكسة توازي صدمة عام 1973. وتبخرت قدرة أوبك على التحكم في أسعار النفط. وجاء انهيار الأسعار ليقضي على الحوافز القوية التي تشجع على ترشيد الطاقة واستهلاكها بكفاءة أكبر. أي أن تخمة النفط فتحت الباب أمام إمدادات جديدة من الهيدروكربونات، مما قوّض آمال بناء منظومة الطاقة الخضراء التي ظهرت بسبب الصدمة في المقام الأول.
وقد يتكرر هذا الأمر مع الغاز المسال
ونشهد حالةً مشابهة اليوم، إذ إن ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي الأوروبي بستة أضعاف منذ عام 2021 جعل الاستثمار في هذا الوقود مربحاً للغاية. وربما بذلت بروكسل جهودها لتقليل استهلاك الغاز الطبيعي، فضلاً عن الأدلة المتزايدة على أن الغاز الطبيعي ليس صديقاً للمناخ بقدر ما ظن العديد منا، لكن محطات الغاز الطبيعي المسال بدأت تنتشر في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. وتأمل دول الاتحاد الأوروبي حالياً بالحصول على الغاز الطبيعي المسال من الحقول الجديدة في دولةٍ مثل قطر. وربما تساعد أزمة الطاقة الأوروبية الجارية في زيادة اخضرار منظومة طاقتها ببعض الطرق، لكنها يمكن أن تُثبت أقدام البنية التحتية للوقود الأحفوري حول العالم بطرق أخرى وتحديداً من خلال التوسع في الغاز المسال القادم من المناطق البعيدة عن أوروبا.
ويأتي الهجوم الروسي على أوكرانيا اليوم ليُتيح الفرصة من أجل تسريع تحول أوروبا للطاقة الخضراء، عن طريق إضافة مخاوف أمن الطاقة إلى مخاوف الاحترار العالمي. ويُدرك برنامج الاتحاد الأوروبي لتوفير مصادر طاقة بديلة REPowerEU هذا الأمر جيداً. ولهذا يستغل البرنامج الأزمة الجارية لزيادة حوافز ترشيد الطاقة، وإطلاق مبادرات زيادة قدرة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والاستثمار في المضخات الحرارية، وتغيير سلوكيات الناس، من خلال الإقناع الأخلاقي. وصدر تقريرٌ حديث عن الوكالة الدولية للطاقة يكشف أن الهجوم الروسي سرّع بالفعل من وتيرة تراجع الوقود الأحفوري.
وهكذا أدت صدمة النفط لاعتماد أوروبا على أنواع أخرى من الوقود الأحفوري
ومع ذلك فإن صدمة عام 1973 تثبت مدى السرعة التي يمكن أن تفوت بها أوروبا الفرصة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، حيث إن فكرة الاقتصاد الأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة لم تعد قابلةً للتنفيذ بعد عقدٍ واحد من صدمة 1973، نتيجةً لتقلبات الأسواق ولأن الساسة والمنظمات الدولية لم يعملوا من أجل مواصلة التحول في مجال الطاقة.
ونتيجة هذه الصدمة جاءت معاكسة لتوقعات الأوروبيين، حيث حدث توسعٍ كبير في استخدام الهيدروكربونات. ولا شك أن أسعار الطاقة المرتفعة للغاية في أوروبا اليوم تُهدد بالعودة إلى استخدام الفحم، وتسريع أعمال تشييد البنية التحتية الجديدة للغاز الطبيعي خاصة المسال. وسحتاج أوروبا إلى عملٍ سياسي طويل الأمد من أجل حماية أي تقدم يحرزه الاتحاد الأوروبي على صعيد الطاقة النظيفة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
ويمكن تنسيق ذلك العمل السياسي على مستوى الاتحاد الأوروبي. لكن التاريخ أثبت لنا مدى صعوبة أن تتخلى الدول عن سيطرتها السيادية على الطاقة، وأن تسلمها إلى سلطة اتحاد فوق وطني. وربما أصبحت المؤسسات الأوروبية أقوى اليوم، لكن مخاطر التنازع الداخلي لا تزال قائمةً كما تجلى في الخلاف حول طريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع أسعار الغاز الطبيعي المرتفعة.
وتُعتبر الحلول الوطنية التي تحقق أمن الطاقة وتواجه الاحترار العالمي في آنٍ واحد محدودة، خاصةً بالنظر إلى اعتماد أوروبا المستمر على مصادر الطاقة العابرة للحدود. ويحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تضامنٍ حقيقي لإحراز التقدم على صعيد التحول الأخضر، لأن تحقيق حياد الكربون وأمن الطاقة معاً سيُكلّف بعض الدول أكثر من غيرها داخل أوروبا. وستكشف هذه الأزمة في النهاية عما إذا كان المشروع الأوروبي يستحق العناء في الواقع أم لا.