يزداد الجدل بشأن المعاملة غير الإنسانية التي تطبقها بريطانيا على المهاجرين مع تكشُّف الظروف البشعة التي يُحتجزون فيها ضمن مراكز اللجوء قبل ترحيلهم إلى رواندا، فماذا يحدث؟
منذ أن طرحت الحكومة البريطانية استراتيجيتها المثيرة للجدل بشأن ترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء إلى إحدى الدول الإفريقية حتى يتم البت النهائي في أوضاعهم، تتعرض لندن لانتقادات عنيفة من منظمات حقوق الإنسان بشأن المعاملة غير الإنسانية التي يواجهها المهاجرون في مراكز اللجوء البريطانية.
ويحاول رئيس الوزراء الجديد، ريشي سوناك، أن يتفادى عاصفة الانتقادات بشأن هذه القضية، التي تزداد حدتها يوماً بعد يوم، رغم أنه أحد أبناء مهاجرين ومتزوج بابنة ملياردير هندي.
فسوناك، البالغ من العمر 42 عاماً، من مواليد عام 1980 في مدينة ساوثهامبتون، وترجع أصول عائلته إلى الهند؛ حيث هاجر أجداده من ولاية البنجاب الهندية إلى شمال إفريقيا في بداية الأمر، ثم هاجر والداه إلى بريطانيا في ستينيات القرن الماضي. وكان والده يعمل طبيباً بينما كانت والدته تمتلك وتدير صيدلية.
معاناة المهاجرين.. قمة جبل الجليد
لكن يبدو أن ما تم الكشف عنه حتى الآن مما يتعرض له المهاجرون إلى بريطانيا، لا يمثل سوى قمة جبل الجليد، حيث ألقى تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية الضوء على بعض تفاصيل تلك المأساة، وجاء عنوانه: "مهاجرون شبان يصفون الجوع والمرض والصدمة في مراكز اللجوء البريطانية".
محمد، البالغ من العمر 17 عاماً، خرج مترنحاً من فندقه بالقرب من مطار هيثرو وسط أمطار غزيرة يوم الخميس 3 نوفمبر/تشرين الثاني، فيما كان يخطو بنعله الواهي على الأرض الخرسانية المُبتلَّة. وقال للصحيفة الأمريكية إن أسابيع قد مرت منذ أن نام أو أكل بشكلٍ لائق.
عقد ذراعيه وارتجف، ثم حدق في السماء بينما حلقت طائرة في سماء المنطقة. قال إنه قبل نقله إلى الفندق، أمضى 25 يوماً في مركز مانستون للمهاجرين على الساحل الجنوبي الشرقي لإنجلترا.
وصف محمد، وهو من كردستان العراق، متذكراً أيامه في مركز مانستون المضطرب، كيف أُجبر طالبو اللجوء على النوم على الكراسي في درجات حرارة شديدة البرودة، مضيفاً أن كثيرين أصيبوا بالمرض في الخيام المكتظة.
وقال إنه كان يتغذى على القليل جداً وغالباً ما كان يعاني من الجوع، وإن كثيراً من الناس كانوا "قذرين"، لأنه لم يكن من الممكن أن يستحموا بما يكفي، وإنه مُنِعَ من الاتصال بأسرته في العراق لإعلامهم بأنه نجا من رحلة محفوفة بالمخاطر عبر القناة الإنجليزية. ولأنه قاصر، حُجِبَ الاسم الأخير لمحمد؛ لحماية خصوصيته.
كانت الحكومة البريطانية قد أعلنت في أبريل/نيسان الماضي، عن خططها لترحيل المهاجرين واللاجئين قسراً إلى رواندا، في تناقض صارخ مع موقف لندن والعواصم الغربية الأخرى من اللاجئين الأوكرانيين من جهة، وتراجع صريح عن سياسات أوروبية وغربية كانت راسخة على مدى أكثر من 7 عقود.
فالقرار البريطاني، وغيره من القرارات المجحفة بحق اللاجئين، يعتبر تمادياً في عملية تراجع واسع النطاق من قبل الحكومات الغربية عن الوعود الدولية التي ألزمت بها نفسها تجاه اللاجئين، وهي الوعود التي وضعت في العديد من الاتفاقيات الدولية التي صاغتها بالأساس دول غربية.
فعلى مدى أكثر من 70 عاماً، كرس العالم وعداً، في القوانين المحلية والاتفاقيات العالمية، قُطع وطُرح على أنه ذو أهمية كبيرة، مفاده أن أي شخص لا يستطيع العيش بأمان في بلده الأم، يمكنه أن يطلب اللجوء في بلد آخر.
مركز مانستون.. هكذا تعاملهم بريطانيا!
محمد، الفتى العراقي، مجرد واحد من آلاف طالبي اللجوء الذين مروا بمركز مانستون منذ افتتاحه في يناير/كانون الثاني الماضي، وكثير من هؤلاء أطفال دون ذويهم.
وتعرض المركز للاضطراب في الأسابيع الأخيرة، بسبب الادعاءات المتزايدة بشأن الظروف غير الإنسانية، وضمن ذلك الاكتظاظ الشديد، ووجد نفسه في قلب الجدل الساخن حول سياسة الهجرة التي أزعجت حكومة رئيس الوزراء ريشي سوناك الجديدة.
وقالت متحدثة باسم وزارة الداخلية، الجمعة 4 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما طلبت منها صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن ترد على اتهامات بظروف سيئة وخطيرة: "لا تزال مانستون تتمتع بالموارد والتجهيزات".
ومع ذلك، كانت وزارة الداخلية قد قالت الخميس، إنها تتخذ خطوات "لتحسين الوضع على الفور"، مضيفةً أن ألف شخص نُقِلوا من المركز على مدار خمسة أيام. لكن اعتباراً من يوم الخميس، كان مركز مانستون يؤوي ما يقرب من ضعف طاقته.
بُنِيَ مركز مانستون لاستيعاب 1600 مهاجر، ولكن في الأسابيع الأخيرة، كان يؤوي نحو 4 آلاف.
لا يمكن التحقق من رواية محمد بشكل مستقل، لكن تصويره للظروف في مانستون يتوافق بشكل عام مع تقارير التفتيش من مسؤولي الهجرة والمقابلات التي أجرتها صحيفة New York Times الأمريكية مع موظفي المركز الذين تحدثوا إليها.
وعندما عُرضت صور للمنشأة، تمكن محمد من التعرف عليها. كان محمد واحداً من أربعة مراهقين قابلتهم الصحيفة الأمريكية ليسردوا الظروف القاسية في المركز. تحدث محمد بلغته الكردية الأصلية وترجمت الصحيفة روايته.
واطلعت الصحيفة على نصوص لمقابلات أجرتها منظمتان إغاثيتان، هما مجلس اللاجئين وشبكة حقوق الإنسان، مع مراهقين آخرين في مانستون. وصفوا مصاعب مماثلة لتلك التي ذكرها محمد، قائلين إنهم غالباً ما كانوا يعانون من الجوع بسبب نقص الطعام. قال البعض إنهم أُجبروا على النوم في أثناء الجلوس ليلاً بسبب التكدس، وإنهم حُرموا من الرعاية الطبية بسبب نقص العاملين.
قال أحد الأطفال، ويبلغ من العمر 16 عاماً من السودان، إنه قضى ما يقرب من ثلاثة أسابيع نائماً على صناديق طعام مهملة مع طاقم واحد فقط من الملابس المبللة. وهي تجربة، كما أشار، ذكَّرته بالظروف القاسية التي عانى منها بمعسكرات الاعتقال في ليبيا.
قال عن الفترة التي قضاها في مانستون: "كنت أنام في أثناء النهار لأبقى مستيقظاً في الليل، لأنني كنت خائفاً من الكوابيس".
الجوع والحرمان من النوم.. وما خفي أسوأ
شورِكَت مقابلات المنظمتين الإغاثيتين مع صحيفة New York Times دون إرفاق أسماء المهاجرين؛ لحماية خصوصيتهم. وقالت المنظمتان إن معظم المهاجرين يعيشون الآن في رعاية السلطات المحلية بأماكن أخرى في بريطانيا، رغم أن البعض لا يزالون يقيمون بلا مرافق في الفنادق.
تنص القواعد الرسمية لمنشآت احتجاز المهاجرين لفترات قصيرة على أنه من المفترض أن يبقى طالبو اللجوء هناك يوماً واحداً فقط، لكن العديد منهم -وضمنهم الأطفال الصغار- محتجزون في مانستون منذ أسابيع، وفقاً لتقارير التفتيش ومجموعات الإغاثة والمقابلات مع المهاجرين.
اجتاحت الأزمة في مانستون وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برافرمان، التي اتُّهمت بتجاهل التوجيهات القانونية لتخفيف الازدحام وإيجاد سكن لطالبي اللجوء هناك. ونفت هذه الاتهامات في البرلمان يوم الإثنين، لكنها قالت إن نظام اللجوء "معطل".
ويوم الأربعاء، استغل زعيم حزب العمل المعارض، كير ستارمر، هذا التصريح. وفي إشارة إلى أن حزب المحافظين كان في السلطة منذ عام 2010، ضغط ستارمر على سوناك، وقال إنه إذا كان نظام اللجوء قد تعطل بالفعل، "فمن عطّله؟".
زارت برافرمان الموقع يوم الخميس. لم يقتصر انتقاد طريقة تعامل برافرمان مع هذه القضية على معارضي الحكومة. روجر جيل، وهو مشرع من حزب المحافظين تضم دائرته الانتخابية مركز مانستون، اتهم برافرمان بتضليل البرلمان بإنكارها أنها تجاهلت التوجيه القانوني.
في مقابلةٍ يوم الأربعاء، قال إنه يعتقد أن برافرمان منعت بنشاطٍ حجوزات الفنادق للمهاجرين، مما كان سيخفف الضغط على المنشأة المكتظة. وقال جيل لـ"نيويورك تايمز": "كل شيء سار على أكمل وجه من يناير/كانون الثاني وحتى خمسة أسابيع، عندما أصبح برافرمان وزيراً للداخلية".
وفقاً لوزارة الداخلية، عبَر ما يقرب من 40 ألف شخصٍ القناة الإنجليزية على متن قوارب صغيرة هذا العام، وهو أعلى رقم منذ بدء جمع الأرقام في عام 2018. وقد قدم جميعهم تقريباً طلبات لجوء، مما ساهم في تراكم 127 ألف طلب، بحسب الأرقام الرسمية.
خارج فندق المطار يوم الخميس، اجتمع روح الله بيلمسيفار، (28 عاماً)، ورامين كروان (29 عاماً)، معاً في البرد، وكلاهما لا يزال يرتدي بدلات الركض الرفيعة نفسها التي ارتداها بعد وصوله إلى مركز مانستون منذ أكثر من شهر. قالا إنهما كانا صحفيين سابقين من أفغانستان وأظهرا وثائق تفيد بذلك. وقالا إنهما نُقلا من المركز يوم الأربعاء.
وأضاف بيلمسيفار، الذي أشار إلى أنه فر من أفغانستان بعد استيلاء طالبان على السلطة: "لا توجد أسرَّة للنوم. لا طعام. كان هناك كثير من الأطفال". وأضاف أنه كان هناك 200 شخص في خيمة واحدة وأن لكل شخص بطانية واحدة فقط.
عبر ساحة انتظار الفندق، وصف عبد الله محمد، وهو عراقي يبلغ من العمر 25 عاماً، ظروفاً قاسية مماثلة في مركز مانستون. قال محمد: "لا يوجد طعام نأكله، ولا نوم. إنه عذاب نفسي".